أحدث المقالات

أ. مشتاق بن موسى اللواتي

 

مقدّمة

يدور جدل بين بعض الكتاب والخطباء حول واقعة مرور عائلة الحسين(ع) بأرض كربلاء، في العشرين من صفر من سنة 61 للهجرة، أثناء رجوعها من الشام في مسيرة السبي الشاقة المجهدة.

وقد تعددت الأخبار والآراء في هذه القضية، وسنتناول في هذه الأوراق أبرزها، كما سنتطرق إلى المستندات والشواهد التي بنيت عليها، والمناقشات المثارة حولها، وذلك عبر المحاور الآتية:

الأول: شواهد مرورهم بكربلاء

روى الشيخ الصدوق(380هـ) عن فاطمة بنت علي أن الامام علي بن الحسين زين العابدين خرج بالنسوة (من الشام) ورد رأس الحسين إلى كربلاء.

وذكر السيد المرتضى(436هـ) بأنهم رووا أن الرأس أعيد بعد حمله إلى هناك ودفن مع الجسد بالطف.

في حين أن العلامة أبو الريحان البيروني(440هـ) حدد بانه في العشرين من صفر رُد رأس الحسين إلى جثته حتى دفن مع جثته، وأضاف: ومنه زيارة الأربعين، وهم حرمه بعد انصرافهم من الشام (كذا).

وقال السيد ابن طاووس(664هـ): روي لما رجع نساء الحسين(ع) وعياله من الشام وبلغوا إلى العراق، قالوا للدليل مر بنا على طريق كربلاء، فوصلوا إلى موضع المصرع، فوجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري وجماعة من بني هاشم ورجالاً من آل الرسول قد وردوا لزيارة قبر الحسين.

كما أشار المفسر القرطبي(671هـ) إلى اختلاف الناس في موضع الرأس المكرم… وقال: والإمامية تقول: إن الرأس أعيد إلى الجثة بكربلاء بعد أربعين يوما من المقتل. وهو يوم معروف عندهم يسمون الزيارة (فيه، زيارة) الأربعين.

ويلاحظ أن الصدوق والمرتضى لم يحددا تاريخ دفن الرأس في كربلاء. كما أن ابن طاووس لم يحدد تاريخ مجيئ العائلة ولكنه أشار إلى تزامنه مع زيارة جابر الأنصاري. أما البيروني فقد حدد التاريخ بوضوح.

أما واقعة ورود جابر الأنصاري، فقد ذكرها جملة من العلماء، كالمفيد(413هـ) والطوسي(460هـ)، كما رواها مفصلة كل من أبي جعفر الطبري(553هـ) وابو الموفق الخوارزمي(568هـ) بسنديهما عن الأعمش عن عطية العوفي. غير أنهما لم يشيرا إلى رجوع العائلة ولقائها بجابر في نفس اليوم ولم يشيرا بأن زيارة جابر كانت في العشرين من صفر.

فهذه بعض الشواهد المؤيِّدة لاحتمال مرور عائلة الحسين بكربلاء أثناء عودتها من الشام.

الثاني: مرجحات استبعاد مرورهم بكربلاء

نشير إلى أبرز من ذهب إلى هذا الرأي، وإلى أهم مستنداته:

1ـ ذكر كل من الشيخ المفيد والشيخ الطوسي، واللفظ للأول «وفي العشرين منه ـ من صفر ـ كان رجوع حرم سيدنا ومولانا أبي عبد الله الحسين من الشام إلى مدينة الرسول وهو اليوم الذي ورد جابر بن عبد الله الحرام الانصاري(رض) صاحب رسول الله(ص) من المدينة إلى كربلاء لزيارة قبر أبي عبد الله الحسين(ع) فكان أول من زاره من المسلمين، ويستحب زيارته(ع) ». فقد أشارا إلى وقوع تزامن بين رجوع حرم الحسين من الشام إلى المدينة، وورود جابر إلى كربلاء في نفس اليوم.

ويظهر أن كلامهما ينطوي على شيءٍ من الإجمال، فلم يتبين منه إن كان ذلك يوم خروجهم من الشام أو وصولهم إلى المدينة، كما لم يتضح سبب ربط خروجهم ووصولهم المدينة بزيارة جابر الأنصاري للإمام الحسين في يوم العشرين من صفر.

ولعل هذا ما جعل بعض الدارسين يظن بقدوم العائلة أيضاً إلى كربلاء في نفس اليوم ولقائها بجابر هناك وليس وصولها إلى المدينة.

