محمد عبّاس دهيني
تعريف العَدْل
أفضل التعريفات الاصطلاحيّة التي ذُكرَتْ للعدل هو أنّه «إعطاءُ كلِّ ذي حقٍّ حقَّه». وهو يتناسب مع المعنى اللغوي (المساواة)([1]) من حيث إنّه تسويةٌ بين أصحاب الحقوق في إعطاء كلٍّ منهم ما يستحقّه. إذن هو تسويةٌ في الإعطاء، لا في (المُعطى).
ويختلط الأمر على بعض الناس فيظنّون أنّ العدل هو المساواة في (المُعطى). والحقُّ أنّ المساواة ـ وهي إعطاءُ الآخر بمقدار ما تعطي غيره ـ تختلف عن العَدْل، بل قد تنافيه أحياناً؛ فهل من العَدْل أن نعطي للصغير والكبير نفس الكمِّية من الطعام مثلاً؟! هل من العدل أن نعطي جميع الموظَّفين راتباً واحداً؟!… نعم، قد يمكننا في بعض الحالات الجمع بين العَدْل والمساواة، ولكنَّ ذلك غيرُ مطلوبٍ، وليس بواجبٍ، فالمهمُّ في تحقيق العَدْل أن أعطي صاحب الحقّ حقَّه، وأيُّ زيادةٍ على ذلك هي مَحْضُ تبرُّعٍ وتفضُّلٍ، وليست واجبةً.
أنواع العَدْل
تتجلّى العدالة ـ كما الظُّلْم ـ في علاقاتٍ عديدة: 1ـ علاقة الله بعباده وعلاقة المخلوقات بالله؛ 2ـ علاقة البشر فيما بينهم؛ 3ـ علاقة البشر مع الحيوانات وعلاقة الحيوانات مع البشر؛ 4ـ علاقة الحيوانات فيما بينها؛ 5ـ علاقة الإنسان مع الطبيعة وعلاقة الطبيعة مع الإنسان. ورُبَما أمكن تصوُّر علاقاتٍ أخرى، وقد تندرج في ما تقدَّم.
وبما أنّ حديثنا عن العَدْل في العلاقة بين الله ومخلوقاته ـ ولا سيَّما الإنسان ـ فإنّنا نترك الحديث في غيرها إلى مجالاتٍ أخرى.
العدل الإلهيّ مع الإنسان
وكما أنّ الإنسان مطالَبٌ بأن يكون عادلاً مع الله، فيوفِّيه حقَّه من الشكر والطاعة والعبادة، ومَنْ لم يفعل ذلك فقد ظلم نفسه؛ لأنّه لا يضرّ الله شيئاً، فاللُه لا ينتفع بشيءٍ من عبادتنا، وإنّما هي حقوقٌ له تبارك وتعالى، ومنفعتها تعود علينا لا غير، ولذلك قال جلَّ وعلا: ﴿وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (البقرة: 57؛ الأعراف: 160)، كذلك فإنّ من المتوقَّع أن يعمّ العدل الإلهيّ أرجاء هذا الكَوْن، ومنه: حياة الإنسان.
معنى العدل الإلهيّ
1ـ العدل ضدّ الظلم
عندما نتحدَّث عن العدل الإلهيّ، ويُقال: إنّ انقساماً حادّاً وقع بين المسلمين في مسألة العدل الإلهيّ، فلا نعني أبداً أنّ بعض المسلمين ينسب الظُّلْم إلى الله تبارك وتعالى، كيف والقرآن الكريم يصرِّح في كثيرٍ من الآيات بـ ﴿أَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ﴾ (آل عمران: 182؛ الأنفال: 51؛ الحجّ: 10)؛ ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (النحل: 118)؛ ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ (هود: 117)؛ و﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (التوبة: 70؛ العنكبوت: 40؛ الروم: 9)، ﴿وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾ (الكهف: 49)!!
ومع وفرة الآيات القرآنيّة التي تثبت العَدْل الإلهيّ وتؤكِّده لا حاجة إلى الروايات (أي السُّنَّة)، التي لا تعدو كونها أخبار آحاد، معرَّضةً للدسّ والوَضْع، والتحريف والتصحيف، حيث تُنْقَل بالمعنى عادةً، وهو ما يعرِّضها لتشويهٍ كبير وخطير في بعض الأحيان. نعم، نلجأ إليها حين نفقد النصّ القرآنيّ الواضح والصريح، وليس الأمر كذلك هاهنا.
2ـ العدل بمعنى الأمر بالحَسَن أو فعله، والنهي عن القبيح أو تركه (قاعدة الحُسْن والقُبْح العقليّين)
وإنّما يقع الخلاف في أنّ الأفعال بحدّ ذاتها تتّصف بالحُسْن والقُبْح أو لا، وهل يمكن للعقل بنفسه، وبدون الاعتماد على المصادر الشرعية (الكتاب والسنّة)، أن يميِّز الحَسَن من القبيح، فيحكم بلزوم الإتيان أو الأمر بالحَسَن، ولزوم الترك أو النهي عن القبيح؟
وقد ذهب العَدْليّةُ (الشيعة والمعتزلة) إلى أنّ العقل قادرٌ على ذلك، وأنّ حكم الله لا يختلف عن حكم العقل في هذا المقام.
بينما ذهب (الأشاعرة) إلى قاعدة الحُسْن والقُبْح الشرعيّين، بمعنى عجز العقل عن معرفة الحَسَن والقبيح، بل ليس هناك أفعالٌ حَسَنة وأخرى قبيحة، وإنّما الحَسَن ما يفعله الله أو يأمر به، والقبيح ما يتركه الله أو ينهى عنه.
والدليل على العَدْل بمعانيه الصحيحة (العدالة في مجال التكليف؛ العدالة في مجال الحكم والقضاء بين العباد؛ العدالة في مجال تنفيذ المجازاة ثواباً وعقاباً)، وفي جميع مظاهره، هو أن صفات الله الذاتية (العلم، الحكمة، القدرة والاختيار، الإرادة) تقتضي أن تكون أفعاله تعالى حكيمةً وعادلة، ولا توجد في الله تعالى أيّ صفةٍ تقتضي الظُّلْم والجَوْر، أو اللَّغْو والعَبَث.
ممهِّداتٌ لردّ الشُّبُهات
اقتضَتْ حكمةُ الباري جلَّ وعلا ومصلحة البشر النوعيّة أن يكون الإنسان خليفة الله في هذه الأرض، هذا الكوكب المكوَّن من اليابسة والماء والمؤلِّف من طبقاتٍ تشتدّ حرارةً كلّما أوغلَتْ في العمق، وذلك من أجل أن تكون صالحةً لحياة هذا المخلوق من طينٍ، وهو (آدم× وذُرِّيته).
إذن لا بُدَّ من الانطلاق من هذه الفكرة، بل الحقيقة، وهي أنّ الحياة الدنيا للإنسان لا تنفكّ عن ارتباطٍ ما بالمادّة، وهذا هو أفضلُ نظامٍ لحياة كائنٍ بالخصائص التي يتوافر عليها هذا المخلوق المكرَّم.
وبما أنّ للعلاقة بالمادّة ضريبتها لا بُدَّ للإنسان أن يؤدّي هذه الضريبة من راحته، وأمنه، ورخائه، وسعادته، و…
وهنا ينفتح بنا البحث على مسألةٍ في غاية الأهمّية لبيان حقيقة ما يصيب الإنسان في هذه الحياة الدنيا، ألا وهي القضاء والقَدَر الإلهيّين.
1ـ القضاء والقَدَر، والفَرْق بينهما
لقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ (الرعد: 39) علاقةٌ وثيقة بـ (القضاء) و(القَدَر). وهما من المفاهيم الغامضة والملتبِسة على كثيرٍ من الناس، فلا يميِّزون بين (القَدَر) و(القضاء). ومن هنا ينسبون كلَّ مجهولٍ ومَخوف ومُصيبة إلى (القَدَر)؛ بينما ينسبون الخَيْر إلى الحظّ والنصيب. فما هو (القضاء)؟ وما هو (القَدَر)؟ وما هو الفَرْق بينهما؟ وما هي علاقة القضاء والقَدَر بهذه الآية الكريمة؟
لا يزال مفهوم (القَدَر) مُبْهَماً ومُلْتَبِساً عند كثيرين. كما نشهد خَلْطاً واضحاً بين مفهومَيْ القضاء والقَدَر؛ حيث قد يُعرَّف (القَدَر) بأنّه المحتَّم من الله، أو الذي لا مَهْرَب منه. وكذلك هناك خلطٌ بين مفهومَيْ القضاء والقَدَر من جهةٍ، ومفهومَيْ الجَبْر والاختيار من جهةٍ أخرى؛ حيث يُقال أحياناً في تعريف (القَدَر): الإنسان مخيَّرٌ أو مسيَّرٌ.
ولتوضيح كلِّ هذه المفاهيم ننقل قصّةً حصلَتْ مع أمير المؤمنين عليّ%، حيث رُوي أنّه% مرَّ يوماً تحت حائطٍ مائل، فأسرع في المَشْي، فقيل له: أتفرّ، يا أمير المؤمنين، من قضاء الله تعالى؟ فقال%: «نعم، أفرُّ من قضاء الله إلى قَدَره»([2]). فما الذي نستطيع أن نفهمه من هذا الجواب؟
بشكلٍ مختصر، وبيانٍ سريع، نقول: لقد أراد أمير المؤمنين% أن يميِّز بين دائرتين: دائرة النتيجة (المعلول)؛ ودائرة المقتضِيات والشروط والموانع (العلّة التامّة).
والعلّة التامّة تتشكَّل من ثلاثة أجزاء: المقتضي؛ والشرط؛ وعدم المانع. فما تسمعونه من أنّ النار هي علّة الاحتراق ليس صحيحاً. فإذا كان لديّ ورقةٌ في يدي اليمنى وحملتُ عود الثقاب المشتعل في يدي اليسرى، فلن تحترق الورقة، مع أنّ النار موجودةٌ، فكيف تكون النار علّةً للاحتراق؟!
النار هي مقتضٍ للاحتراق، وهو الجزء الأوّل من العلّة التامّة.
والجزء الثاني هو توفُّر الشرط، وهو أن أقرِّب النار من الجسم (الورقة).
والجزء الثالث هو عدم المانع (عدم الرطوبة مثلاً)، أي أن لا تكون الورقة رطبةً مثلاً، فحينها لن تتأثَّر بالنار، ولن تحترق.
إذا اجتمعَتْ هذه الأجزاء الثلاثة تحقَّقت العلّة التامّة للاحتراق، وسيحصل لا محالة.
نعود إلى كلام أمير المؤمنين%: «أفِرُّ من قضاءِ الله»، أي من دائرة النتيجة. فالإنسان إذا بقي واقفاً تحت الحائط المائل المتهالِك الواقِع لا محالة فهذا يعني أنّه سيلقى المصير المحتوم، وهو الموتُ المسبَّب عن سقوط الجدار. فهل يمكن للإنسان أن يخرج من هذه الدائرة؟
ليس للإنسان أن يخرج من دائرة القضاء المحتوم، أي أن يقف تحت الجدار، ثمّ يسقط عليه، ولا يموت، ولكنْ بوُسْع الإنسان أن لا يدخُلَ في تلك الدائرة من الأساس، بل يبقى في دائرة المقتضِيات والشروط والموانع، يُعدِم المقتضِيات، ويمنع توفُّر الشروط، ويوجد ويكثِّر الموانع.
فمثلاً: الموت حقٌّ، ولكنَّ للموت أسباباً كثيرة (تعدَّدت الأسبابُ والموت واحدٌ). فهناك الموت بسبب السقوط من شاهقٍ؛ وهناك الموت بسبب الاصطدام بسيّارةٍ؛ وهناك الموت بسببٍ ثالث ورابع وخامس و…
فشَرْطُ القسم الأوّل من الموت أن يعتليَ الإنسان شاهقاً، وأن لا يكون هناك حاجِزٌ وسياجٌ يقيه من السقوط.
وبإمكان الإنسان أن يتجنَّب هذا النوعَ من الموت، ويبتعد عنه، من خلال عدم توفير الشرط، فلا يتسلَّق شاهقاً، ومن خلال جعل المانع، فلا يسير إلاّ خَلْفَ السياج المانع من السقوط، وحينها لن يُصيبَه هذا القسمُ من الموت.
وعندما توجَد المقتضِيات، وتتحقَّق جميع الشروط، وترتفع جميع الموانع، تكون النتيجة الحَتْميّة التي لا مفرّ منها حينئذٍ؛ إذ قد تحقَّقَتْ العِلّة التامّة، والمعلول لا يتخلَّف عن عِلَّتِه أبداً.
وعليه نقول: دائرة المقتضِيات والشروط والموانع هي دائرةُ (القَدَر). ومن هنا فهي ليست دائرةَ الحَتْم والإبرام، وإنّما هي قابلةٌ للتبدُّل والتغيُّر، بحَسَب ما يختاره الإنسان ويقوم به، أو بحَسَب ما يجتمع من شروطٍ وموانع تقتضيها علاقة المادّيّات ببعضها.
وإلى هذه الدائرة يشير قوله تعالى: ﴿يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ (الرعد: 39)؛ ففي هذه الدائرة يمحو الله بعض المقدَّرات، ويثبت أخرى؛ ولهذا سُمِّي هذا اللَّوْح بـ (لَوْح المَحْو والإثبات).
وأمّا (أمّ الكتاب) أو (اللَّوْح المحفوظ) فهو لَوْح النتائج النهائيّة التي لا تبديل لها، والله سبحانه وتعالى يعلَمُها، ويعلم زمانها، وكلَّ ما يتعلَّق بها. وهذا هو لَوْح أو دائرة (القضاء).
2ـ الجَبْر والاختيار
وأمّا مفهوما الجَبْر والاختيار فهما مفهومان آخران. وقد كثُر الكلام فيهما بين العلماء:
فمنهم مَنْ قال بأنّ الإنسان مخيَّرٌ بالمطلَق، وكأنّه ليس لله عليه سلطةٌ أو قُدْرةٌ.
ومنهم مَنْ قال بأنّ الإنسان مُجْبَرٌ على أفعاله، ولا يصحّ نسبةُ أيِّ فعلٍ إليه، فكلُّ ما يصدر عنه إنّما يكون خارج إرادته واختياره، فلا ينبغي أن يُحاسَب على فعله. وقد استفاد السلاطينُ والطغاة وأهلُ الجَوْر من هذا المفهوم أيَّما استفادة، حيث كانوا ينسبون ظلمهم وعدوانهم وبَغْيهم إلى الله جلَّ وعلا، ويدرؤون بذلك عن أنفسهم أيَّ لومٍ أو عتاب أو عقاب.
ولكنّ مدرسة أهل البيت^ اختارَتْ رَأْياً وَسَطاً، وهو الصحيحُ المحسوس، ألا وهو الأمر بين الأمرَيْن: «لا جَبْر، ولا تفويض، بل أمرٌ بين أمرَيْن»([3]).
وهذا ما يشعر به الإنسان في حياته. فهو قادِرٌ على أن يصلِّي؛ وقادرٌ على أن يقتل. فهو يفعل ما شاء منهما باختياره، ولكنّه في نفس الوقت لا يستغني في قُوَّة جَسَده، التي تجعله قادراً على كلا الفِعْلَيْن، عن الله عزَّ وجلَّ، الذي شاء له أن يفقدها في بعض المحطّات، كالمَرَض، لإذكاء شعور الحاجة والنقص والضعف فيه، فلا يذهبَنَّ بعيداً عن الله جلَّ وعلا.
وعليه فهذا الإنسان مُجْبَرٌ، بمعنى أنّه لا حَوْل له ولا طاقة ولا قوَّة إلاّ بمقدار ما أمدَّه اللهُ بها، ولولا هذه القوّة لما قتل وسرق وظلم و…؛ وهو مختارٌ، بمعنى أنّه في حال قوَّته يفعل ما يريد، وما ترغب فيه نفسه، ويتحمَّل مسؤوليّة عمله يوم القيامة.
وخلاصةُ الكلام: إنّ (القَدَر) هو دائرة المقتضِيات، وساحة الشروط والموانع، يتقلَّب فيه الإنسان من حالٍ إلى حال، وتتفاعل المادّيات فيما بينها. فإذا وُجد المقتضي، وتوفَّرَتْ الشروط، وارتفعَتْ الموانع، فقد تشكَّلَتْ العِلّة التامّة للنتيجة ـ المعلول، التي لن تتخلَّف، وستكون حَتْماً مقضيّاً، وتلك هي دائرة (القضاء)، الذي لا مَرَدَّ له.
فهل يستطيع الإنسان أن يتحكَّم بهذه الأمور كلِّها، وبالتالي يُغيِّر قَدَره؟
3ـ قدرة الإنسان على تغيير قَدَره
ثمّة جوابٌ ذكيٌّ ولطيف يذكره بعض الناس، وهو أنّ الإنسان يستطيع تغيير قَدَره بالتقرُّب إلى الله بالوَعْي. فالوَعْيُ والتعقُّل والتبصُّر والتأمُّل والتدبُّر كلُّها طرقٌ إلى الإحاطة بأسرار وخصائص بعض الأعمال، وقيمتِها في التأثير على النتائج. وبمقدار ما يكتشف الإنسان هذه الأسرار فإنّه يمتلك مفاتيح التغيير والتبديل في دائرة المقتضِيات والشروط والموانع، فيتغيَّر الحكمُ، وتتبدَّل النتيجة.
وكما هو واضحٌ فإنّ هذا لا يعني أنّه يمكن للإنسان أن يغيِّر (القضاء)، كيف وقد ورد في دعاء الإمام الحسين× في يوم عَرَفة: «الحمد لله الذي ليس لقضائه دافعٌ»([4])، وكذا ورد في دعاء الإمام عليّ بن الحسين× في دعاء عَرَفة مخاطِباً الله عزَّ وجلَّ: «ولا رادّ لقضائه»([5])؟! ولكنْ يمكن للإنسان أن يُجنِّب نفسَه الوصول إلى النتيجة الحَتْميّة التي لا يريدها، بأن لا يسلك الطريق الموصِل إليها، ومن خلال التحكُّم في الشروط والموانع ذات الأثر الكبير في ذلك الحُكْم النهائيّ والنتيجة الحَتْميّة.
ولا بُدّ من الاعتراف بصعوبة تغيير (القَدَر)، ولكنّه ليس مستحيلاً، بل قد جاء في الشريعة الإسلاميّة المقدَّسة إشارةٌ إلى بعض الأعمال التي من شأنها أن تُطيل في العُمْر، أو تُوسِّع في الرزق، أو…، وهو يعني أنّها تُغيِّر وتُبدِّل في دائرة الشروط والموانِع، لتكون النتيجة مختلفةً عمّا كانت عليه لولا تلك الأعمال، ومن هذه الأعمال: الصدقة؛ صلة الرَّحِم؛ برّ الوالدين؛ القول الحَسَن؛ الوضوء قبل الطعام وبعده…، إلخ.
العَدْل الإلهيّ، شُبُهاتٌ وردود([6])
وأهمُّ هذه الشُّبُهات ما يلي:
1ـ كيف تتلاءم الفروق والاختلافات الموجودة في المخلوقات، وخاصّةً البشر، مع العدل والحكمة الإلهيّة؟ ولماذا لم يخلق الله الحكيم العادل المخلوقات جميعاً بصورةٍ متساوية؟
والجواب: إن اختلاف المخلوقات في المعطيات الوجوديّة أمرٌ لازم لنظام الخلق، وخاضع لقوانين العِلِّية والمعلوليّة الحاكمة على ذلك النظام. وافتراضُ تساويها هو افتراضٌ ساذج.
ولو تأمَّلْنا جيّداً في ذلك لأدرَكْنا أن هذا الافتراض يعني ترك الخلق؛ لأنّه لو كان أفراد البشر رجالاً أو نساءً لما تحقَّق التوالد والتناسل أبداً، ولانقرض النوع الإنساني.
ولو كانت المخلوقات جميعاً من نوع الإنسان لما وَجَدَ شيئاً للغذاء، أو ما يوفِّر له سائر متطلَّباته وحاجاته.
وكذلك لو كانت جميع الحيوانات والنباتات نوعاً واحداً، وبلونٍ واحد، ولها صفاتٌ وخصائص واحدة، لما وُجِدَتْ كلّ هذه الفوائد والمعطيات التي لا تحصى، والمناظر الخلاّبة الجميلة.
وظهورُ هذا النوع أو ذاك من الظواهر بهذا الشكل أو ذاك، وهذه الصفات أو تلك، خاضعٌ للعوامل والظروف والشروط المتوفِّرة في مسيرة حركة المادّة وتبدُّلها، وليس لأحدٍ قبل خلقه حقٌّ على خالقه، يفرض عليه تعالى طريقة خلقه، بأن يخلقه بهذه الصورة أو تلك، وفي هذا المكان أو ذاك، أو في هذا الزمان أو ذاك؛ ليكون هناك مجالٌ للعدل والظلم.
2ـ إذا كانت الحكمة الإلهيّة مقتضية لحياة الإنسان في هذا العالم إذن لماذا يُميته بعد ذلك، ويُنهي حياته؟
والجواب: أوّلاً: إن حياة الموجودات أو موتها في هذا العالم خاضعٌ أيضاً للقوانين التكوينية، وعلاقات العلّية والمعلولية، وهي لازمةٌ لنظام الخلق.
ثانياً: إذا لم تمُتْ الموجودات الحيّة فسوف لن تتوفَّر الأرضيّة لوجود الموجودات اللاحقة، وبذلك يُحْرَم القادمون والأجيال اللاحقة من نعمة الوجود والحياة.
ثالثاً: إذا افترضنا استمراريّة الحياة للبشر جميعاً فسوف لن يمضي زمانٌ طويل إلاّ ونرى الأرض كلَّها قد امتلأت بالناس، وتضيق عليهم الأرض برحبها، ليتمنّى كلُّ واحدٍ منهم الموت؛ لما يشعر به من متاعب وألمٍ وجوع.
وبعبارةٍ أخرى: سؤالٌ يطرح نفسه بقوّةٍ هاهنا: الموت نعمةٌ أو نقمةٌ؟ قد يُقال بتسرُّعٍ: الموتُ نقمةٌ، وهو فراقُ الأحبّة.
وهنا جملةٌ من الأسئلة قد تغيِّر قناعةَ ذاك القائل:
1ـ ماذا لو شاخ الإنسان كثيراً، حتّى بلغ أرذل العمر، وأصبح لا يقوى على قضاء حوائجه بنفسه، ويريد الاستعانة بالآخرين، وهكذا تراكمَتْ الأجيال إلى جانب بعضها، وكلُّها يحتاج إلى مَنْ يخدمه ويرعاه، فهل يمكن لجيلٍ واحد (الشباب) أو جيلين (الشباب والكهول) خدمة كلّ الأجيال السابقة؟! أتكون الحياة عندئذٍ نعمةً أو نقمةً؟! وهل يبقى الموت نقمةً عندئذٍ؟!
2ـ ماذا لو عاش الإنسان في صحّةٍ وعافية، وهكذا توالَتْ الأجيال في وفرة من النِّعَم الإلهيّة، فهل ستَسَعُهم الأرض جميعاً؟! وهل ستكون حياتهم مستقرّةً، بعيداً عن المشاكل والصراعات والاستئثار بالأموال والممتلكات والثروات ـ الطبيعيّة وغيرها ـ؛ بحكم الأسبقيّة والأقدميّة؟! فهل يمكن أن تُعَدَّ الحياة، مع ذلك الاكتظاظ، وفي تلك الصراعات والنزاعات، خيراً من الموت؟!
3ـ ماذا لو بقيَتْ الأجيال الأولى، وهي بدائيّةٌ، حيّةً إلى يومنا هذا، وأصرَّتْ على الحياة كما اعتادَتْ في بداية وجودها، فهل سترضى الأجيال الحديثة بالحياة البدائيّة؟! أو فقُلْ: هل كنّا سنصل إلى ما وصلَتْ إليه البشريّة اليوم من تقدُّمٍ وتطوُّرٍ؟!
رابعاً: إن الهَدَف الأصلي من خلق الإنسان هو الوصول إلى السعادة الأبديّة، وإذا لم ينتقل الناس من هذا العالم إلى الحياة الأخرى بالموت فلن يمكنهم الوصول إلى ذلك الهدف النهائيّ. ولعلّ هذا ما تشير إليه الآية الكريمة، حيث تقول: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ (الملك: 2).
3ـ كيف يتلاءم وجود كلّ هذه المصائب والأمراض والكوارث الطبيعية (السيول والزلازل و…)، والمتاعب الاجتماعية (الحروب وألوان الظلم المختلفة)، مع العدل الإلهيّ؟
أو فقُلْ: هل ينسجم حصول الزلازل والبراكين والفيضانات والأعاصير، التي تفتك بحياة البشر والنباتات والحيوانات وجمال الطبيعة، مع عقيدة العدل الإلهيّ؟
أو فقُلْ: أليس من العدل الإلهيّ الواجب المحافظة على جمال الطبيعة، وحياة الكائنات الحيّة؟
والجواب: أوّلاً: إن الحوادث الطبيعية المؤلمة ملازمةٌ لأفعال العوامل المادّية وانفعالاتها وتصادمها والتزاحم بينها، وبما أن خيرات هذه العوامل أكثر من شرورها لذلك لا تكون مخالفةً للحِكْمة.
وإنّ ظهور المتاعب والمفاسد الاجتماعية ممّا يقتضيه كون الإنسان مختاراً، وهو مقتضى الحِكْمة الإلهيّة.
ومن الملاحظ أن فوائد الحياة الاجتماعية وإيجابياتها أكثر من مفاسدها. ولو كانت المفاسد هي الأكثر لما بقي إنسانٌ على وجه الأرض.
وتفصيل ذلك: إنّ من السُّنَن الإلهيّة الجارية على الإنسان في هذه النشأة الدنيا (البلاء). وهو يصيب كلَّ الناس على اختلاف بلدانهم وألوانهم ومناصبهم. فما من إنسانٍ إلاّ ويتعرَّض للبلاء في يومٍ من الأيّام. والبلاءُ هو الامتحان والاختبار، ولكنّ هذا لا يعني أنّه لا يكون عقاباً وجزاءً لفعل السوء. فقد يكون البلاء امتحاناً لإيمان الإنسان وصبره وتحمُّله لما يقدِّره الله عليه، وهذا هو البلاء من غير معصيةٍ أو جريرةٍ؛ وقد يكون امتحاناً لحسّ التوبة والنَّدَم والرجوع إلى الصراط المستقيم، وهو البلاء بعد عِصْيانٍ وتمرُّدٍ، وكُفْرٍ وجُحودٍ، فيذكِّره الله بضعفه وحاجته، وأنّ له خالقاً وربّاً يرعاه، ولا غنى له عن ربوبيّته، لعلّه يثوبُ ويرجع إليه.
وعندما يبتلي اللهُ الإنسان بأيِّ نوعٍ من البلاء عليه أن يعود إلى نفسه، فيحاسبها؛ فإنْ كان قد ارتكب إِثْماً فعليه أن يستغفر الله منه، ويتوب إلى الله توبةً نَصُوحاً لا عَوْدةَ بعدها إلى مثله، ويبرِّئ ذمَّته من تَبِعاته، حينها يعود طاهرَ الفؤاد، نقيَّ السريرة، سليمَ الإيمان، تقيَّ العمل، فيستحقَّ مغفرةَ الله ورحمتَه، والخلاصَ من عذابه وعقابه.
ولقد حدَّثنا القرآن الكريم في أكثر من آيةٍ عن السبب في ظهور الفساد والمصائب في الحياة الدنيا، فقال: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ (الشورى: 30)؛ وقال: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (الروم: 41).
إذن هو ما يجنيه الإنسان على نفسه؛ من خلال إساءته للطبيعة من حوله، فهل ذاك الثقب الذي يتوسَّع يوماً بعد آخر في طبقة الأوزون سوى نتاجٍ طبيعيّ لهذا التلوُّث البيئيّ الذي أوجده الإنسان؟!
ومن خلال إساءته إلى نفسه، بتركه لتشريعات الله عزَّ وجلَّ، وهو الخبير العليم بما يُصْلِح الإنسان وما يُفْسِده، وقد شرع له من الدِّين ما فيه كلَّ الخير والصلاح، وأمره باتّباعه، فتركه؛ تمرُّداً وعصياناً واجتراءً على الله، فأصابَتْه الأمراض والأوبئة، كالسرطان (الموادّ الحافظة، والروائح الخبيثة في المراحيض([7])، واللحوم غير المذكّاة، و…)، والإيدز (العلاقات غير المشروعة)، والسارس (أكل لحم القطط، ووصل بهم الأمر أن يأكلوا الأجنّة)، و…
وأمره بولاية أولياء الله ـ وهم الأنبياء والأوصياء^، الذين لم يُقصِّروا في إدارة شؤون العباد والبلاد ـ فتركهم إلى حكّامٍ ظالمين، أهل فسقٍ وفجورٍ، وفسادٍ عظيم، لا يرتدعون عن مُنْكَرٍ، ولا يردعون أتباعهم عنه، فعمَّتْ الفوضى (بناء عشوائي، سرقة ماء، سرقة كهرباء، خرابٌ في الطرقات، رشاوى في كلّ مكان)، وحصلت الكوارث (حوادث السير، الفيضانات والسيول، الحرائق، نفايات في الطرقات)، وانتشر الفساد (القتل، والزِّنا، والسرقة، و…). في الدول المتحضِّرة وُضعت قوانين صارمةٌ، بعد سلسلةٍ من الخطوات الإصلاحيّة، وقد حالَتْ هذه القوانين دون استشراء الفساد والفوضى، ولو إلى حدٍّ ما.
كما أنّ بعض الظواهر الطبيعيّة ضروريّةٌ لحماية الأرض من الفناء، وبقائها بحيث يمكن للإنسان أن يحيا على ظهرها. فالبراكين، أو الزلازل، والتي قد تتسبَّب بفيضانات هائلة (تسونامي)، هي في الظاهر شرٌّ وضَرَرٌ على الإنسان، ولكنّها شرٌّ شخصيّ أو فئويّ، في حين أنّها في الحقيقة خيرٌ نوعيٌّ للبشر جميعاً؛ إذ إنّ الكرة الأرضيّة تفيد كثيراً من هذه الظواهر، حيث تحافظ على حرارتها، فلا ترتفع إلى المستوى الذي تنعدم فيه الحياة عليها، ولا تتشظّى بانفجارٍ ضخم جرّاء الضغط الهائل في باطنها، وإنّما تتخلَّص من هذا الضغط بالتدريج عبر الزلازل، وتخفض حرارتها بانفجار البراكين، فتكون نجاة البشريّة من كارثةٍ محتومةٍ.
نعم، قد يتضرَّر منها فئةٌ قليلة من الناس، ممَّنْ يعيش في مناطق الزلزال أو البركان، ولكنّ ضَرَراً محدوداً خيرٌ من ضَرَرٍ عامّ تفنى جرّاءه البشريّةُ بأكملها. كما أنّه يمكن لهؤلاء أن ينتقلوا من مكانهم، ويتخلَّصوا من هذا الخطر بقليلٍ من الحيطة والحَذَر.
وكثيراً ما يخال الإنسان أنّ بعض الأعمال والحوادث شرٌّ؛ اعتماداً منه على ظاهر حالها، ولكنّها تكون في الحقيقة خيراً مَحْضاً. وهذا ما صوَّره لنا القرآن الكريم في قصّة العبد الصالح (الخضر)، الذي خرق سفينة أولئك المساكين، فعابها ظاهراً، ولكنّه حفظها لهم، من أن تمتدّ إليها يدُ الملك الظالم الغاصب لأموال الناس. وكذلك قتل غلاماً، ظاهر حاله أنّه بريءٌ، ولكنّ الواقع أنّه سوف يتسبَّب بشقاء أهله، فكان قتلُه خيراً في حقيقته، وإنْ كان قبيحاً في الظاهر.
إذن هو العَدْل التامّ في التشريع والتكوين معاً، غير أنّ تكوين بعض المخلوقات يجعلها عرضةً للخَطَر والأَذَى، فالنملة الصغيرة تعيش على الأرض؛ لمصلحتها، ومن الطبيعيّ أن تدفع ضريبة ذلك، فتكون عرضةً للموت سَحْقاً تحت أقدام البشر والحيوانات.
ثانياً: إنّ وجود هذه المتاعب والكوارث والمصائب تدفع الإنسان من جهةٍ إلى البحث عن معرفة أسرار الطبيعة والكشف عنها، وبذلك تظهر الثقافات والكشوفات والصناعات المختلفة. ومن جهةٍ أخرى فإنّ خَوْض هذه المتاعب ومواجهتها وعلاجها له دَوْرٌ كبير في تنمية الطاقات والاستعدادات ورُشْدها وتفجيرها، وفي تكامل الإنسان ورُقِيِّه وتقدُّمه.
وأخيراً فإنّ تحمُّل أيّ مصيبةٍ أو ألمٍ، والصبر عليه، إذا كان لتحمُّله ما يبرِّره من مبرِّراتٍ صحيحةٍ ومشروعةٍ، سوف يكون له الثواب الجزيل في العالم الأبديّ، وسوف لا يذهب هَدْراً، بل يتمّ جبرانه بصورةٍ أفضل.
4ـ كيف يتلاءم العذاب الأبديّ للذنوب المحدودة والمؤقَّتة، التي يرتكبها المذنبون في هذا العالم، مع العدل الإلهيّ؟
الجواب: هناك علاقةُ علّيةٍ بين الأعمال الحَسَنة والقبيحة وبين الثواب والعقاب الأخرويّين، وقد كشف عنها الوَحْي الإلهيّ، ونبَّه الناس عليها. وكما أننا نلاحظ في عالم الدنيا أنّ هناك بعض الجرائم تعقبها آثار سيّئة تمتدّ طويلاً، رغم قصر مدّة الجريمة، كما لو فقأ الإنسان عينه هو، أو عيون الآخرين، فأعماها، فإنّ هذا الفعل يتمّ في مدّةٍ قصيرة جدّاً، ولكنّ نتيجته ـ وهي العمى ـ تمتدّ إلى نهاية العمر، فكذلك الذنوب الكبيرة لها آثارها الأخروية الأبديّة، وإذا لم يوفِّر الإنسان في هذه الدنيا مستلزمات جبرانها، (كالتوبة مثلاً) فإنّه سوف يعيش آثارها السيِّئة وإلى الأبد. فكما أن بقاء عمى الإنسان إلى نهاية العمر؛ بجريمةٍ لم تستغرق إلاّ لحظةً واحدة، لا ينافي العدل الإلهيّ فكذلك الابتلاء بالعذاب الأبديّ؛ بسبب ارتكاب الذنوب الكبيرة، لا ينافي العدل الإلهيّ؛ لأنه نتيجة الذنب الذي ارتكبه المُذْنِب عن سابق وَعْيٍ وإصرارٍ.
كما أنّ لبعض الذنوب، التي يحسبها البعض محدودةً، آثاراً تمتدّ مع الأجيال، ومنها: القتل بغير حقٍّ، فقد قال جلَّ وعلا: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً﴾ (المائدة: 32). فمَنْ يقتل نفساً بريئةً فهو بفعله هذا يشجِّع الناس على القتل، ويسنّ هذه السنّة السيِّئة، وعليه وِزْرُها ووِزْرُ مَنْ عمل بها إلى يوم القيامة، فهو شريكٌ في كلّ دمٍ يُسْفَك إلى يوم القيامة، وبالتالي لن يبقى عمله (ذنبه) محدوداً ومؤقَّتاً، ويقرب إلى الذِّهْن تصوُّر عقابه الطويل يوم القيامة.
5ـ هل من العدل الإلهيّ أن يتساوى الصالح والطالح في المصير، فيصيران إلى حفرةٍ واحدةٍ متشابهةٍ؟
الجواب: قد يتساوى المُحْسِن والمُسِيء في الدنيا، بل قد يتقدَّم المُسِيء على المُحْسِن في تحصيل بعض لذائذها، ونَيْل بعض مشتهياتها، ثمّ يصيران إلى حفرةٍ واحدةٍ متشابهةٍ.
ولكنْ هل الموت هو نهاية الحياة، أو هو بابٌ يدخل منه الإنسان إلى حياةٍ أخرى، هي الحياة الحقيقيّة؟
إنّ فَهْمَنا لحقيقة الموت يحلّ لنا هذا الإشكال.
فوفق نظريّة الدهريّين، الذين أنكروا المعاد يوم القيامة، ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ﴾ (الجاثية: 24)، المُحْسِن في هذه الحياة الدنيا هو الخاسر الأكبر، إذ سيعيش الحرمان، ثمّ يتساوى مع المُسِيء في المصير.
ولكنْ وفق النظريّة الدينيّة الصحيحة، التي تؤكِّد البعث والنشور والرجوع إلى الله للحساب، وما الموت فيها إلاّ بابٌ إلى دار القرار: ﴿إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾ (غافر: 39)، فالمُحْسِن هو الرابح مهما اشتدَّتْ معاناته في هذه الحياة الدنيا، التي مهما طال أمدها لا تلبث أن تنتهي، وينتقل المرء إلى حيث الجزاء، ولا مجال للعمل والتزوُّد من جديدٍ. فالمُحْسِن فاز بإحسانه، والمُسِيء قد فاته الوقت للتعويض. وتلك هي العدالة الحقيقيّة.
الهوامش
([1]) راجِعْ: ابن فارس، معجم مقاييس اللغة 4: 246.
([2]) ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللآلي 4: 111.
([3]) الكليني، الكافي 1: 160؛ الصدوق، التوحيد: 362.
([4]) عليّ بن طاووس، إقبال الأعمال 2: 74.
([6]) مستوحاةٌ من كتاب دروس في العقيدة الإسلامية، للشيخ محمد تقي مصباح اليزدي (مع إضافاتٍ).
([7]) قال الشيخ المفيد في المقنعة: 39: ومَنْ أراد الغائط فليرتَدْ موضعاً يستتر فيه عن الناس بالحاجة، وليغطِّ رأسه إنْ كان مكشوفاً؛ ليأمن بذلك من عبث الشيطان، ومن وصول الرائحة الخبيثة أيضاً إلى دماغه، وهو سنّةٌ من سنن النبيّ|.