رسالة الدين، اي دين كان، هي الرحمة والتسامح والإخاء والمحبة. والديانة الاسلامية التي بعث نبيها (ص) ليتمم مكارم الاخلاق ـ على حدّ تعبيره ـ (مستدرك الوسائل، ج11، ص187، باب6- ح 12701) او محاسنها ـ في رواية اخرى ـ (مجموعة ورام، ج1، باب89، ص57) ـ جاءت لتبني علاقة الانسان بأخيه الانسان على أساس من المودّة والمحبّة والتراحم. فالانسان ـ ايّ انسان كان ـ على حدّ تعبير الامام علي بن ابي طالب (صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ). (نهج البلاغة، كتاب 53- كتابه للأشتر).
فرسالة جميع الاديان ومقاصدها العامّة تؤكد على إشاعة السلم والتراحم والمحبّة لا بين البشر وحسب، بل تدعو الى الرفق بالحيوان والحفاظ على الطبيعة.
نرى نبي الاسلام يوصي بالرفق ما لا يوصي بغيره، وهو يقول في فضيلة الرفق:
الرفق عنوان النبل (غرر الحكم، ح4952) والرفق عنوان السداد (غرر الحكم، ح4953) والرفق أخو المؤمن (غرر الحكم، ح4954) والرفق بالأتباع من كرم الطباع (غرر الحكم، ح4955) والرفق مفتاح الصواب وشيمة ذوي الألباب (غرر الحكم، ح4956) وأفضل الناس أعملهم بالرفق وأكيسهم أصبرهم على الحق (غرر الحكم، ح4959) وإن الله سبحانه وتعالى يحب السهل النفس السمح الخليقة القريب الأمر (غرر الحكم، ح4960) وإذا ملكت فارفق (غرر الحكم، ح4961) وإذا عاقبت فارفق (غرر الحكم، ح4962) وبالرفق يتم المروءة (غرر الحكم، ح4964) وخير الخلائق الرفق (غرر الحكم، ح4965) ورأس العلم الرفق (غرر الحكم، ح4966) وعليك بالرفق فإنه مفتاح الصواب وسجية أولي الألباب (غرر الحكم، ح4967) ولكل دين خلق وخلق الإيمان الرفق (غرر الحكم، ح4968) وليكن أحظى الناس عندك أعملهم بالرفق (غرر الحكم، ح4969) ونعم الرفيق الرفق (غرر الحكم، ح4970) ونعم الخليقة استعمال الرفق (غرر الحكم، ح4971) ولا يجتمع العنف والرفق (غرر الحكم، ح4972) ولا سجية أشرف من الرفق (غرر الحكم، ح4973).
ويعدد (صلوات الله عليه) بعض آثار الرفق لنا مشجعاً على الالتزام به:
الرفق مفتاح النجاح (غرر الحكم، ح4975) والرفق مفتاح الصواب (غرر الحكم، ح4976) والرفق يفل حد المخالفة (غرر الحكم، ح4977) واليمن مع الرفق (غرر الحكم، ح4978) والرفق يؤدي إلى السلم (غرر الحكم، ح4979) وارفق توفق (غرر الحكم، ح4980) وبالرفق تدرك المقاصد (غرر الحكم، ح4981) وبالرفق تدوم الصحبة (غرر الحكم، ح4982) وعليك بالرفق فمن رفق في أفعاله تم أمره (غرر الحكم، ح4983) ولن لمن غالظك فإنه يوشك أن يلين لك (غرر الحكم، ح4984) ومن عامل بالرفق وفق (غرر الحكم، ح4985) ومن استعمل الرفق غنم (غرر الحكم، ح4986) ومن ترفق في الأمور أدرك أربه منها (غرر الحكم، ح4987) ومن استعمل الرفق استدر الرزق (غرر الحكم، ح4988) ومن علامات الإقبال سداد الأقوال والرفق في الأفعال (غرر الحكم، ح4989) وما كان الرفق في شيء إلا زانه (غرر الحكم، ح4990) وما استجلبت المحبة بمثل السخاء والرفق وحسن الخلق (غرر الحكم، ح4991) ولا ندم لكثير الرفق (غرر الحكم، ح4992) والرفق ييسر الصعاب ويسهل شديد الأسباب (غرر الحكم، ح4993) وبالرفق تهون الصعاب (غرر الحكم، ح4994) وكم من صعب تسهل بالرفق (غرر الحكم، ح4995) ومن استعمل الرفق لان له الشديد (غرر الحكم، ح4996) والرفق في المطالب يسهل الأسباب (غرر الحكم، ح4997).
وعن فضيلة العفو والترغيب فيه يقول الصادق الامين:
العفو أحسن الإحسان (غرر الحكم، ح4998) والعفو زكاة الظفر (غرر الحكم، ح4999) والعفو عنوان النبل (غرر الحكم، ح5000) والعفو تاج المكارم (غرر الحكم، ح5001) والعفو أفضل الإحسان (غرر الحكم، ح5002 ) والصفح أحسن الشيم (غرر الحكم، ح5003) والصفح أن يعفو الرجل عما يجنى عليه ويحلم عما يغيظه (غرر الحكم، ح5007) وأحسن من استيفاء حقك العفو عنه (غرر الحكم، ح5010) وأعرف الناس بالله أعذرهم للناس وإن لم يجد لهم عذرا (غرر الحكم، ح5011) وشر الناس من لا يعفو عن الزلة ولا يستر العورة (غرر الحكم، ح5016) ومن لم يحسن العفو أساء بالانتقام (غرر الحكم، ح5019) ومن أحسن الفضل قبول عذر الجاني (غرر الحكم، ح5020) ومن الدين التجاوز عن الجرم (غرر الحكم، ح5021) ومن الكرم أن تتجاوز عن الإساءة إليك (غرر الحكم، ح5022) وما كل مذنب يعاقب (غرر الحكم، ح5023) ومعاجلة الذنوب بالغفران من أخلاق الكرام (غرر الحكم، ح5025) ونصف العاقل احتمال ونصفه تغافل (غرر الحكم، ح5026) واقبل العذر وإن كان كذبا ودع الجواب عن قدرة وإن كان لك (غرر الحكم، ح5029) ولا يقابل مسيء قط بأفضل من العفو عنه (غرر الحكم، ح5032) ويعجبني من الرجل أن يعفو عمن ظلمه ويصل من قطعه ويعطي من حرمه ويقابل الإساءة بالإحسان (غرر الحكم، ح5033)، الى اضعافها من النصوص التي لا يسع المقام للاشارة لها، والتي لم تغفل حتى التوصية بالحيوانات والطبيعة.
لكن التعصب والعدوانية والاستغلال وهي ظواهر متفشية في المجتمع البشري عبر التاريخ، حالت دون تحقيق أهداف الاديان وصارت تقدم صوراً مشوّهة وتفاسير لا انسانية عن بعض مفاهيمها. بحيث اصبحت العقيدة مبرراً للقمع والاكراه، في حين اكّد القرآن على حرية العقيدة بصورة لا يشوبها ادنى شك وهو ينادي بين ظهرانينا:
– « فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ» (الحجر: ٩٤).
– « قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلىَ الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَغُ الْمُبِينُ» (النور: ٥٤).
– « لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شىَْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيهِْمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ» (آل عمران: ١٢٨).
– « وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلىَ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ» (التغابن: ١٢).
– « وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلىَ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ» (المائدة: ٩٢).
– « وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لىِّ عَمَلىِ وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُم بَرِيُئونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِىءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ» (يونس: ٤١).
ـ «إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً» (الإنسان: 3).
ـ «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً، إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ» (الشورى: 48).
ـ « فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبىَِ اللَّهُ لَا إِلَاهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» (التوبة: ١٢٩).
ـ «فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرُ بِالْعِبَادِ» (آلعمران: 20).
ـ «فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ» (النحل: 82).
ـ «فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الحِْسَابُ» (الرعد: 40).
ويخاطب رسوله الكريم: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآَمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً، أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ»؟ (يونس: 99).
ـ «لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» (البقرة: 256).
ـ «وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكمُْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بهِِمْ سُرَادِقُهَا» (الكهف: 29).
ـ «إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً» (النساء: 137).
ـ «إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» (آل عمران: 77).
ـ «فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ، إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ، إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ» (الغاشية: 21- 26).
ـ «كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ» (آل عمران 86).
ـ «مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ» (النحل 106).
ـ «وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» (البقرة 217).
وكذلك يقول عن المعاند: «وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً» (النساء 115).
فلا نجد القرآن يتوعد أي من تلك الاصناف بعذاب دنيوي بل يحيل حسابهم الى الآخرة ويوكل امرهم الى خالقهم.
لكن نرى الخطاب المتزمت للجماعات الافراطية وصل الى اختزال الاله في صفات معدودة موظفة سياسياً، من قبيل المنتقم والجبّار، ونسى صفات جماله كلها: الرحمان، الرحيم، السلام، الغفّار، الوهّاب، الرزّاق، العدل، اللطيف، الحليم، الشكور، المجيب، الواسع، الودود، التوّاب، العفوّ، الغفور، الرؤوف، … .
فبدل اشاعة ثقافة التعايش والحوار بين مكونات المجتمع وارساء قواعد التعددية والتسامح وقيم الاختلاف واحترام الآخر، اصبح التزمّت والتعصب والقمع احد مميزات بعض الجماعات المتدينة، في حين يناديهم القرآن: «فَبَشِّرْ عِبَادِ# الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ» (الزمر: 17و18).
فبدل ان تكون المواطنة ملاك التمتع بالحقوق اصبحت الاعراق والمعتقدات مقسم مكونات البيت الواحد. وبدل احياء مفاهيم الدين التي تمجد الحياة وتأمر بإستثمارها واعمارها غدت ثقافة تمجيد الموت هي الطاغية وأمسى الموت للنفس والآخر اكبر امنية. وقد امتدّت القسوة هذه لتحرق حتى الطبيعة. فمورس العنف بأبشع صوره في حقها وأغفلت التوصيات التي جاءت بها الديانات. (عبد الجبار الرفاعي، تحديث التفكير الديني وتنمية وتطوير المجتمعات الاسلامية، موقع مركز دراسات فلسفة الدين).
واليوم حيث يمر عراقنا بمرحلة استثنائية من تاريخه، وقد تعرّض فيها كل شئ للإنهيار حتى عراقية الانسان العراقي، واصبح الأمن مفقوداً او مهدداً على جميع الاصعدة سواء الامن الاجتماعي في كل مجالاته، والامن الاقتصادي والنفسي والصحّي.
قتل مليون انسان، وتعوق اضعافهم، وتشرد مليونين داخل البلد وضعفهم خارجه، كان اول نتيجة عينية للعنف في العراق خلال نصف عقد الماضي. واما الآثار النفسية والتربوية البعيدة الامد، فقد تكون الحلقة الامر من هذا المسلسل الذي ما من عراقي الّا وشمله.
لكننا ولشديد الأسف لا نرى في مثل هذا الظرف الحرج المؤسسة الدينية تستخدم كل طاقاتها للخروج بالشعب من هذا المنزلق الخطير، وهي التي احتلّت موقع القداسة لدى كثير من العراقيين نتيجة قناعتهم بامانتها وصدقها واخلاصها وزهدها وتواضعها معهم ومشاركتها همومهم عبر التاريخ. لذلك اصبحوا يثقون بها ويعتمدون عليها ويتبعونها ويأتمرون لها ويبذلون في سبيلها الغالي والنفيس. وبإعتبارها راعية لمصالح الناس وخاصّة المعوزين والقصّر منهم على مدى التاريخ ـ كما امرها الله وجميع انبياءه ـ يقدّم الناس لها التبرعات والنذورات والاوقاف والخمس واصناف الزكوات.
لهذا تفوق قابلية المؤسسة الدينية في التأثير على الناس وتعبئتهم، قدرات اي حكومة، خاصة اذا ما تضافرت جهود المؤسة الدينية والحكومية، فبامكانها تحقيق المعاجز، وهذا ما رأيناه بأم اعيننا في احتفالية الاربعين الحسينية الماضية، إذ تمتلك وسائل عدّة لتغيير الوضع الراهن والنهوض به وتحريك المجتمع نحو الأمان والتنمية المستدامة.
المراد من الأمن في هذه الورقة هو الإحساس الجمعي بالأمن، فهو أساس أي تنمية مستديمة، ولا تتم عمليات التغير الاجتماعي الا في ظل استقرار امني.
احد اهم ابعاد ظاهرة التطرف والإرهاب المعاصرة والتي قد تميزها الى بعض الحدود عن التطرف المتعارف تاريخيا هو البعد الفكري له، ودوره في توجيه انفعالات وطاقات الشباب ودفعهم إلى التطرف، ومن ثم العنف والإرهاب. فالأمن الوطني كلٌّ لا يتجزَّأ، وأيّ إخلال بالأمن المادّي يسبقه إخلال بالأمن الفكري.
نرى اليوم خطورة الإرهاب على أمن البلاد واستقرارها، وعلى أمن المجتمع بكل مقوماته، وخطورته على الأمن الوطني والإقليمي، وعلى كيان الدولة وسيادتها؛ بحيث فرض نفسه على الأجندة السياسية والأمنية على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية؛ وهو خطر حقيقي متعاظم، تزداد خطورته مع حدة التطرف في كل المجتمعات، ومع تطور أدوات التخطيط والتنفيذ المتاحة بالتقنيات القاتلة الحديثة، وكون الإرهاب في المستقبل اكثر خطورة بسبب إمكانية استخدام أسلحة الدمار الشامل. فتتعين حاجة مُلِحَّة لوضع إستراتيجية وطنية لتحقيق الأمن الفكري تقوم على تفعيل مؤسسات التنشئة الاجتماعية وغيرها من المؤسسات. (عبد الحفيظ بن عبدالله المالكي، نحو بناء إستراتيجية وطنية لتحقيق الأمن الفكري في مواجهة الإرهاب، رسالة دكتوراه، 14 مايو 2006م. مجلة البحوث الامنية، العدد 35).
للإرهاب أسباب مباشرة تتضمن: التطرف الديني، والانحراف الفكري، وبصورة خاصة انتشار الفكر التكفيري، إضافة إلى الأسباب السياسية سواء كانت خارجية مرتبطة بالظروف والمتغيرات الدولية، أو كانت داخلية ممثلة في محاولات الضغط على الحكومة لتبني سياسات معينة، أو الرغبة في تغيير نظام الحكم والوصول إلى السلطة. أما العوامل غير المباشرة التي قد تهيئ البيئة المناسبة للتجنيد والاستقطاب فتشملُ: الأسباب الشخصية، والتربوية أو الاقتصادية، إضافة إلى الاستفزاز الإعلامي المحفِّز على الكُره والتطرف، أو الطرح المخالفِ لروح الاديان والقيم البشرية. (عبد الحفيظ بن عبدالله المالكي، م.س)
اما عن الأسباب والعوامل المؤدية إلى الانحراف في الفكر الديني الذي يقود إلى الإرهاب نستطيع القول ان اهمها هو: الغُلُوَ في الدين، وبصورة خاصة الغُلُوُّ في التَّكفير، والأخذ بظواهر النصوص الشرعية، وعدم فهم مقاصدِ الشريعة الإسلامية وغاياتها، والتأثُّر بفكر الغُلاة والمتطرفين الذي يبشرون به من خلال الفضائيات والمواقع الالكترونية والكتب والنشرات والأشرطة، وكذلك تقصير بعض مؤسسات التنشئة الاجتماعية في أداءِ وظائفها الدينية والتربوية والتعليمية، ومن ذلك أيضاً استغلال الصحوة الدينية والطبيعة الملتزمة لدى المجتمع العربي لتمرير الأفكار المنحرفة المتسترة بالدين ونشرها بين الشباب. (عبد الحفيظ بن عبدالله المالكي، م.س).
اما بالنسبة لدور مؤسسات التنشئة الاجتماعية؛ واهميتهاالبالغة في تحقيق الأمن الفكري، يأتي المسجد في مقدمة تلك المؤسسات، فيجب الاهتمام بدور المسجد بصفة عامة، وبحسن اختيار الأئمة والخطباء بصورة خاصة؛ لأن الفكر الضال الذي يدفع إلى الإرهاب إنما يستند إلى تصوُّرات دينية منحرفة، وينطلق من التطرف والغلو، ومن التأويل الفاسد للنصوص، لهذا أجدر الناس بمحاربة هذا الفكر هم العلماء وطلبة العلوم الشرعية والأئمة والخطباء، الذين يحظون بمنزلة كبيرة لدى أفراد المجتمع، ويجدون القبول منهم، إضافة إلى أنهم يمتلكون أفضل منابر الاتصال بالمجتمع وأوسعها انتشاراً. (عبد الحفيظ بن عبدالله المالكي، م.س).
ـ الإنسان مخلوق كرمه الله على سائر المخلوقات وجعل له حقوقا مرعية اتفقت عليها الشرائع، فإنتهاك هذه الحقوق يشكل خطرا عالميا ويهدد السلام العالمي والتعايش السلمي.
ـ ترويع الآمنين والمدنيين بأي صورة من صور الاعتداء والتخويف هو إرهاب لاتقره شريعة من الشرائع.
ـ العدل هو قاعدة السلام والتعايش السلمي، والظلم بكافة صوره وأشكاله سبب أساسي للعداء والحروب والإرهاب بجميع صوره وأشكاله.
ـ أن اغتصاب الحقوق والاعتداء على المقدسات والممتلكات هو أخطر ما يهدد السلام العالمي والتعايش السلمي ويجر العالم إلى ويلات الحروب وما يتبعها من مآس ودمار. فيجب استنكار كل ما من شأنه الإساءة لشعائر ومقدسات الناس والعمل على غرس الاحترام المتبادل.
ـ احترام العهود والمواثيق واجب مقدس في جميع الشرائع ضمانا للأمن وتحقيقا للتعايش السلمي. (توصيات الدورة العاشرةلمؤتمر الحوار الإسلامي ـ المسيحي المنعقد بالمنامةفي 28 إلى 30 أكتوبر 2002م).
ـ ضروة تفعيل دور مؤسسات التنشئة الاجتماعية في تحقيق الأمن الفكري لتسهم مع غيرها من المؤسسات المعنية في حماية الأمن الوطني بكل مقوماته.
ـ ترسيخ وسطية الإسلام واعتدال مبادئه في المجتمع، والتعريف بالأفكار المنحرفة للتحذير من الوقوع فيها، ومراعاة ألا تكون المساجد ـ بمرافقها وأنشطتها المختلفة ـ منطلقاً للأفكار المتطرّفة الداعية إلى الإرهاب.
ـ يجب ان تقدم المؤسسة الدينية تعريفها من الإرهاب، وتحديد مصداق الارهابي، خاصة وانهم ينسبون انفسهم ـ كذبا وزورا ـ للديانات. ولا يجوزالسماح بإتخاذ الدين ستارا أو مبررا لسلب الممتلكات أو الاعتداء على الأرواح والمقدسات. كما عليها شجب الاعتداء على الحقوق والممتلكات والمقدسات مهما كانت الدوافع والمبررات.
ـ توعية المجتمع بالأحكام المتعلقة بالجهادوضوابطه، وتصحيح مفهوم المصطلحات الشرعية لدى عامة الناس.
ـ أن يسهم المسجد في تأصيل الولاء والانتماء للوطن وتحقيق المواطنة الصالحة.
والعمل على تحقيق رسالة المسجد الثقافية والتربوية.
ـ أن تقوم الجهات المعنية بالإشراف على المساجد باختيار الأئمة والخطباء وفق معايير دقيقة، مع استمرارية المتابعة وتقويم الأداء، ووضع البرامج المناسبة لرفع مستوى ثقافة الأئمة والخطباء الدينية والسياسية والاجتماعية ليُسهِموا في تحقيق الأمن الفكري.
ـ تثقيف الناس وتوعيتهم بحقوق غير المسلمين في المجتمع المسلم. وضرورة تدخل الرموز الدينية لإنهاء المذابح والمجازر ضد الأقليات لإحلال الأمن والسلام واقرار التعايش السلمي.
ـ مراجعة الأوعية العلمية المتاحة لطلاب العلوم الدينية لتنقيتها مما يدعو إلى الغُلُو والتطرّف، وتوفير المراجع العلمية المناسبة لمعالجة الانحرافات الفكرية والعقدية والسلوكية لتكون في متناول الطلاب وأعضاء هيئة التدريس.
ـ تضمين المناهج الدراسية شرحاً وافياً لأحكام الإسلام فيما يستند إليه دعاة الانحراف الفكري لتبرير أقوالهم وأعمالهم، وبيان منهج الإسلام في تنظيم العلاقة بين الناس. (عبد الحفيظ بن عبدالله المالكي، م.س).
ـ ضرورة فتح أبواب الحوار البناء بين جميع الشرائع والمعتقدات لتحقيق التعاون المطلوب لإرساء مبادئ السلام العالمي والتعايش وتحقيق الأمن والأمان للأفراد والمجتمعات.
ـ رفض كل أنواع التمييز الظالم بين البشر بجميع أشكاله والتأكيد على تحقيق مبادئ حقوق الانسان والمطالبة بمزيد من التعاون بين الديانات لتحقيق التعايش السلمي بين الأفراد والمجتمعات. (توصيات الدورة العاشرةلمؤتمر الحوار الإسلامي ـ المسيحي، م.س).
تمتلك المؤسسة الدينية مجموعة آليات لتحقيق هذه الخطوات، نشير لأهمها.
اهم آليات المؤسسة الدينية للتأثير على المجتمع:
ـ الافتاء وهو من صنف التشريع ويمتلك قدرة ردع الناس او ابتعاثهم. ولشديد الاسف نرى اليوم بعض من تصدى لأمر الافتاء لا يحسنون حتى ادبيات الصنعة الفقهية، ويكفرون الناس بكل بساطة ويصدرون احكاما بقتلهم وهناك من ينفذ هذه الاحكام. ولا يراودهم ادنى تردد في صحّة موقفهم هذا. بينما نرى كبار صحابة الرسول واقرب الناس منه كانوا يطلبون المشورة من الناس: (… فَلَا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ وَلَا آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي إِلَّا أَنْ يَكْفِيَ اللَّهُ مِنْ نَفْسِي مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي …)، (نهجالبلاغة، الخطبة 212، خطبته في صفين عن حق الوالي وحق الرعية).
ولا نلحظ رادعا لهم عن هذا الامر. بينما يجب ان يفهم الجميع بأن الحاكم الوحيد هو القانون، والمسؤول الوحيد عن تطبيقه هي الحكومة المنتخبة من قبل الناس لا غير.
ـ التبليغ والخطابة والمنابر ودور العبادة وهي كفيلة بتوعية وتثقيف واصلاح اخلاق الناس لو استغلت بشكل صحيح.
ـ تأسيس مراكز خيرية ومبرّات لرعاية القصّر والايتام والمعوزين وذوي العاهات الخاصّة والأرامل، والمساهمة في حل مشكلة البطالة وتخفيف اعباء الفقر الثقيلة عن الطبقة المعدمة.
ـ يبدو أنّ تفعيل هذه الآليات وكذلك اعطاء صورة صحيحة عن الدين ورسالة الرحمة وكشف ابعادها المعنوية والعقلانية والجمالية والرمزية كفيل بحل جزء كبير من انعدام الامن المتعدد الابعاد والوجوه المحيط بالوطن واهله.
ـ كتب الحديث: مستدرك وسائل الشيعة، مجموعة ورام، غرر الحكم ودرر الكلم، نهج البلاغة.
ـ توصيات الدورة العاشرةلمؤتمر الحوار الإسلامي ـ المسيحي المنعقد بالمنامةفي 28 إلى 30 أكتوبر 2002م.
ـ عبد الجبار الرفاعي، تحديث التفكير الديني وتنمية وتطوير المجتمعات الاسلامية، موقع مركز دراسات فلسفة الدين.
ـ عبد الحفيظ بن عبد الله المالكي، نحو بناء إستراتيجية وطنية لتحقيق الأمن الفكري في مواجهة الإرهاب، رسالة دكتوراه، 14 مايو 2006م، منشور في مجلة البحوث الامنية، العدد 35.