2ـ درس بعض العلماء، الأقوال التي وردت حول واقعة مرور عائلة الحسين بكربلاء في العشرين من صفر، أثناء عودتها من الشام وانتهوا إلى استبعاد وقوع ذلك في ضوء بعض المعطيات التاريخية، وطبقا للمعلومات المتوفرة لديهم حول الطريق وحساب المسافة والزمن.

فقد أشار ابن طاووس(664هـ) إلى كلا الرأيين الآنفين، وذكر أنه وجدهما في بعض المصادر، ولكنه استبعدهما معا، من جهة امكانية وصولهم إلى المدينة أو كربلاء في العشرين من صفر. وأسس ابن طاووس استبعاده على قياس المسافة والزمن اللازمين لذلك. وبناء على أن الوقت الذي احتاجه ابن زياد حتى يحصل على الإذن من يزيد ليحمل اليه السبايا يحتاج إلى عشرين يوما، مضافاً إلى أنه روي بانهم أقاموا في الشام شهراً.

ولكنه لم ينف أصل مجيئهم إلى كربلاء أثناء رجوعهم، وقال في ذلك: «أما جوازهم في عودهم على كربلاء فيمكن ذلك ولكن ما يكون وصولهم إليها يوم العشرين من صفر؛ لأنهم اجتمعوا على ما روي بجابر بن عبد الله الأنصاري، فإن كان جابر وصل زائراً من الحجاز فيحتاج وصول الخبر إليه ومجيئه أكثر من أربعين يوماً، (أو) أن يكون جابر وصل من غير الحجاز من الكوفة أو غيرها». ووافقه كل من المحدث النوري(1320هـ) والشيخ المجلسي(1111هـ) في البحار والشيخ عباس القمي(1259هـ) على النتيجة نفسها.

فقد صرح النوري إن وصول أهل البيت في الأربعين إلى كربلاء على النحو الذي ذكره السيد في اللهوف ينافي أمورا كثيرة وجملة من الأخبار. وينافي تصريح جماعة من العلماء الأخيار. فلم يعرجوا على كربلاء في سيرهم ولم يلتحقوا بجابر ولم يقيموا العزاء. وذكر المفيد والطوسي، إنهم خرجوا يوم الأربعين من الشام لا أنهم دخلوا المدينة كما توهم بعض. وذكر أن بين دمشق والمدينة ما لا يقل عن مسيرة شهر للقافلة خصوصاً تلك القافلة التي كانت تسير بهدوء وقت العودة.

أما وردود جابر الأنصاري فهو أمر منفصل ولا علاقة له بمجيئ أهل البيت إلى كربلاء.

أما المجلسي فقد قال في ذلك: اعلم أنه ليس في الأخبار ما العلة في استحباب زيارته صلوات الله عليه في هذا اليوم؟ (و يعني العشرين من صفر) والمشهور بين الأصحاب أن العلة في ذلك رجوع حرم الحسين صلوات الله عليه في مثل ذلك اليوم إلى كربلاء عند رجوعهم من الشام، وإلحاق علي بن الحسين صلوات الله عليه الرؤوس بالأجساد، وقيل في مثل ذلك اليوم رجعوا إلى المدينة. وكلاهما مستبعد جداً لأن الزمان لا يسع كما يظهر من الأخبار والآثار، وكون ذلك في السنة الأخرى أيضا مستبعد.

واستبعد القمي مرورهم بكربلاء في العشرين من صفر بناء على ما ذكره ابن طاووس، بأن السبايا مكثوا في الشام شهرا، وأن المسافة بين الكوفة والشام تبلغ بالخط المستقيم مئة وخمسة وسبعين فرسخاً وتحتاج إلى ما يقرب من عشرين يوما. علاوة على أن أحداً من علماء الحديث والسير والمقاتل المعتمدة لم يذكرها.

الثالث: نظرة في تحليل ابن طاووس ومن وافقه

اتبع ابن طاووس ـ ومن وافقه ـ أسلوباً نقدياً تحليلياً لهذه الواقعة. وأقام رأيه على عاملي قياس المسافة والزمن وحسب بعض الأخبار التاريخية. واستند تحليله ونتيجته إلى معطيين تاريخيين رئيسين، وهما:

1ـ إن عبيد الله بن زياد انتظر لعشرين يوما لتعليمات السلطة المركزية بالشام حتى يبعث اليها بالرؤوس والعائلة المسبية.

2ـ إن العائلة مكثت في الشام شهراً.

والقول بأن ابن زياد انتظر عشرين يوما حتى تأتيه التعليمات من الشام يؤدي إلى نتائج مخالفة لمختلف المعطيات التاريخية المذكورة. فاذا افترض أنه كتب إلى يزيد يوم الحادي عشر من المحرم فان جواب يزيد مع التعليمات سوف يصله في نهاية شهر المحرم أو قبله بأيام. ومن ثم فإنه يعني أن العائلة المسبية مكثت في الكوفة إلى نهاية شهر المحرم. ويكون وصول السبايا إلى الشام في حوالي العشرين من صفر أو قريباً من ذلك، وليس في الأول من شهر صفر كما ذكرت بعض المصادر.

وبناء على أنهم مكثوا في الشام شهرا أو شهرا ونصف الشهر حسب القاضي النعمان الفاطمي(363هـ). فعليه، لا يمكن أن يكون رجوعهم منها في العشرين من صفر، بل سيكون رجوعهم بعد شهر صفر.

وفي جميع الأحوال، فان ابن طاووس ومن وافقه، لم ينفوا مرورهم بكربلاء نهائيا. إنما استبعدوا أن يكونوا وصلوا كربلاء في يوم العشرين من صفر، وهو استبعاد منطقي حسب المعطيات التي اعتمدوا عليها.

الرابع: مناقشة حجج الاستبعاد

الواقع، إن مصادر التاريخ المعروفة كتاريخ الطبري(310هـ)، لم تبد اهتماماً ملحوظاً حول مسيرة السبايا من الكوفة إلى الشام فضلا عن أن تسرد أخبار مسيرة الركب عند العودة من الشام. فقد اكتفت بذكر بضعة أخبار متناثرة حول رأس الحسين والسبايا في مجلس يزيد وبعض الأحاديث والمواقف التي جرت فيه.

وإذا نظرنا إلى أسباب استبعاد بعض العلماء لوقوع الحادثة نجد أنها تعتمد أساساً على قياس المسافات والزمن وهي قابلة للمناقشة.

وثمة غموض حول فترة مكث العائلة في الكوفة وفترة بقائها في الشام وكذلك حول تاريخ توجه العائلة إلى الشام ومغادرتها لها. وأمامنا بعض الأقوال التاريخية المتعارضة من قبيل انتظار ابن زياد لتعليمات السلطة بالشام، ومن جهة أخرى، إن ركب السبايا وصل دمشق في الأول من شهر صفر. وأنهم مكثوا في الشام شهراً أو أكثر. وفي المقابل، تذكر بعض المصادر أن ابن زياد كان مهتما جدا في تجهيز الرؤوس والسبايا لإرسالها إلى الشام سريعاً. ومن جهة ثالثة تواجهنا بعض الأقوال التي تشير إلى مرور السبايا بكربلاء في العشرين من صفر.

فإذا أمكن معالجة هذا التعارض، ومناقشة معطيات الاستبعاد، فإن احتمالات المرور بكربلاء تغدو واردة.

يلاحظ أن القاضي النعمان أشار إلى مدة مكثهم بالشام، بصيغة التمريض «قيل» والتي توحي بالشك في ذلك.

وما ذكره ابن طاووس من أن ابن زياد انتظر عشرين يوما حتى ترده التعليمات معتمد على الاستنتاج. ومع قبول مبدأ انتظار التعليمات، فإن المدة التي حددها، قاسها على المسافة التي تستغرقها القوافل في سيرها الاعتيادي. والحال إن حركة سير البريد الرسمي ـ الذي كان متطورا في العصر الأموي ـ تختلف عن حركة القوافل.

وإذا افترضنا أن ابن زياد كانت لديه تعليمات مسبقة منذ مقتل مسلم بن عقيل، بإرسال الرأس ونظرا لأنه كان واليا على البصرة والكوفة وذو صلاحيات واسعة، وكان يعرف جيدا مزاج السلطة المركزية في الشام. وعليه فإنه لم يكن بحاجة للانتظار كل تلك المدة لمجيئ التعليمات من الشام. ثم أن الظروف السياسية والأمنية ما كانت تسمح له أن ينتظر طويلا. وهذا يتفق مع ما ذكر السبط ابن الجوزي(654هـ) بأن ابن زياد جهز الرؤوس والسبايا إلى الشام في اليوم الثاني.

