أحدث المقالات

تمهيد ـــــــ

يسعى علم القانون إلى تنظيم علاقات المجتمع الإنساني، وإرساء قواعد له؛ من خلال تحقيق جميع المصالح المتعارضة لأعضاء المجتمعات البشرية؛ ولهذا فعلم القانون يجب ـ وضمن استجابته لأعلى مستوى من متطلّبات أفراد المجتمع الإنساني ـ أن يحدّ من ذلك التعارض بينهم إلى أقل حدٍّ ممكن، وأن لا يعرّض حرّيات الأفراد للخطر الحقيقي.

مع ذلك، ففي بعض الأحيان يكون تأمين حقوق وحريات فئة من المجتمع على حساب حريات وحقوق فئة أخرى، وفي مثل هذه الحالة تسعى كلّ فئة إلى وضع تنظيمات وقواعد تنسجم ومصالحها، والقانون الدولي([1]) يعاني بدوره من هذه المشكلة؛ فالاختلاف الطبيعي بين مقاصد الدول النامية وأهدافها وبرامجها من جهة، والدول المتقدمة صناعياً من جهة أخرى، والذي يصل في كثير من الأحيان إلى حدّ التعارض، جعل كلّ مجموعةٍ تسعى لإقرار قواعدها وتثبيت أعرافها الخاصّة بوصفها bقاعدة آمرةv([2])، بما لا يتفق مع المجموعات الأخرى، ويظهر هذا الأمر جلياً في المحافل الدولية على هيئة تكتلات دولية، كلّ واحدٍ منها له مؤسّساته ومنظماته الدولية الخاصة، ليرصد من خلالها نشاطات التكتل الآخر، ويصون مصالحه بشكل أفضل.

فعلى سبيل المثال، للدول المتقدمة صناعياً، اجتماعات منظمة تحت عنوان bالدول الصناعية السبعv، فيما تجتمع الدول النامية ـ بدورها ـ في إطار bحركة عدم الانحيازv، وهذا الجدال نجده أيضاً في منظمة الأمم المتحدة؛ فالدول النامية التي تشكّل الأكثرية في الجمعية العمومية، تسعى ـ من خلال القرارات التي تصدرها ـ إلى الوقوف بوجه نشاطات الدول المتقدّمة التي تسيطر على مجلس الأمن، ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى القرار رقم (1803) الذي أقرّته الجمعية العامة بتاريخ 14 كانون الأول/ ديسمبر 1962م، والذي أكّدت فيه من جهة، مبدأ السيادة الوطنية على المصادر الطبيعية، فيما اعتبرت التأميم ـ من جهة أخرى ـ أحد مظاهر سيادة الدولة، وكذلك أصدرت الجمعية العامة في اجتماعها الطارئ سنة 1974م البيان رقم (3201)، ووضعت فيه أساس النظام الاقتصادي الدولي الجديد، لكن الدول المتقدّمة ترى أن مثل هذه القرارات عادية وليس لها ضمانة تنفيذية، فحتى القرار رقم (2749)، الذي أصدرته الجمعية العامة بكامل أعضائها، بتاريخ 17 كانون الثاني/يناير 1970م، اعتبرته الدول المتقدّمة مجرّد بيان سياسي يفتقد لأدنى حدّ من النتائج القانونية.

القانون الدولي التقليدي والقانون الدولي المعاصر ـــــــ

بما أنّ القانون الدولي وضع على يد المفكّرين الأوروبيين، الذين لم ينظروا إلا إلى مصالح دولهم ومنافعها؛ لذلك فحصول الدول النامية على حقوقها من خلال هذا القانون ـ ذي الخصائص الأوروبية الشديدة ـ ليس من الميسّر بالضرورة؛ فمنذ أوائل الستينات، وبصدور القرار (15) 1514، حول منح البلدان والشعوب المستعمرة الاستقلال، دخل القانون الدولي في مرحلة جديدة وحاسمة؛ حيث سعت الدول التي حصلت على استقلالها، إلى تغيير خصائص القانون الدولي التقليدي وإخراجه من كونه نادياً تحتكره الدول الأوروبية، وتبديله إلى هيئة عالمية ودولية حقيقية، لكنّه لم يكن من السهل الوصول إلى ذلك الهدف؛ لأن تاريخ وضع القواعد التي تحكم القانون الدولي كان من صلب التاريخ الأوروبي ووليد تفاعلاته.

والحقيقة، إن انتشار القانون الدولي واتساعه إلى سائر بلاد العالم كان مقارناً لاتساع سلطة الدول الاستعمارية، وبهذا؛ تمّ فرض ذلك القانون على سائر الدول.

لقد تجاهل علماء القانون الأوروبيون القدامى وجود حضارات غير أوروبية قديمة، مثل الحضارة الإيرانية والصينية والهندية، واعتبروا أنفسهم مؤسّسي الحضارة العالمية؛ لذلك خوّلوا أنفسهم صلاحية علمية لوضع قواعد القانون الدولي وإجرائها، ولأن القانون يجب أن يكون وليد نظام يحتاجه المجتمع، فقد أصبح تنفيذ هذه القواعد على الساحة العالمية ـ مع دخول ذلك الكمّ الكبير من الدول المستقلّة حديثاً ـ أمراً صعباً غير ميسور، وبتعبير آخر: أصبحت القواعد التقليدية للقانون الدولي الذي وضعه علماء القانون الأوروبيون عاجزةً عن الاستجابة للمتطلّبات المستجدّة بسبب صحوة الدول المستقلّة حديثاً، وصار من الضروري تحوّلها باتجاه تأمين المتطلّبات الجديدة للمجتمع الدولي؛ فالقواعد التي دخلت القانون الدولي بعد ذلك كانت بتأثير نسبي من دول العالم الثالث الغنية أو المستجيبة للتطوّرات الدولية.

وبأخذ العوامل السابقة بنظر الاعتبار، يتضح أنَّ القانون الدولي التقليدي كان تجلّياً للقانون الأوروبي، فيما كان القانون الدولي المعاصر انعكاساً للقانون العالمي، الذي استجاب لبعض مطالب الدول النامية.

والنتيجة التي نستخلصها مما سبق، أنّ الجمعية العامة للأمم المتحدة تنسجم أكثر مع القانون الدولي المعاصر؛ فالقرارات الصادرة عن هذه الجمعية تعبّر عن آمال العالم الثالث، ونراها ـ في أكثر الحالات ـ تنفي العرف التقليدي الثابت، وتنبذ القوانين الناشئة عنه. من جهة أخرى، نجد أن القرارات السياسية لعلماء القانون في الدول الغربية الدائمة العضوية في مجلس الأمن ـ الصادرة عن الجمعية العامة ـ تفتقد الاستقرار، كما تفتقد العناصر اللازمة لعرف دولي.

القانون الدولي المعاصر والقانون الدولي للتنمية ـــــــ

حصول الدول ـ التي كانت لعشرات السنين تعاني من نير الاستعمار ـ على استقلالها، جعلها تفكّر بأنّ نهاية السيطرة السياسية، ستؤدي بها إلى التطوّر الاقتصادي، ومع انتهاء عقد الستّينات، وصلت دول العالم الثالث إلى هذه النتيجة، وهي أنّ الاستقلال السياسي لم يقضِ على الفارق الاقتصادي بينها وبين الدول الصناعية الاستعمارية. وبتعبير آخر: رغم الاستقلال السياسي لم تستطع الدول النامية رفع الفوارق الاقتصادية بينها وبين الدول الصناعية الاستعمارية، بل إنّ الاستقلال السياسي لهذه البلدان جعلها ـ تدريجياً ـ تواجه مشكلة التخلّف وعدم التنمية بشكل أكبر.

وبهذا ظهرت الفكرة التالية: لا يمكن للاستقلال السياسي أن يحقّق التنمية الاقتصادية، دون تغيير في نظام القانون الدولي المتبقي من فترة الاستعمار؛ إذ يقوم على عدم التعاون ولا التكافؤ، بل على الهيمنة، فيما القانون الدولي المعاصر، لا يرى إمكانيةً للتنافس بين دول مستقلّة حديثاً ومثقلة بمخلّفات فترة الاستعمار مع الدول المتقدمة صناعياً، إلاّ بإعطاء بعض الامتيازات لتلك الدول المستقلّة حديثاً؛ ولهذا السبب جعل القانون الدولي المعاصر، التغييرَ في نظام قانون التجارة الدولية، في مقدّمة أعماله، وبهذا الشكل ظهر القانون الدولي للتنمية بغية تقنين كيفية كسب العالم الثالث تلك الامتيازات.

من جانب آخر، يشكّك القول بإعطاء امتياز لدول العالم الثالث في التجارة الدولية من قبل الدول الصناعية المتطورة، في فكرة تساويهم قانونياً؛ لأن التساوي القانوني يتنافى مع إعطاء دولة معينة امتيازاً في علاقاتها التجارية مع دولة أخرى. والحقيقة، إن القانون الدولي للتنمية يحاول إيجاد مساواة اقتصادية في ظلّ عدم مساواة قانونية، من خلال سدّ الفوارق الاقتصادية بين دول العالم الثالث والدول المتطوّرة صناعياً، ويرى هذا القانون أنّ مشاكل العالم الثالث الحاليّة ما هي سوى مخلّفات للاستعمار الذي تعرّضت له هذه البلدان، وهذا ما يبرّر إعطاء العالم الثالث امتيازاً في التجارة الدولية.

سلاح النفط ـــــــ

بعد اشتداد الصراع العربي ـ (الاسرائيلي)، والدعم اللامحدود الذي قدّمته الدول الصناعية الغربية للكيان الصهيوني، قرّرت الدول العربية النفطية وقف تصدير النفط للدول المساندة للكيان الصهيوني، وشاهدت الدول الغربية الضرر الذي لحقها من ذلك، وبذلك أدركت دول العالم الثالث قدرتها على مواجهة المستعمرين السابقين.

هذا الحادث المهم أدى لأن يستعيد العالم الثالث قدراته، وأن يطالب ـ من موقع أقوى ـ بحصّته في الاقتصاد الدولي، كما جعله يفهم أنّ سلاح الحصار والحظر الاقتصادي، الذي كانت الدول المتقدّمة صناعياً تستخدمه بسهولة ضدّ الدول الأخرى، يمكن أن تستخدمه دول العالم الثالث أيضاً ضدّ الدول المستكبرة، لكنّ النجاح فيه مشروط ـ قبل كلّ شيء ـ بالاتحاد والتعاون فيما بينها، فهذا التعاون موجود بين الدول المتقدّمة، لذلك نرى أنّ سلاح الحظر الاقتصادي الذي بيدهم فاعلٌ ومؤثر جداً، يستخدمونه ضدّ دول العالم الثالث متى شاؤوا ولأي سبب يرونه، فهل تتخلّص دول العالم الثالث من تشتتها وفرقتها؛ لكي تستخدم السلاح ذاته ضدّ القوى المهيمنة؟

أهداف القانون الدولي للتنمية ـــــــ

من مجمل ما قلناه، يمكن استنتاج ما يلي: إنّ القانون الدولي للتنمية، يحاول بيان قواعد ترعى جهود الدول المتقدّمة في تنمية وتطوّير الدول النامية والمتخلّفة، بوصف ذلك مسؤوليةً قانونية يجب أن تقوم بها، ومفهوم هذه المسؤولية في الحقيقة يتمثل في تسديد الدول المتقدّمة لما نهبته واستثمرته من ثروات في فترة سيطرتها الاستعمارية على المناطق التي عانت من الاستعمار القديم. وبعبارة أخرى: تمثل ظاهرة عدم التنمية نتيجةً طبيعية وسيئة لظاهرة الاستعمار؛ إذاً فعدم التنمية في المستعمرات السابقة هو من آثار وتبعات السيطرة الاستعمارية، فقد أدّى ذلك الاستعمار إلى تطوّر الدول والامبراطوريات الاستعمارية ونموّها من جهة، فيما تسبّب في تخلّف اقتصاد المناطق المُستعمَرة وانهيارها من جهة أخرى.

وقد دلّ القانون الدولي للتنمية ـ بكشفه لواقع التخلّف ـ على حقائق مُرّة كانت خافيةً في هذا المجال، وقدّم أساليب مؤثرة لرفع مستوى التنمية في الدول المتخلّفة، حتى يتهيأ بذلك إطار قانوني لتحقيق التعاون الدولي بشكل حقيقي ودائم؛ لأن الفارق الكبير بين مستويات معيشة ورفاه أعضاء المجتمع الدولي، يحول دون ذلك.

والمحاور الأساسية لتحقيق هذا الهدف، هي:

1 ـ السيطرة الحقيقية على مصادر الثروة الطبيعية لدول العالم الثالث، واستخدام عائداتها في سبيل تنمية اقتصادها وتطويره وطنياً.

2 ـ عدم امتناع الدول المتقدّمة من نقل تكنولوجيتها المتطوّرة إلى الدول النامية، وإيقاف هجرة الأدمغة من الدول النامية إليها.

3 ـ يجب أن لا تؤدي إجراءات الدول النامية لإحكام سيادتها العملية على مصادر ثرواتها الوطنية، إلى قطع عملية نقل التكنولوجيا من الدول المتقدّمة صناعياً.

4 ـ يجب أن لا يؤدي نقل التكنولوجيا من الدول الصناعية إلى الدول النامية، إلى تدخل الأُولى في شؤون الثانية، أي مقايضة التكنولوجيا بالامتيازات السياسية.

5 ـ يصبّ عدم المساواة القانونية في التجارة الدولية في مصلحة الدول النامية، وذلك بهدف الوصول إلى المساواة الاقتصادية.

في هذه الحالة، يغدو bالقانونv وسيلةً لإيجاد مساواة اقتصادية، فيما نجد أنّ من مصاديق عدم التساوي القانوني هذا، إجراء نظام ميزان التفاضل الجمركي، واختيار سياسات وبرامج تنسجم ومتطلّبات العالم الثالث من قبل المؤسّسات المالية والاقتصادية الدولية، مثل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة غات، أو تخصيص حصّة أكبر من عوائد ميراث البشرية المشترك (المعادن الواقعة في أعماق المياه الحرّة والخارجة عن سيادة أيّة دولة) للعالم الثالث.

مباحث القانون الدولي للتنمية ـــــــ

المباحث التي تدرس في علم القانون الدولي للتنمية، هي:

1 ـ ظهور وانحطاط الامبراطوريات الاستعمارية، وتبعات سيطرتها الطويلة على البنية الاجتماعية والاقتصادية للعالم الثالث.

2 ـ تأثيرات ظاهرة عدم التنمية في الاقتصاد العالمي.

3 ـ القانون الذي يأخذ بنظر الاعتبار سيادة العالم الثالث على المصادر الطبيعية الموجودة في أراضيه.

4 ـ تأميم ومصادرة الأموال ورؤوس الأموال الأجنبية في العالم الثالث.

5 ـ حصّة العالم الثالث من المصادر الواقعة خارج ميدان السيادة الوطنية للدول، وفي أعماق المحيطات.

6 ـ النظام الاقتصادي الدولي الجديد في قبال النظام العالمي الجديد.

7 ـ القانون الدولي للتنمية في قبال حقوق الإنسان.

8 ـ القانون الدولي للتنمية في قبال القانون الدولي الاقتصادي.

9 ـ تنظيم القواعد التي تحكم التجارة الدولية.

في الختام، نشير إلى أنّ العالم الثالث، ومن خلال طرح آرائه في إطار القانون الدولي للتنمية، لا يسعى إلى إلغاء أو إنكار القانون الدولي، وإنما يريد تغيير بُنية القانون الدولي التقليدي، الذي لا يهتمّ بالتنمية الاقتصادية في العالم الثالث، من أجل تثبيت قانون دولي حقيقي، يعترف بمكانة العالم الثالث على الساحة الدولية، وبدون أدنى شك، لو استطاع العالم الثالث إكمال الخطوات التي بدأها قادة عدم الانحياز في مؤتمر باندونغ، وتحقّق التعاون بين دوله، عند ذاك هناك أمل كبير بأن تصبح مقرّرات القانون الدولي للتنمية، عرفاً دولياً، ويصل العالم الثالث إلى التنمية الاقتصادية والاستقلال الحقيقي.

*   *     *

الهوامش

(*) أستاذ جامعي ومتخصص في القانون الدولي.

[1] ــــ نقصد بالقانون الدولي في هذا المقال، القانونَ الدوليّ العام، الذي يبحث في تنظيم علاقة السيادات المستقلة، والمفصول عن قانون الدول الخاصّ.

[2] ــــ القاعدة الآمرة (Jse Cogense) في القانون الدولي، هي القاعدة التي يؤدّي التخلّف عنها في معاهدة دولية إلى بطلان تلك المعاهدة.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً