المنهج والخصائص والمقارنات
مقدّمة ـــــــ
بعد الانشقاق الذي شهدته الفلسفة والمتمثل بافتراق الفلاسفة المسلمين إلى فرقتين: المشائية والإشراقية، واعتماد كلّ فرقة منهما عُنصراً خاصّاً علي الرغم من القصور الذي يستبطنه كلّ عُنصر من ذينك العنصريْن، الأمر الذي ألحّ على إيجاد صيغة أو معيار شامل وجامع من أجل الوصول إلى الحقائق.
وبهدف تبيين قصور العُنصر الخاصّ لكلّ فرقة، نرى ضرورة مناقشة بعض الأمثلة حول جنوح أصحاب تلك المدارس في بعض الموارد وإن احتسبت جزئيّةً، حتى مع احتمال ترجيحهم ـ ولو نظرياً ـ العُنصر الخاص المتعلّق بمدرستهم والذي يستند إلى العقل أو العرفان أو المكاشفة، وردّ ما سواه، لكنّهم مع ذلك استفادوا من عناصر أخرى ـ عن وعي وقصد أو لا ـ مُعتمدين على تلك العناصر للوصول إلى الواقع.
ولإزالة تلك الإشكالية همّ الشيرازي بإنشاء مدرسة تتّخذ على عاتقها بيان نقائص العقل وقصوره من جهة، وفي المقابل توضيح قصور العرفان والمكاشفة والوحي من جهة أخرى. مع التأكيد على وجوب الاستعانة بالعُنصرين بغية الوصول إلى الحقيقة كما هي. وبعد أن تمّ له إنشاء تلك المدرسة، تجلّت ملامحها مع مرور الوقت أكثر فأكثر، حتى أضحت اليوم من أكثر المدارس أهمية وتأثيراً في مجال الفلسفة في العالم الإسلامي، وما زالت تفيض بالفائدة والعلم على الفلاسفة والمفكّرين حتى يرووا ظمأهم من مبادئها أملاً في الوصول إلى الحقيقة. من هنا، لابدّ لنا من الإشارة ـ ولو بإيجاز ـ إلى الأسلوب الذي وضع الشيرازي أساسه من أجل فهم أفضل لمبادئ تلك المدرسة.
مفهوم الحكمة المتعالية: تكوّن المصطلح وتبلور المنهج ــــــــ
1 ـ «الحكمة المتعالية» هو الاسم الذي أطلقه الحكيم والفيلسوف صدر الدين محمّد بن إبراهيم الشيرازي المعروف بـصدر المتألّهين ( 979 ـ 1050هـ/ 1571 ـ 1640م) على الفلسفة التي وضع أسسها بنفسه. وقد وردت هذه التسمية قبل ذلك في كلام الشيخ الرئيس ابن سينا والمحقّق الطوسي أيضاً، وقد دعا صدر المتألّهين كلّ ما كتبه حول النظام الفلسفي الذي ابتدعه بالحكمة المتعالية. ولم يأت اختياره لهذا الاسم اعتباطاً أو صدفة، فما هو العامل الذي يقف وراء ذلك؟ وهل المُراد بالحكمة المتعالية تلك الفلسفة الإلهيّة التي تسمّى بـ (الفلسفة الأولى)، أم المراد بها الإشارة إلى فلسفة مُبتدعة، أم أنّ لها معنىً ثالثاً؟
إذا ما راجعنا حالات استخدام هذا المصطلح في مؤلفات الشيرازي وابن سينا والطوسي، وتأمّلنا في بداياته وجذوره في كلام العرفاء والحكمة الإشراقية، يتّضح لنا أنّه يشير إلى معنىً أوسع ومغزى أشمل من الفلسفة الخاصّة بالشيرازي وأقلّ شموليّة من (الفلسفة الأولى). ولمّا كان الشيرازي يعتبر آراءه مصداقاً للحكمة المتعالية فقد أطلق على كتابه التسمية المذكورة. وقد جاءت كلمة (الحكمة المتعالية) أربع مرّات([1]) على الأقل في كتاب الأسفار، وإذا وضعنا كلام الشيرازي إلى جانب أقوال ابن سينا([2]) والطوسي في باب الحكمة المتعالية، فلن يبق لدينا أدنى شكّ في أنّ الشيرازي إنّما استخدم هذه العبارة بالاستناد إلى خلفيّتها؛ بمعنى أنّه اختار هذا الاسم لكتابه مُستنداً في ذلك إلى مفهوم كان موجوداً قبل ذلك، وليس الفلاسفة من قبله فحسب، بل حتى الشيرازي نفسه كان يستخدم هذه العبارة في فلسفته قاصداً من ورائها الإشارة إلى مفهوم أوسع وأشمل.
بعد هذه المقدمة، وقبل الدخول في جوهر البحث، لا مناص من أن نذكر مرّة أخرى أنّ استخدام الشيرازي لمصطلح (الحكمة المتعالية) ومنشأه يقودنا إلى أحد احتمالات ثلاثة تالية:
1 ـ أن يكون المقصود البحوث الخاصّة بالميتافيزيقيا (ما وراء الطبيعة) بشكل كامل، وهو ما دعا الشيرازي إلى إطلاق هذا الاسم على كتابه الأسفار الأربعة باعتباره كتاباً فلسفيّاً.
2 ـ المراد بذلك الفلسفة المبتدعة الخاصّة بالشيرازي، فيكون هذا الاسم اسماً خاصّاً بفلسفة مُعيّنة ومُقتصراً عليها.
3 ـ أن يكون مفهوماً أوسع من هذا وذاك.
وبغضّ النظر عن الاسم الذي أطلقه الشيرازي على كتابه، فإنّ ما وقعنا عليه حتى الآن من العبارة التي استخدمها مع الفيلسوفين اللذين سبقاه هو أنّ (الحكمة المتعالية) عبارة عن مجموعة من المعارف الفلسفيّة يصعب بلوغها باعتماد البحوث العلميّة والبراهين العقليّة فحسب، بل لابدّ إلى جانب ذلك من الاستعانة بالمكاشفة والذوق للوصول إلى مثل تلك المعارف. ومن البديهي أن يكون هذا التعريف للحكمة المتعالية تعريفاً منهجيّاً، وفي إطار هذا التعريف والمعاني الأخرى التي أشرنا إليها سلفاً، فإنّ (الحكمة المتعالية) تُمثل اسماً مشتركاً لكتاب، لفلسفة خاصّة، لمدرسة فلسفيّة شاملة تتّسم بطابع خاص وأسلوب مميز في نيل المعارف والحقائق. من هنا لا يمكن إطلاق هذه التسمية على النظام الفلسفي الخاص بالشيرازي؛ لذا سنجعل فرضيّتنا التعريف المنهجيّ للحكمة المتعالية، أي أنّه من الآن فصاعداً سنقوم بالبحث في منهجية تلك المدرسة وأسلوبيتها، وسنركّز موضوع بحثنا على منهجيّة الحكمة المتعالية النابعة في الواقع من نوع خاص من المعرفة، حيث يرى فيلسوفنا الشيرازي أنّ فلسفته تستلهم من أصول تلك المنهجيّة.
منهج الحكمة المتعالية ـــــــ
بدايةً، وللإحاطة بالمنهج الذي وضعه الشيرازي لفلسفته مستخدماً المنظومة المعرفية التي يؤمن بها، لابدّ لنا أولاً من الفصل بين البعدين: السلبي والإيجابي في كلامه، حيث يسعى في البعد السلبي إلى استجلاء مواطن الضعف في الأساليب المتّبعة في معرفة حقائق العالم أو قصور تلك الأساليب في تفسير ذلك كلّه.
أ ـ المنهج السلبيّ ـــــــ
1 ـ عدم كفاية العقل للوصول إلى جميع الحقائق. 2 ـ قصور العرفان في بيان الحقائق. 3 ـ السطحيّة الظاهرة في التعاطي مع الشريعة (عدم التعقّل).
ب ـ المنهج الإيجابيّ ـــــــ
توضيح دور العقل والوجدان العرفاني والتمهيد لطريق البرهان. ومن أجل تكوين فكرة عامة وشاملة عن مصنّفات الشيرازي وبالتبع الوقوف على منهجه بشكل أوضح في تدوين كتبه وبخاصّة مؤلّفه الشهير: (الحكمة المتعالية)، لابدّ من تحديد التسلسل الزمني لمؤلّفاته وحلّ إشكالية ترتيب آرائه. لذلك نتناول أوّلاً هذه المسألة قبل غيرها.
السيرورة التاريخية لأعمال الشيرازي ــــــــ
للقيام بهذا الأمر، يُمكن تصنيف مؤلّفات الشيرازي إلى ست فئات، تتداخل فيما بينها أحياناً، بينما يدخل بعضها الآخر في أكثر من تصنيف واحد:
1 ـ المؤلّفات التي أشار فيها إلى عمره حيث يمكن التخمين من خلالها إلى أنّ الشيرازي ربّما يكون قد دوّنه في تلك السنّ من حياته. وعلى هذا الأساس، فقد صنّف كتابه (المبدأ والمعاد) في سنّ الأربعين، وتفسير (الطارق) في سنّ الخمسين، و(المشاعر) في سنّ الثامنة والخمسين… وهكذا دواليك.
2 ـ المؤلّفات التي أشار فيها إلى تأريخ انتهائه من تأليفها وكتابتها أو تأريخ البدء بها، حيث يمكن افتراض أنّ الكتاب بأكمله قد تمّ تصنيفه ضمن ذلك التأريخ، مثل (تفسير آية النور) و (سورة يس) و(تفسير سورة الطارق) التي ألّفها وهو في الخمسين من عمره، و (المشاعر) في سنّ الثامنة والخمسين..
3 ـ المؤلّفات التي تحمل قرينة على كتابتها في مرحلة محدّدة أو فترة خاصة، وهي:
أ ـ رسالة في سريان الوجود: حيث يبحث فيها عن معيار وجود الأشياء وهي تتناغم تماماً مع منهج الفيلسوف (ميرداماد) حيث لا أثر في تلك الرسالة لأصالة الوجود؛ لذا نستطيع القول بأنّ تاريخ تصنيفها يرقى إلى الفترة التي كان يؤمن فيها الشيرازي بأصالة الماهيّة، وبذلك فإنّ تلك الرسالة مُتقدّمة زمنياً على بقيّة مُصنّفاته التي أشرنا إليها، ويؤيد ذلك قول الشيرازي نفسه من أنّه كان يؤمن بدايةً بفكرة أصالة الماهيّة ثم انتقل إلى القول بأصالة الوجود([3]).
ب ـ كتاب الأسفار الذي يظهر من قوله ـ كما في مقدّمة (المبدأ والمعاد) ـ أنّه ألّفه قبل هذا الأخير، أي بعد سنّ الأربعين من عمره.
ج ـ المؤلّفات التي لم يسعفه الزّمن لإتمامها، وتشمل: شرح أصول الكافي وتعليقة على كتاب (الشفاء) والتفسير الكبير، وهو تفسير تسلسلي ترتيبيّ يبدأ من أوّل القرآن الكريم حيث يشمل سورة الحمد وسورة البقرة (إلى الآية: 65). وبعد مراجعة المجموعتين الأوليين من مؤلّفاته والمجموعة الرابعة، نقف على حقيقة أنّ المؤلّفات الثلاثة الأخيرة هي آخر الرشحات التي جاد بها قلم الشيرازي وهي بالطّبع تتضمّن آخر نظريّاته الفلسفية. ويؤيّد هذا الاحتمال أنّه (الشيرازي) اعتاد على الإشارة في هذه الكتب إلى كتبه الأخرى وليس العكس، إلاّ في موضعين اثنين: في العرشيّة والتعليقة على حكمة الإشراق؛ حيث يشير إلى تفسير سورة الحمد وهو ما يمكن تبريره أيضاً.
د ـ المؤلّفات التي ذُكرت فيها أسماء مؤلّفات أخرى أو أُشير إليها وليس العكس. بعبارة أخرى: المؤلّفات التي أُشير فيها من طرف واحد بحيث يُمكن التخمين بأنّ الكتاب الذي يُشير إلى المرجع هو كتاب متأخر عن المرجع. فمثلاً، في تعليقته على كتاب (الشفاء) يُشير الشيرازي إلى كتابه (العرشيّة).
وبالتالي يُمكن الاستنتاج بأنّ التسلسل الزمني للمؤلّفات المذكورة من المتقدّم إلى المتأخر هو كالآتي: 1 ـ المبدأ والمعاد. 2 ـ الشواهد الربوبية. 3 ـ رسالة في الحدوث. 4 ـ تعليقة على حكمة الإشراق. 5 ـ مفاتيح الغيب. 6 ـ العرشيّة. 7 ـ التفسير الكبير وتعليقة على (الشفاء).
5 ـ المؤلّفات التي تتضمّن إحالة متبادلة ولكن بنُدرة. ونقصد بالإحالة المتبادلة إشارة كل من الكتابين للآخر؛ حيث يشار في موضع ما إلى الأوّل وفي الثاني إلى الآخر.
6 ـ المؤلّفات التي تتضمّن إحالة متبادلة لكن بشكل مكثف وإلى مصادر متعدّدة. وتشمل هذه المجموعة فقط كتاب (الأسفار) وهو أكثر كُتب الشيرازي تفصيلاً وإسهاباً، وقد تكررت كثيراً عبارته: (كتابنا الكبير المسمّى بالأسفار) ويتضمّن جميع آرائه في الحكمة وهو مرجعها الأصليّ، ولذلك نجده يشير إليه في معظم مؤلّفاته، حتى زاد ذلك على مائة موضع، وأغلبها إحالات من جانب واحد.
وحيث انتهى الشيرازي من تأليف (الأسفار) قبل (المبدأ والمعاد)، فمن البديهي أن يبدو تعذّر ترتيب إحالاتها المتبادلة كما هي الحال في المجموعة الخامسة، حيث تزامن التأليف، بل إنّ ذلك يعني أنّ (الأسفار) وحتى بعد الانتهاء من تأليفه، لم يختمه بالكامل بل كان يُنقّحه من حين إلى آخر ويُدخل عليه تعديلات مختلفة. فمثلاً عندما كان يكتب رسالة أو كتاباً جديداً ويبيّن فيه موضوعاً أو مسألة بشكل أكثر تفصيلاً ووضوحاً ممّا في (الأسفار)، كان يُشير إليه في كتاب الأسفار ويُحيل إليه. أو كما هي الحال مثلاً مع مسألة اتّحاد العاقل والمعقول التي كانت بالنسبة إليه مسألة غير محلولة أثناء تأليفه كتاب الأسفار (قبل سنّ الأربعين)، لكن بعد العثور على حلّ، وضع ذلك في مكان مناسب من الكتاب المذكور، أو كان أحياناً يغيّر مواضع بحوثه. وفي ضوء الفوضى التي تكتنف تبويب موضوعات كتاب الأسفار أو في ترتيب فصوله أو إدراج البحوث تحت هذا الفصل أو ذاك، يُمكننا أن نفترض أنّ ترتيب كتاب (الأسفار) بهذا الشكل النهائي الذي نراه، لم يكن فعلاً الترتيب المنطقي المنسجم الذي أراده الشيرازي؛ إذ كان من الصعوبة بمكان فعل ذلك بعد أن قام بختمه.
المنهج الأسلوبي عند الشيرازي ـــــــ
إذا كان لنا الحق أن نفهم موضوعات (الحكمة المتعالية) بشكل دقيق، فلابدّ أولاً من إلقاء نظرة شاملة على أسلوب بيان الموضوعات في منهج الشيرازي وذلك قبل الخوض في الموضوعات نفسها. فضلاً عن معرفة ترتيب المؤلّفات. ويمكننا تلخيص أسلوب الشيرازي في جُملة الخصائص التالية:
1 ـ في البداية يطرح الشيرازي المسألة للنقاش بحسب المذاق السائد آنذاك ثم يبدأ بالدّفاع عنها، وبعد أن يقوم بتهيئة المتلقي، وفي نهاية البحث أو في موضع آخر يعرض فكرته مدعّمة بالأدلّة والبراهين([4]). فمثلاً يقوم في البدء بالدفاع عن أهمّ استدلال للمشائين والمتعلّق بنفي الماهيّة عن الواجب بالذات، لكنّنا نراه في بحوثه التالية ينبري لنقد كلّ ذلك بالاستناد إلى أصالة الوجود واعتبار الماهيّة. ولذلك لا يجب اعتبار هذا الاختلاف في الرأي ـ والذي درج عليه بوصفه منهجاً ثابتاً في بيان آرائه ـ تناقضاً في أفكاره أو تعارضاً بين آرائه، ومن ثمّ رميه بالهذيان والخلط.
2 ـ بخلاف الفلاسفة الماضين ممّن سبقوه وكانوا يهتمّون بجوهر القضية الفلسفيّة وإثباتها والدّفاع عنها وينصرفون عمّا سواها من القضايا الجانبية الثانويّة.. كان الشيرازي إلى جانب اهتمامه ونفوذه في أعماق القضية ودراستها بدقّة،ينقل أقوال السّلف ـ في الكثير من بحوثه ـ ويحلّل ويناقش أقوال المعارضين، بحيث أصبح كتابه (الأسفار) وبعض مؤلّفاته الأخرى ولو بشكل أقلّ، يعجّ بمضامين فلسفيّة عميقة من حيث المقارنة بين جوهر القضايا الفلسفيّة، حتى أضحى في مصافّ الموسوعات، بل أضحى له دور رئيس في تاريخ الفلسفة. فمثلاً، فيما يتعلّق بدفع الإشكال المثار حول الوجود الذهنيّ لا يكتفي الشيرازي بذكر جوابه على الإشكال المذكور، بل يناقش كذلك آراء ابن سينا والقوشجي والسيد الصدر والعلامة الدواني و..
3 ـ كان الشيرازي يحمل رؤية إيجابية ومتفاءلة حيال فلاسفة اليونان والرّوم القدماء وكان يعتبرهم أصحاب الأنبياء والسّلف، وبالتالي فهم موحّدون ومتديّنون بكلّ ما للكلمة من معنى، ويمثلون الحكمة الأصيلة. من هنا نجد أنّه غالباً ما كان يدافع عن نظرياتهم ويبرّر لهم آراءهم ما كان إلى ذلك سبيل، كي تبدو ـ حسب اعتقاده ـ خالية من أيّ إشكال أو شبهة.
4 ـ كان يُطلق كلمة (فيلسوف) أو (حكيم) تعظيماً وتفخيماً لمن يمتلك القدرة على تحليل المسائل الفلسفيّة، والذي يخوض في الفلسفة بأسلوب استدلالي متكامل، كما هي الحال مع الكندي والفارابي وابن سينا وبهمنيار وغيرهم، وفي المقابل كان يُطلق كلمة (المُتفلسف) على بعض المتكلمين بقصد التجريح والنقد، ولتنبيههم إلى ضرورة أن يمتلكوا القدر الذهنيّ الكافي لتحليل المسائل الفلسفيّة. لذلك لا نلحظ في أيّ من كتبه إشارة إلى ندمه أو رجوعه عن الاشتغال بالفلسفة أو تتبّع وبحث كلمات الفلاسفة والحكماء، لكنّه يندم بشدّة على قضاء قسط من عمره في دراسة آراء المتفلسفة وتعلّم أساليبهم في البحث([5]).
5 ـ في العديد من المواضع يستشهد بالآيات أو الأحاديث أو أقوال العلماء وآراء كبار الفلاسفة أو المكاشفات وأقوال العرفاء، لتأييد نظرية ما، وقد يفرد أحياناً فصلاً كاملاً أو جزءاً كبيراً من الكتاب لهذا الغرض. وهذا الاستشهاد إمّا أنّه لمجرّد التأكيد على النظرية المذكورة أو لإزالة الدّهشة ودفع الإنكار لدى المخاطب فيما يتعلّق بالنظريّات التي تُخالف إجماع الحكماء أو تعارض الرأي المشهور.
٦. دأب الشيرازي على تكرار المسائل المهمّة في مناسبات مُختلفة وغالباً ما يكون ذلك بعبارات متنوّعة. وقبل أن يصل إلى موضع طرح مسألةٍ ما يُشير إلى مدّعاه وأحياناً إلى نتائجه ويعد بإثباته في المستقبل، وفي معرض إثباته ـ ولأهميّة المسألة ـ نراه يُشير ويتحدّث عن ذلك في أيّة مناسبة تُتاح له. أمّا ميزة ذلك ـ كما هي الحال في بعض الأحيان ـ فتتمثل في أنّ العبارات متمّمة لبعضها البعض وهذا ما ينتج ـ من ثمّ ـ فهماً أدق وأعمق للموضوع؛ وأمّا عن إشكاله فيكمن في صعوبة تساوق تلك العبارات وانسجامها، ممّا يتسبّب في حيرة المبتدئين حتى ليُقال: إنّه يناقض نفسه أحياناً.
٧. على الرّغم من أنّ (الأسفار) يُعتبر أكمل كتاب له وهو بعد مصدر آرائه وأفكاره، وهو ما يدفع المرء ليتوقعه الكتاب الأشمل الذي يتضمّن أدق التقريرات وأكثرها إسهاباً في كلّ مسألة واستدلال، لكن على عكس التوقّع، نجده أحياناً يجمل في تقريره في (الأسفار) بينما يبسطه في كتاب آخر له، ولهذا ولغرض فهم نظرياته الخاصّة بدقّة لا يسعنا الاكتفاء بالأسفار، بل لابدّ لنا من الإشارة إلى بقيّة مصادره لدراسة أيّة نظرية من نظريّاته.
٨. الافتقار الواضح إلى نظام مُعيّن أو نسق واحد يحكم موضوعاته أو ترتيب فصوله وخاصّة في (الأسفار).
٩. استخدامه لعبارات العلماء الآخرين دون ذكره لأسمائهم، وهو ما نجده بشكل واسع في مؤلفاته، كاقتباسه عين عبارات ابن سينا وبهمنيار والغزالي والإمام الرازي، أو مع قليل من التغيير والتصرّف، بهدف تبسيط تلك العبارات أو لأجل بيان رأيه المُخالف لصاحبها، لكن دون أن يشير كما أسلفنا إلى صاحب العبارات، الأمر الذي انتقده عليه الكثيرين ممّن جاؤوا بعده([6]) والحقيقة أنّ هذا النوع من الاقتباس ونقل العبارات كان تقليداً شائعاً بين العلماء الماضين، ولابدّ أنّ عملهم هذا كانت تقتضيه علل ومبرّرات كثيرة، كالاختصار في الوقت مثلاً، حيث كانوا يُجوّزون الاقتباس حرفيّاً دون ذكر اسم صاحب العبارات المُقتبسة، وذلك لبيان رأيهم وتوضيح فكرتهم، إلا إذا كان هدفهم لا ينصبّ على نقل المضمون فقط، فعندئذ نراهم يضطرّون إلى ذكر الأسماء والإشارة إلى أصحاب العبارات. وقد يكون السبب هو اعتقاد المقتبس أنّ الفكرة لا تتعلق بصاحبها فقط، بل هي ملك لكلّ من يفهمها ويؤمن بها، وبهذا يمكنه اقتباسها دون ذكر صاحبها أو موجدها، ولكنّ اتّباع هذا الأسلوب ـ وخاصّة في عُرف المفكّرين في الغرب ـ أصبح اليوم سرقة أدبية، بينما لم يكن كذلك في عُرف المفكرين من أمثال الشيرازي، كما لم يكن مستقبحاً لأنّه لا يعني سوى أنّ الناقل يؤيّد تلك الفكرة ويوافقها ولا يعني بأيّ حال أنّه ابتدعها أو ابتكرها.
١٠. ومن حيث أسلوب التأليف، لابدّ من القول: إنّه ـ وخلافاً لتأليفاته غير العلمية التي يغلب عليها أسلوب التكلف والتصنّع ـ يمتلك الشيرازي نثراً واضحاً وأسلوباً بيّناً في بقيّة مؤلّفاته، خالياً من أيّ تكلّف أو غموض. وغالباً ما نراه يشرح الموضوعات العميقة والمُعقّدة بعبارات رائقة وبسيطة، الأمر الذي كان يدفع في الكثير من الأحيان المُتعلّمَ إلى الاعتقاد بعدم حاجته إلى أستاذ أو شرح إضافي، في حين أنّ فهم تلك الأمور بشكل أدقّ، وخاصّة فيما يتعلّق بأسلوبه في بيان المطالب، يتطلّب أستاذاً ماهراً وإلماماً نسبيّاً بالأنظمة الفلسفيّة السابقة إضافة إلى مراجعة كلّ المؤلّفات والبحث فيها.
خصائص الحكمة المتعالية ـــــــ
نتناول هنا مسألةً تعتبر في الواقع جواباً على سؤال غالباً ما يدور في أذهان طلاب الفلسفة، ألا وهي وجه التميّز الأصلي والأساسيّ بين الحكمة المتعالية وأساليب المشائين والإشراقيين.
ويكمن السبب في العديد من الإشكالات والأخطاء في الأنظمة الفلسفيّة التي سبقت الشيرازي في الخلط بين الأمور الذهنيّة والوقائع الخارجية، لأنّه وكما اتّضح في أصالة الوجود فإنّ المفاهيم والماهيّات عبارة عن صُوَر للوقائع الخارجيّة، والماهيّات هي صُور تنطبق تماماً على الوقائع، وواضح كذلك أنّ نتيجة أن تكون الصورة شفافة ومنطبقة بشكل كامل على صاحب الصورة هي أن يشتبه الإنسان بين الصور والأصل. وأحياناً تقوم الأحكام بنسبة الماهيّات ـ وهي الصُور الذهنية للوقائع ـ إلى الوقائع التي تمتلك تلك الصُور، وفي أحيان أخرى يكون العكس، أي تقوم الأحكام بنسبة الوقائع إلى الصور الذهنيّة لها. وخلاصة القول: إنّهم يرون أنّ الماهيّات مشمولة بأحكام الوقائع والوقائع مشمولة بأحكام الماهيّات؛ ولهذا كانوا يتوصلون إلى نتائج خاطئة. وهذا بالضّبط هو الخلط بين الأمور الذهنية ـ يعني الماهيّات ـ والوقائع الخارجيّة. فإذاً نتيجة أصالة الوجود واعتبار الماهيّة هي الفصل بين الذهن والخارج والتمييز بين الصورة وصاحبها واجتناب الخلط بين الأحكام.
وبعد أصالة الوجود، هناك ثلاث مسائل أخرى تلعب دوراً مهمّاً في الحكمة المتعالية بل يمكن اعتبارها الأُسس الفرعيّة لها، وهذه المسائل هي: التشكيك في الوجود، ووجود الرابط المعلول، ثمّ الحركة الجوهريّة. ومن ثمّ فالمسائل الأربع المهمة في الحكمة المتعالية هي وبحسب الترتيب: 1ـ أصالة الوجود واعتبار الماهيّة. 2 ـ التشكيك في الوجود. 3 ـ وجود الرابط المعلول. 4 ـ الحركة الجوهريّة، بما فيها الاشتداديّة وغير الاشتداديّة.
وجه الاختلاف بين المناهج المشائية والإشراقية والحكمة المتعالية ــــــ
المقصود بـ(النظام الفلسفي) مجموعة الآراء الفلسفيّة لأيّ فيلسوف بحيث إذا اتّفق فيلسوفان على جميع الآراء فذلك يعني أنّهما يُمثلان نظاماً فلسفيّاً واحداً، وإلاّ فكلّ واحد منهما يمتلك نظاماً فلسفيّاً مستقلاً، وإن كان اختلافهما في أبسط الأشياء. لذلك يمكننا القول بأنّ عدد الأنظمة الفلسفيّة يُعادل عدد الفلاسفة جميعهم كالأنظمة الفلسفيّة لأفلاطون وأرسطو والكندي والفارابي وغيرهم.
لكن، على النقيض من ذلك، لا توجد مشارب فلسفيّة بعدد الفلاسفة، بل العديد من الفلاسفة يشتركون في مشرب فلسفي واحد، فأرسطو والكندي والفارابي وبعض آخر من الفلاسفة هم من المشّائين، فيما أفلاطون وأفلوطين وشيخ الإشراق كلّهم إشراقيّون، وذلك لأنّ (المشرب) يشير إلى النهج الذي يميز الفيلسوف ويؤكد عليه، أي النهج الذي يتبعه الفيلسوف لكي يُقلّل من احتمالات وقوع العقل في الخطأ أثناء التطبيق والوصول إلى نتائج متيقّنة. إذاً فالمشرب لا يعني مضمون الفلسفة، من هنا يمكن أن يشترك العديد من الفلاسفة في مشرب واحد على الرّغم من اختلافهم في الأنظمة الفلسفيّة.
قبل صدر الدين الشيرازي، ساد الفلسفة مشربان رئيسان: المشائيّة والإشراقيّة. فالمشاؤون يفصلون تماماً بين عمل العقل الإنساني ـ الذي هو تحصيل الحدود وإقامة البراهين للكشف عن الحقائق ـ وبين بُعده المعنوي كالكشف والشهود. وكلّما كانت قوّة العقل وقدرة الحدس لدى الفيلسوف عاليتين، كان وصوله إلى إقامة البرهان وحلّ المسائل أسرع، وأخطاؤه أقلّ. أمّا الإشراقيّون فيرون أنّ البُعد المعنوي الإنسانيّ له تأثير كبير على عمل العقل، ويعتقدون أنّه كلما كان الفيلسوف أكثر تهذيباً قلّ خطأ العقل في تحصيل الحدود وإقامة البراهين والكشف عن الحقائق. ومن باب أولى أنّه إذا كان الفيلسوف صاحب ذوق ومن أهل الكشف فإنّ نتائجه العقليّة ستكون صائبة والعكس صحيح، وكأنّ العالم القدسي نطق بالحقائق على لسانه([7]). هذا، ولا شكّ في أنّه ما من فيلسوف ـ سواء كان إشراقيّاً أم مشّائيّاً ـ لا يؤمن بأنّ الكشف مُنافسٌ للعقل وصنوٌ له، وأنّ حاصل الكشف يغدو بديلاً عن البرهان.
ولا شكّ كذلك في أنّ الحكمة المتعالية هي القاسم المشترك للأنظمة المشائيّة والإشراقيّة، فالاختلاف بين هذه الأنظمة ناجم عن الاختلاف في المشرب، أمّا الاختلاف بين نظام الحكمة المتعالية وتلك الأنظمة فنابع من استناد أنظمة الحكمة المتعالية إلى أصالة الوجود واعتبار الماهيّة.
ونظراً لنشوء تمام خصائص الحكمة المتعالية من فكرة أصالة الوجود واستخدامها في أبواب الفلسفة المختلفة، نشير هنا إلى بعض المغالق الفلسفيّة التي لم تفتح وأفلح صدر المتألّهين في حلّها بهذا المفتاح الرئيس:
1 ـ نجاحه في طرح مسائل جديدة لم تتطرّق إليها فلسفة المشائين ولا الإشراقيّين مثل الوجود الطولي (الجمعيّ) للماهيّة وجسمانيّة حدوث النّفس.
٢ـ أفلح في التعليل الفلسفيّ الصحيح للمسائل المستعصية في الأنظمة المذكورة مثل كيفيّة اتّصاف الماهية بالوجود.
٣- نجح في تقديم حلول للمسائل المستعصية في الأنظمة المذكورة من قبيل كون المعلول رابطاً والمعاد الجسماني والمثل الأفلاطونيّة.
٤ـ نجاحه في تقديم استدلالات جديدة مثل برهان الصديقين الصدرائي.
٥ـ نجاحه في الإجابة على الإشكالات التي لم تُحلّ أو تقديم إجابات جديدة للإشكالات المحلولة أو طرح إشكالات جديدة والإجابة عليها، مثل إجابته على إشكالات الوجود الذهني.
٦ـ اتّخاذ موقف جديد فيما يتعلّق بالمسائل التي كانت مطروحة قبله، في مقابل إجماع معظم الفلاسفة على تلك المسائل، على سبيل المثال الموقف الإيجابيّ المتمثل في الحركة الجوهريّة.
٧ـ التحقيق في المسائل التى أجملها أو تركها الفلاسفة من قبله مُبهمةً وغامضة من حيث الطّرح أو الحل، كالتحقيق فيما قاله ابن سينا من أنّ (الوقوف على حقائق الأشياء ليس في قدرة البشر..)، وغير ذلك.
٨ـ إضفاء العمق على المسائل التي كانت مطروحة قبله، مثل تنزيه الله سبحانه وتوحيد الأفعال.
٩ ـ إزالة التعارض عن بعض الآراء المتعارضة، كالآراء الكلامية والفلسفيّة فيما يخصّ الحدوث أو القدم الزمانيّ للأشياء والعالم([8]).
١٠ـ نجاحه في تحديد الرأي الحقّ (في بعض أهمّ المسائل الخلافيّة) كإثبات التركيب الاتحاديّ للصورة والمادة، وغير ذلك.
١١ـ كشف المغالطات كاستدلال شيخ الإشراق على وجود الله سبحانه دون استناده إلى إبطال الدور والتسلسل.
تباين منهج الحكمة المتعالية وطريقة الحكمة الإشراقية ـــــــ
على الرغم من عدم قدرتنا على بيان الاختلاف بين الحقيقة الرئيسة لهذه الطريقة الخاصّة بحكمة الإشراق، إلا أنّ ما بيّنه الشيرازي بشأن هذا المنهج يتميّز بعدّة امتيازات، وهي في مجموعها تبرهن على كونه المُبدع الأصليّ لهذه المدرسة.
أمّا أهمّ ما تتميّز به المدرسة الصدرائيّة فهو:
أ ـ تبيين البعد السلبي الذي لعب دوراً أساسيّاً في هذا المجال، ونعني بذلك التوضيح والاستدلال الدقيق الذي قدّمه الشيرازي على عدم كفاية العقل وذكر مواطن ضعفه وقصوره في الوصول إلى حقائق الأشياء في الفلسفة الصدرائيّة، حيث كان لذلك دور مهم في إضعاف الحكمة المشائيّة وجذب أنظار العرفاء واهتمامهم. وكذلك تأكيده على فشل سبيل المكاشفة للسلوك وتصريحه بوجود آراء كثيرة غير صحيحة في كلام العرفاء، مما أدّى إلى توجّه الفلاسفة والمتكلمين نحو الحكمة المتعالية.
ب ـ إضفاء قيمة على دور الشريعة التي اتضحت معالمها بشكل كبير في الحكمة المتعالية.
ج ـ قوله بضرورة تطبيق معطيات الحكمة المتعالية مع مضمون الشريعة، وهو ممّا تمتاز به الحكمة المتعالية؛ إذ لا نجد نظيراً لذلك في حكمة الإشراق بهذه الجدية، حيث أقدم الشيرازي وبجرأة علي تقديم نماذج عينيّة في كلّ موضوع. وأوضح مثال على ذلك تفسيره وشرحه للقرآن الكريم وأصول الكافي.
د ـ نجاحه في طرح نماذج عينيّة تدلّ على امتزاج طريقة العُرفاء مع طريقة الحُكماء، أي برهنة المعطيات العرفانيّة.
المنهج البرهاني ودوره في تكوين فلسفيّة موضوعٍ ما ـــــــ
الفلاسفة المسلمون كافّة أصوليون؛ وعليه فالفلسفة في نظرهم علمٌ يبحث القوانين التي تحكم وجود الأشياء عبر الاستدلالات التي تُختم بالبديهيّات أو المُصادرات أحياناً. والبديهيّات هي «القضايا التي يُعتبر صدقها واضحاً»، أمّا المُصادرات التي يُطلق عليها كذلك (أصل الموضوع)، فهي «القضايا التي لا يكون صدقها بديهيّاً وتحتاج إلى إثبات» لكنّها تصدق فرضاً في العلم المذكور.
أمّا عدد البديهيّات الأوليّة التي تعتمدها الفلسفة أو مضمون كلّ منها، فلا يمكن الجواب عنه بشكل مقبول دون تتبّع كافٍ وبحث دقيق. وعلى أي حال فمن بين البديهيّات الأوليّة والأصول المتعارفة في جميع الأنظمة الفلسفيّة الإسلاميّة نذكر: مبدأ امتناع التناقض، مبدأ الوجود هو الواقع، إمكان المعرفة، امتناع الترجّح بلا مرجّح، وبالطبع يلعب مبدأ (استحالة التناقض) دوراً مهماً ومتميزاً؛ لذا فالمنهج الذي تعتمده الفلسفة والذي يُطلق عليه اسم (المنهج البرهانيّ) هو قوام الفلسفة وشرطها. بمعنى أنّ الفلسفة تُمثل علم الوجود العقلي وليس مُطلق علم الوجود. ونتيجة لهذا فإنّ معيار فلسفية القضية الصادقة لا يقتصر على المضمون الوجوديّ لها، بل إنّ النهج المتّبع لتحديد صدقها أيضاً له دور؛ فلا يُمكن اعتبار القضية الصادقة التي تبين قانوناً من قوانين الوجود مسألة فلسفيّة ما لم يتمّ إثبات صدقها بمنهج برهاني ثابت؛ ومن ثم لا يجوز الاستعاضة عن الاستدلال الفلسفي أو مقدمة أو مقدمات منه بالقضايا الوحيانيّة أو المعطيات العرفانيّة أو مقولات العظماء وإن كان صدق تلك القضية أكثر يقيناً من صحّة الاستدلال المذكور أو صدق تلك المُقدّمات. فمعيار فلسفية القضية الصادقة ـ المحتوي الوجوديّ ـ الأسلوب البرهانيّ لتحديد الصّدق. ومن منظار الحكمة المتعالية فإنّ البرهان ليس فقط طريقاً مضموناً للوصول إلى الأحكام الصادقة أو سبيلاً مقبولة للوصول إلى الحقّ والحقيقة «البرهان طريق موثوق به، موصل إلى الوقوف على الحقّ»([9])، إنما إذا كانت هذه الأحكام عقلية حقاً، فإنّها لا تستحصل إلا عن طريق البرهان([10]). لذا وبمقتضى هذا الشرط، فإنّ الحصول على النتائج الفلسفيّة لا يكون عن طريق اعتماد مقولات الفلاسفة والعظام([11]). ولا يجوز الاكتفاء بالقضايا الوحيانيّة وآراء الشريعة بديلاً عن البرهان أو اعتبار النّقل أصلاً والعقل فرعاً([12])، بل العكس صحيح إذ العقل هو أصل النّقل([13])، وكذلك بموجب الشرط المذكور لا يُمكن اعتبار حاصل الكشف العرفاني مستنداً للأحكام الفلسفيّة دون أن يرتكز إلى الاستدلال العقلي، بل في الأساس لا يتيسّر الكشف الصحيح والتامّ في المسائل العقليّة الصّرفة إلا عن طريق الحدس والبرهان، لكن لابدّ للحدس أن يكون نتيجة لرياضة عقليّة وشرعية ونتيجة لمجاهدات علمية وعمليّة([14]). أمّا المُراد بالحدس فليس الظنّ والتخمين بل الوصول إلى البرهان دون كسب أو رأي، أي البرهان على أمر دون تحمّل عبء التفكير أو الحاجة إلى التأمّل، والذي يُلقى في الروع دُفعة واحدة؛ لذا نرى الشيرازي أيضاً يعتبر المنهج البرهاني شرطاً للحكمة المتعالية.
البعد السلبيّ للحكمة المتعالية ـــــــ
بدأ الشيرازي فلسفته مع المنهج المشائي والبرهانيّ الصّرف، مثله في ذلك مثل الفيلسوفيْن صاحبي المدرستين السابقتين: السهروردي وابن سينا، لكنّه تخلّى عن سبيله تلك في النهاية، وأصبح بشكل أو بآخر ناقداً لها، بل وأظهر ندمه على انتمائه لهما. لا ريب في أنّ اهتمام صاحب الحكمة المتعالية بقصور العقل والحاجة إلى الكشف لفهم حقائق الشريعة، وكذلك قصور الوجدان والكشف عن البيان الصحيح والمنطقي للحقائق، لا ريب في أنّ ذلك كلّه يُمثل العناصر الأصليّة للبعد السلبيّ للمنهج الصدرائيّ للحكمة المتعالية. إنّ عدم كفاية العقل والبراهين العقليّة يعني أنّه لا تُدرك كلّ حقيقة بالمنهج العقلي وحده، وليس بمقدور أيّ عقل أن يبلغ جميع الحقائق العقليّة بمفرده. من هنا يتّضح لنا أنّ العقل سيغرق في بحر الألفاظ والمصطلحات والمجادلات اللفظيّة والتعقيدات العقيمة ما لم يهتد بالوجدان ويسترشد به([15]).
ومن وُجهة نظر الشيرازي فإنّ العقل عاجز حتى عن استيعاب مقاصد الشارع ودركها بشكل صحيح، ولا يُمكن إدراك أسرار الدين وحقائق الشريعة المبيّنة في قالب الألفاظ بالاعتماد حصريّاً على العقل؛ فما بالك بالحقائق التي لا توجد أيّة أدوات أو أسباب لفهمها ودركها؟!
عدم كفاية العقل في كشف الحقائق ـــــــ
اتّضح لنا أنّ الاكتفاء بالعقل لا يصحّ لعدة أسباب؛ منها أنّ العقل لوحده غير قادر على استيعاب جميع الحقائق؛ وذلك لأنّ الحقّ أوسع من أن يُحيط به عقل لوحده([16])، وكذلك لإمكان تأثر العقل بالميول النفسانيّة والانحرافات الأخلاقيّة والتعصّب الأعمى([17]). إضافة إلى هذا وذاك، لو أتيحت للعقل القوّة والقدرة الكافيتين لما وقع في الاختلاف والحيرة ولما كانت هناك حاجة أصلاً إلى الأنبياء([18]).
وبذلك ينأى الشيرازي بحكمته المتعالية بعيداً عن طريق الفلاسفة المشائين والمتكلّمين. ومن البديهيّ في هذه الحالة ألا يكون هاجسه النفس واعتبار العقل إطلاقاً، بل ليركّز في مقولاته على عدم كفاية العقل سبيلاً لبلوغ جميع الحقائق. لكنّه مع ذلك، لا يقف عند حدود هذه النقطة بل يعتبر الوجدان والمكاشفة أيضاً غير كافيين.
عدم كفاية الوجدان والمُكاشفة ـــــــ
لا حاجة بنا إلى بيان تأثر الشيرازي العميق بالعرفاء ومُنجزاتهم والدور الرئيس الذي لعبه ذلك في فلسفته، لكنّه في بعض الأحيان لا يحتمل عبارات المسامحة الممزوجة بالتناقضات أو المتعارضة مع النتائج البديهيّة والظواهر الشرعيّة والتي كانت تظهر على لسان أهل العرفان؛ لذا نراه يشمل بنقده حتى أصحاب الكشف الذين وإن كانوا يدركون الحقائق بشكلها الصحيح، إلا أنّهم في مقام البيان لا يمتلكون القدرة الكافية لتوضيح تلك الحقائق وذلك بسبب انشغالهم بالرياضات وافتقادهم للممارسة اللازمة لتبيين الحقائق المذكورة([19]).
ويُمكن الاستناد إلى سبب واحد يدلّ على عدم الاكتفاء بالمعطيات العرفانية، وهو أنّ أصل المكاشفة يختلف عن تفسيرها والتعبير عنها؛ لذا لابدّ من وجود لغة مشتركة بين الفلسفة والعرفان، ومن وجهة نظر الشيرازي فإنّ مسؤولية إيجاد مثل هذه اللغة تقع على عاتق الحكماء المتألّهين الذين ذاقوا حلاوة الحقائق بعينها من جهة، وكانوا ـ من جهة أخرى ـ أعرف بأسلوب بيان تلك الحقائق بسبب معرفتهم الجيدة بلغة العقل والمجادلة وقوّة الاستدلال. وهذه المسؤولية هي في الواقع الرسالة التي يجب على الحكمة المتعاليّة حملها لإثبات حالة الانسجام والتوافق بين العقل والعرفان.
إنّ عدم كفاية الوجدان في السلوك وفهم الحقائق وبيانها هو الذي أدّى إلى افتراق سبيل الحكمة المتعالية عن سبيل العرفان، واقترابها من الناحية الأخرى من حكمة الإشراق، ذلك أنّ العرفاء في سلوكهم لا يلمسون حاجةً إلى البيان العقلي، وإذا سعوا ـ لأيّ سبب أو علّة ـ إلى الاقتراب من هذا البيان فإنّهم يعتبرون ذلك أمراً استطرادياً عرضياً، وأحياناً يقومون بتخطئة البرهان كذلك([20]).
الفصل بين طريق العرفان وطريق جهلة الصوفيّة ــــــــ
لم يكن أبداً تكريم الشيرازي للعرفان وتأييده له تأييداً لكلّ الأفعال والأقوال التي تطرح باسم العرفان والتصوّف، والتي تقف بوجه الشريعة أو تقوم بنفيها([21]).
حاجة تفسير الشريعة إلى العقل والكشف ـــــــ
يعتبر الشيرازي أن لا سبيل أفضل من الشريعة للوصول إلى الحقيقة؛ لأنّ الشريعة هي ناتج علاقة موثوقة ومنزّهة مع خالق جميع العقول، ليس هذا فحسب، بل يُمكنها كذلك أن تكون وسيلة لاختبار صحّة أو سُقم إنجازات العقل والوجدان. ومن هنا نرى أنّ معرفة حقائق الكون تحتل موقعاً مهماً في النظام المعرفي الصدرائي. أمّا ما يُمكن أن يحول دون الاستفادة من هذا المنبع المعرفي المنزه والوصول إلى الحقيقة فهي النظرة السطحيّة في فهم الآيات والروايات. فالشيرازي يؤكّد على أنّه لا ينبغي حصر حقائق الشريعة بالمفاهيم الظاهريّة لألفاظ الكتاب والسنّة. والعقل لا يكفي لمعرفة ودرك جميع حقائق الشريعة لوجود تباين في بعض أسرار ومراتب الدين بين عموم الناس وبين الفقهاء والمتكلّمين بحيث يصعب عليهم فهم تلك الحقائق فيعمدون إلى نُكرانها وغضّ النظر عنها. لذا فهو يوصي بضرورة الانقياد التامّ للشّرع دون أيّ اعتراض ولزوم التعبّد الخالص، وذلك لاستحالة أن تكون الشريعة قد انتظمت على خلاف الحقائق ووقائع العالم. وعلى هذا الأساس، فإنّ ما يُخالف الشريعة هو بلا شكّ مخالف للحقيقة أيضاً، ويجب ردّه ودحضه.
البعد الإيجابيّ في الحكمة المتعالية ـــــــ
1 ـ إنّها مزيج من طريقة الحكماء الإلهيّين والعرفاء.
2 ـ طريقة الشريعة (الوحي والرسالة) أرقى من طريقة الحكمة المتعالية.
3 ـ إنّ عالم الملكوت هو مصدر جميع العلوم والمعارف الحكميّة، وأنّ سبيل الوصول إلى ذلك إنّما يكون عن طريق الارتباط بعالم الملكوت والمكاشفات العرفانية؛ لذا فالوصول إلى المعرفة يمثل كمال الإنسان([22]).
4 ـ إنّ الحكمة المتعالية مزيج من البراهين العقليّة والمكاشفات العرفانية.
5 ـ المقصود بالبرهان المصاحب للمكاشفة العينيّة هو النور الذي يشعّ في قلب المؤمن.
6 ـ إنّ طريقة الشريعة لا تقارن بالكشف والبرهان، بل هي طريقة الوحي والرسالة التي تعلو على طريقة الحكمة المتعالية وأنّ مفاد الشريعة كذلك يعلو على مفاد الحكمة المتعالية.
7 ـ إنّ الكشف والذوق هما مصدر جميع العلوم والمعارف والسبيل الموصل إلى حقائق العالم.
8 ـ إنّ البيان الفلسفي والبراهين العقليّة هما لغة المعطيات الوجدانيّة.
9 ـ إنّ طريق الشريعة أقوم طريق وأسلك سبيل للمعرفة، أمّا مفاد ومضمون الشريعة فهو البيان الأكثر عصمةً للحقيقة.
10 ـ بما أنّ الحقيقة واحدة، وطرق الكشف والعقل والشريعة كلّها موصلة إلى الحقيقة، فلا وجود لأيّ نوع من التضادّ بين العقل والكشف والشريعة؛ أمّا درك تلك الحقيقة ومطابقتها فليس ممكناً إلا للذين يتقنون اللغات الثلاث لتلك العناصر؛ وعلى هذا فليس بمقدور أحد الوصول إلى أفضل الحقائق التي تتضمنها تلك الطُرُق سوى الحكماء المتألّهين.
قيمة المعرفة في الحكمة المتعالية ـــــــ
في الحكمة المتعالية هناك اعتبار كامل لطريق العقل كذا لطريق المكاشفة والوجدان، مع عدم كفاية كل واحد منهما على حدة. هذا إلى جانب اعتبار الكتاب والسنّة وأهل البيت.
دور الوحي والكشف في الحكمة المتعالية ـــــــ
هل يُمكننا اعتبار الشيرازي ـ وهو الذي يقول: إنّ المنهج البرهاني شرط من شروط الحكمة المتعالية وأحد مُقوّماتها ـ مُلتزماً هو نفسه بهذا الشرط، على الرغم من إشارته واستشهاده في مؤلّفاته الحكمية بكثافة بالآيات والروايات وأقوال العرفاء والعظام الذين سبقوه والنتائج الشهوديّة؟ فهل يعتقد الشيرازي صراحة أنّ الفلسفة التي تتناقض مع الوحي من الأجدر اعتبارها ضلالاً([23])؟ ليس صحيحاً أنّه لا يؤمن بهذا الأصل، لأنّ منهج العمل مع هذا النوع من القضايا في الحكمة المتعالية لا يتنافى مع الشرط المذكور ولا يتعارض معه. لأنّ الشرط المذكور لا يعتبر استخدام القضايا المستندة إلى الوحي والكشف في الفلسفة مصدراً من المصادر، بل هو يمنع استخدامها في مقام الحكم أو تعيين الصدق والكذب في تلك القضايا؛ لذا فاستخدام النتائج العرفانية وحتى أقوال كبار العلماء في أيّ نظام فلسفيّ في غير مقام الحكم، لا يتعارض مع هذا الشرط، ولذلك فهو جائز.
تطبيقات الوحي والكشف في الفلسفة ـــــــ
1 ـ في طرح المسألة الفلسفيّة؛ أي أن يعرّضا الفلسفة لمسألة أو لمشكلة، ومن ثمّ حلّها عبر استخدام المنهج البرهانيّ. وفي هذه الحال فقط، يكون لهما دور في طرح تلك المسألة وليس في ردّها أو إثباتها أو تعيين صدقها أو كذبها، كما هي الحال مع المعاد الجسمانيّ والقيامة وغيرهما. بمعنى أنّهما يهيئان الموضوع للفيلسوف لا غير.
2 ـ التأثير في إقامة البرهان، لا صيرورتهما بديلاً عنه. وهذا التأثير قد يكون بمستوى الإلهام؛ فيثير اهتمام الفيلسوف لإثبات القضيّة، وقد يكون بمستوى اقتراح البرهان؛ أي لابدّ من وجود بُرهان مذكور صراحة في النصوص الدينية أو العرفانية لإثبات قضيّة وجودية معينة، بحيث تكون بعض مُقدّماتها على الأقلّ لا بديهيّة ولا ثابتة، بل مقبولة بالاستناد إلى الوحي أو المكاشفة. وفي هذه الحالة يكون دور الوحي والكشف اقتراح البرهان، ويكون دور الفلسفة إقامة ذلك البرهان.
وقد يكون التأثير بمستوى إيحاء البرهان، أو كما يُقال ضمن إطار الحدس؛ مثلاً أن يشهد الفيلسوف حقيقة وجودية، وعلى أثرها يلقى في روعه بالحلّ العقلي وهو البرهان.
3 ـ أن يكون له تأثير في هداية العقل في عدم انحرافه وفي تصويب البرهان.
4 ـ أن يكون له تأثير في كشف المغالطة؛ بمعنى أنّه عندما يكون مضمون الوحي أو الكشف أو مستلزماتهما مناقضاً لمعطيات المنهج البرهانيّ، يمكنه أن يكون سبباً يستطيع الفيلسوف بواسطته طرح نقض عقليّ يستلزم كذب النتيجة وبطلان الاستدلال، مما يؤدّي بالتالي إلى كشف المغالطة.
5 ـ أن يبيّن التوافق والانسجام الموجود بين العقل والنقل والكشف الصحيح معاً.
6 ـ أن يؤيّد المعطيات المستحصلة من المنهج البرهاني، فيلعب دور الاستشهاد.
7 ـ أن يبعث اليقين والثقة، ويقلّل من دهشة واستغراب المُخاطب عند مواجهته للآراء والأفكار المبتدعة التي تخالف إجماع الفلاسفة.
لذا، وكما رأينا، ليس للبرهان ولا للكشف ولا للوحي أيّ تناقض مع العقل ولا هي في موضع المنافسة معه، بل ذلك يعني أنّها دخيلة في غير مقام الحكم، وهي عوامل مساعدة للعقل ومُعينة له.
الهوامش
(*) أستاذ مساعد في كلّية الفقه والفلسفة ـ برديس (قم)، جامعة طهران.
([1]) انظر: الشيرازي، الحکمة المتعالية في الأسفار الأربعة العقلية 1: 126، 330، و2: 245، و3: 247، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1981.
([2]) انظر: ابن سينا، الإشارات والتنبيهات، مع شرح نصير الدين الطوسي، وشرح الشرح للعلامة قطب الدين الرازي 3: 399، مکتب نشر الکتاب، 1403 ه)، الطبعة الثانية.
([3]) انظر: الشيرازي، المشاعر 2: 35، طهران، طهوري، 63ش/1984م.
([6]) طبعاً هذا النمط من نقل العبارة لا يتعلّق به وحده، حيث نرى ذلك متداولاً في آثار الفلاسفة قبله، ونجد عبارات کثيرة لفلاسفة مجهولين.
([7]) مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق 1: 361، طبعة أنجمن فلسفة، 1987م.
([8]) من خلال إثبات عدم التناقض بين دوام الفيض ـ وهي دعوى الفلاسفة ـ والحدوث الزماني للأشياء، وهي دعوى المتکلمين.
([9]) الشيرازي، تعليقة على الشفاء 1: 100.
([12]) الشيرازي، شرح أصول الکافي: 438.
([14]) الأسفار 1: 11، مقدمة المؤلف.
([17]) الشيرازي، کتاب العرشية: 102، الطبعة الأولى، دار إحياء التراث العربي، 2003م.
([19]) داوود بن محمد القيصري، شرح القيصري على فصوص الحکم: 4.
([20]) تجسّد رسالة «کسر أصنام الجاهلية» للشيرازي نزاعه مع الانحراف عن الشريعة والعرفان الحقيقي، وذلك من خلال تبرؤه المتکرّر في بحوثه الفلسفية من أولئك الذين يطلق عليهم تارة «عوام الصوفية» وأخرى «جهلة الصوفية».
([22]) الأسفار 5: 205؛ وعبارة «البرهان الکشفي» تشير کذلك إلى هذه الحقيقة.