فإن فهم كلامه على أن التجهيزات والاستعدادات للتوجه إلى الشام بدت منذ ذلك اليوم، ومن ثم فإنه يعني أن السبايا لم يمكثوا طويلا في الكوفة. وهو أمر احترازي منطقي تفرضه الظروف وطبيعة الحوادث، لتجنب التداعيات الأمنية والسياسية التي تترتب على طول مكث عائلة الحسين بالكوفة. لأنه قد يؤدي إلى تأجيج المشاعر وتحريض الرأي العام ضد السلطة في الكوفة التي كانت تعاني من البطش والإرهاب وكانت تشهد ما يشبه الصدمة لما حدث بالحسين ونسائه. وقد ظهرت ملامح التعاطف مع السبايا في الكوفة، بالأخص بعد خطب الإمام زين العابدين والسيدة زينب. كما أن اعتراض عبدالله بن عفيف الأزدي في مسجد الكوفة ورده الجريء على الوالي ابن زياد وأمام مرأى الجمهور، وما انتهى إليه من اصطفاف جماعة من الأزد معه، كان مشهداً لا ترغب السلطة في تكراره. ولا ريب أن السلطة لا ترغب أن يتنامى السخط وينتشر في المجتمع الكوفي. وهذا الأمر ينطبق أيضا بدرجة أقل على الوضع في الشام ـ على الأقل ـ لأن السبايا هم أحفاد رسول الله(ص). وليس من مصلحة السلطة أن تنتشر تلكم المعلومات لعامة الجماهير.

وإذا كان دخول رأس الحسين إلى دمشق في الأول من صفر، حسب البيروني والكفعمي(905هـ). حيث ذكر البيروني، في اليوم الأول منه ـ من شهر صفر ـ أدخل رأس الحسين مدينة دمشق فوضع بين يدي يزيد ونقر ثناياه بقضيب كان في يده. ويظهر أن ذلك كان مترافقا مع سير ركب العائلة الحسينية.

وإذا افترض أنهم بقوا بالشام مدة قصيرة لا تتجاوز سبعة أو عشرة أيام، فان الأيام المتبقية ربما تكفي لقطع الطريق والمرور بكربلاء، كما نص بعض المؤرخين الآنف ذكرهم.

وخلاصة القول، إذا بنينا على ما يستفاد من بعض المصادر من أنهم لم يمكثوا في الكوفة طويلاً، وأنهم وصلوا دمشق في الأول من صفر، ورجحنا أنهم لم يقيموا في الشام إلا قليلاً، استناداً إلى الأسباب المشار إليها، فإن المرور بكربلاء في شهر صفر لا يكون مستبعداً بل يغدو ممكناً.

الخامس: إشكاليات الطريق وحساب المسافة والزمن

تبين لنا أن أهم حجج الاستبعاد بنيت على معطى الطريق بين العراق والشام وحساب المسافة والزمن الذي تستغرقه القوافل في قطعه، وما إذا كان ذلك ممكنا خلال الفترة المذكورة.

وإذا رجعنا إلى نص ابن طاووس نجده يشير إلى أنهم لما رجعوا من الشام وبلغوا إلى العراق، قالوا للدليل: مر بنا على طريق كربلاء.

وهذا يعني أنهم لما اقتربوا من طريق العراق طلبوا منه أن يمر بهم صوب كربلاء. وهذا ينسجم مع كونهم رجعوا من الشام ومعهم رأس الحسين ليدفنوه عند الجسد حسبما يستفاد من رواية الصدوق وما ذكره البيروني والمرتضى.

وقضية الطرق من الكوفة إلى الشام ومنها إلى العراق او المدينة، كانت تفتقد إلى بحوث في مصادر الجغرافيا التاريخية ومعاجم البلدان والأطالس التاريخية، وكذلك إلى دراسات طوبوغرافية للتعرف على طرق القوافل وعمال البريد ومسارات الجيوش، والمقارنة بينها وصولاً إلى استنتاج الفترة اللازمة لقطعها.

ومؤخراً اتجه بعض الدارسين نحو هذه المقاربات وتوصلوا إلى نتائج مختلفة في هذا المجال، سنشير إليها.

السادس: خارطة السير بين العراق والشام

تجدر الإشارة إلى أن مصادر التاريخ لا تفيدنا بوضوح عن خط سير ركب السبايا من الكوفة إلى الشام ومنها إلى العراق أو المدينة.

وفي هذا الصدد وردنا نص لابن شهرآشوب(588هـ) وهو قوله: ومن مناقبه(ع) (أي الحسين)، ما ظهر من المشاهد التي يقال لها مشهد الرأس من كربلاء إلى عسقلان وما بينهما في الموصل ونصيبين وحماة وحمص ودمشق وغير ذلك. وهو يشير بوضوح إلى المشاهد التي كانت قد بنيت وأقيمت حتى زمانه في المواقع التي وضع فيها الرأس الشريف.

كما ذكر علي بن أبي بكر الهروي(611هـ) في كتابه «الإشارة إلى معرفة الزيارة» عددا من مشاهد الرأس بين العراق والشام وهي: مسجد الحنانة بالعراق ومشهد الموصل ومشاهد نصيبين (و هي مدينة تركية) بها مشهد الرأس ومشهد النقطة ومشهد بالس / مسكنة وهي أول بلدة من بلدان الشام، بها مشهد الطرح ومشهد الحجر، ومشاهد جبل الجوشن في حلب، به مشهد رأس الحسين أو مشهد الدكة، ومشهد حماة ذكره ابن شهرآشوب ومشهد حمص، ذكره ابن شهرآشوب، ومشهد بعلبك لم يذكره الهروي، غير اسمه ولا يزال الناس تطلق عليه اسم مسجد أو مشهد رأس الحسين ومشهد الرأس في دمشق ذكره الهروي وابن عساكر.

وحسب بعض الباحثين أنها تؤشر إلى بعض المنازل والمحطات التي كان الركب يقف فيها للاستزادة من الماء وأخذ قسط من الراحة.

واستطاعوا من خلال تتبع سير هذه المشاهد للرأس الشريف أن يرسموا خارطة لمسيرة ركب السبايا من العراق إلى الشام.

واستبعد الشيخ الريشهري أن يكون هذا هو خط سير قافلة السبايا لافتقاره إلى مصدر معتمد يعضده، ولأنه أبعد الطرق ولا يمثل طريقاً طبيعياً لأن يسلكه ركب السبايا. واحتمل أن تكون المشاهد من جراء تطواف الرأس وحده في البلدان بأمر السلطة بعد وصول العائلة إلى الشام. أو أن يكون مبعثها بعض الدوافع الرمزية والتذكارية أو اعتماداً على منامات.

والواقع لو كان مشهدا أو اثنين في طول الطريق لأمكن الميل إلى هذا التفسير، ولكن من الصعوبة إرجاع هذه السلسلة المترابطة من المشاهد إلى هذه الافتراضات التي هي الأخرى لا تستند إلى دليل. فلا يبعد أن إقامة بعضها ـ على الأقل ـ استند إلى الذاكرة الجمعية للجماهير وتناقلتها عبر الأجيال. ويؤيد ذلك ما ذكره ابن شهراشوب عن قصة الرأس مع راهب في صومعته في منزل يقال له قنسرين.

وتصدى الشيخ الكرباسي، للبحث في مصادر الجغرافيا التاريخية ودرس طوبوغرافية الطرق بين الكوفة والشام وبين الشام وكربلاء ومنها إلى المدينة. كما درس المدة التي تحتاج القوافل في حال سيرها الطبيعي المعتاد، لقطع الطريق من بلد إلى آخر، وكذلك المدة الإجمالية.

ورجح ـ بالاستناد إلى خط السير السابق ـ أن ركب السبايا غادر الكوفة في التاسع عشر من المحرم ووصل الشام في الأول من صفر، واستغرق المسير مدة 13 يوماً.

وأكد على أن القوم سلكوا عند الذهاب، الطريق الطويل الآهل بالمدن والسكان، وذلك لأسباب أمنية وسياسية وكيدية. وانطلاقاً من نشوة الانتصار ولترهيب الناس وتخويفهم، بالإضافة إلى ترويع العائلة الكريمة.

ومع اختلاف الباحِثَين المذكورَيْن في جزئية الطريق الذي سلكه ركب السبايا من الكوفة إلى الشام، إلا أنهما اتفقا على وجود ثلاثة طرق بينهما، أحدها أطول من الآخرين، بالإضافة إلى وجود طرق فرعية أخرى. وإذا كانت بعض تلكم الطرق موجودة آنذاك، فإنها تشكل عاملاً قوياً مؤيداً لمرورهم بكربلاء يوم الأربعين.

وقد أرفق الباحثان مجموعة من الخرائط والجداول البيانية الموضحة لذلك.

والطريق الطويل كان يوازي نهر دجلة ويمر بتكريت فالموصل ثم يميل إلى سنجار ومنها إلى نصيبين وعين الوردة ومنها إلى حلب على مقربة من جبل جوشن ثم قنسرين ومنها إلى حماة وحمص وبعلبك فدمشق.

وقدّر الكرباسي أنهم غادروا الشام في الحادي عشر من صفر، وسلكوا أقصر الطرق عبر بادية الشام، وقطعوه خلال تسعة أيام وصولا إلى كربلاء في العشرين من صفر.

وسبب اختيارهم للطريق القصير هذه المرة، لأن مهمتهم تقتصر على إرجاع العائلة إلى المدينة ولم يكن لديهم أي هدف سياسي أو إعلامي، بل تقتضي مهمتهم عدم إلفات الأنظار تجنبا لسخط الجماهير.

وبقيت العائلة في كربلاء عدة أيام ثم توجهت نحو المدينة حيث وصلها الركب في الثامن من ربيع الأول. وبهذا فإن مسيرة السبي من كربلاء إلى الكوفة ومنها إلى الشام ثم منها إلى كربلاء وأخيراً إلى المدينة استغرقت حوال 57 يوماً.

 

استخلاص ورأي

ذكرنا مراراً، أن هناك مساحات مسكوت عنها في مصادر التاريخ، فرضتها قواعد الاجتماع السياسي. وأن الرواة والمؤرخين يخضعون لمختلف النزعات والضغوط بالإضافة إلى العوارض البشرية. غير أن ذلك لا يوصد أبواب البحث والدراسة والتحليل أمام الباحثين للوصول إلى نتائج مستكنة.

وقد بينت الدراسة المذكورة أعلاه، العوامل التي قدّرت على أساسها مدة مكث ركب السبايا في الكوفة وتاريخ مغادرته لها.

ولكن من جهة أخرى، لم يتبين لنا بنفس الوضوح، الأساس الذي حددت في ضوئه الفترة التي قضاها الركب في الشام، وتاريخ مغادرته لها. ومع تطرقها إلى بعض الأسباب المتسقة مع السياق التاريخي، إلا أن محاولة التوفيق بين بعض الأقوال تبدو وكأنها هيمنت على مسار البحث.

وقد ظهر أن هناك اتجاهين مغايرين أحدهما استبعد مرور السبايا بكربلاء، استناداً إلى بعض المعطيات التاريخية والميدانية المتوفرة لدى أصحابه.

وأخذ هذا الرأي ينتشر ويثير ظلال الشك حول الواقعة، مما دفع بعض الدارسين لمقاربة القضية من منظور مختلف. واستطاعوا معالجة أبرز إشكالية تمسك بها الاتجاه الأول.

وتم تكييف هذه المعطيات في سياق تأييد مرور العائلة بكربلاء عند العودة.

ومع وجود الفراغات في الرواية التاريخية، تبقى بعض الأسئلة قائمة، ومن المنطقي أن تتعدد مقاربات البحث حولها بين الدارسين، وقد تنتهي إلى نتائج متفاوتة.

وكيف ما كان، فإن الواقعة ذكرت في بعض المصادر وتؤيدها بعض الشواهد، ولا تبدو مستبعدة.

أهمّ المصادر

1 ـ أبو جعفر الصدوق، الأمالي.

2 ـ المرتضى، رسائل الشريف المرتضى.

3 ـ أبو الريحان البيروني، الآثار الباقية عن القرون الخالية.

4 ـ رضي الدين ابن طاووس، الملهوف.

5 ـ محمد بن أحمد القرطبي، التذكرة بأحوال الموتى وأمور أخرى.

6 ـ أبو الموفق الخوارزمي، مقتل الحسين.

7 ـ محمد بن محمد النعمان المفيد، مسار التشيع.

8 ـ رضي الدين ابن طاووس، إقبال الإعمال.

9 ـ حسين النوري، اللؤلؤ والمرجان.

10 ـ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار.

11 ـ عباس القمي، منتهى الآمال.

12 ـ أبو حنيفة النعمان المغربي، شرح الأخبار.

13 ـ السبط ابن الجوزي، تذكرة خواص الأمة.

14ـ ابن شهراشوب، المناقب.

15 ـ جعفر المهاجر، موكب الأحزان.

16 ـ محمد الريشهري، الصحيح من مقتل سيد الشهداء.

17 ـ محمد صادق الكرباسي، دائرة المعارف الحسينية.

18 ـ فوزي السيف، مجلس 13 محرم لعام 1042 هجرية، سفر الركب من كربلاء.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً