أحدث المقالات

مدخل

غدت العلوم في عصرنا ــ إضافةً إلى التبسيط ــ تخصصيّةً، حتى الفلسفة ذات الطبيعة الآبية عن التجزئة أصبح حالـها على هذا المنوال، ولربما كانت هذه التخصّصية أحياناً بالغةَ الجزئيّة مما لم يتصوّره أحدٌ في سالف الأزمان، ففي الطب لدينا اختصاصات مختلفة، من القلب، والرئة، والدماغ والأعصاب، والأذن، والعين، بل اختصاصات أضيق دائرةً من ذلك بكثير من قبيل آلام المفاصل، ومن بينها الركبة، واليد و.. وهكذا الحال في الفلسفة، فقد بات هناك فيلسوف أخلاقٍ، وآخر متخصّص في المنطق، وفيلسوف سياسة، وفيلسوف تاريخ و.. بل الحال على هذه الشاكلة في سائر العلوم الأخرى أيضاً.
أمّا في سالف الأزمان، فقد كان الحال على خلاف ذلك تماماً، إذ كانت العلوم أكثر محدوديةً وأقلّ عدداً، ومن ثَمّ كانت أكثر ارتباطاً والتئاماً فيما بينها، ففي علم الطب، ربما لم يكن هناك أزيد من اختصاصين أو ثلاثة تقسّم بالاستقلال والتمايز، وذلك مثل: الكحالة (طب العيون)، والصيدلة (علم الأدوية وصنعها)، والجراحة (الطب اليدوي)، من جهة أخرى، كانت العلوم المختلفة مستبطنة في عنوان جامع يستوعبها برمّتها، ألا وهو ((الفلسفة)) أو ((الحكمة))، من هنا وجدنا طلاب العلوم هادفين لكسب سمة الجامعية والاستيعاب، وقد بلغ الرادة منهم ورجال النخبة مقاماً سامياً، لم يكن يدعو سوى إلى الغبطة والإعجاب، وقد باتوا يعرفون اليوم ــ وفق اصطلاح مؤرّخي العلوم ــ بلقب الفيلسوف أو العالم، كما كان فيلسوف العلماء عادةً صاحبَ رؤيةٍ خاصة في مختلف العلوم العقلية السائدة، مؤلّفاً كتباً ورسائل فيها.
أبو علي سينا، واحدٌ من هؤلاء الفلاسفة العلماء([1])، بل الرائد فيهم، بوصفه الشيخ الرئيس، وأستاذ الفلاسفة الإسلاميين، وعلى حدّ قول الأوروبيين: أمير الأطباء.
من هنا، كانت لابن سينا نتاجات مدوّنة كثيرة، صغيرة وكبيرة، في مختلف العلوم العقلية، ومن بينها الأنواع الثلاثة، أو الأقسام الأربعة للحكمة العملية وفق الرأي الأخير لابن سينا نفسه، وإذ كانت لديه منظومة فلسفية وبناء فلسفي لم يستطع ــ طبيعةً ــ أن لا يترك في الأخلاق، والعائلة، والاقتصاد، والسياسة، والتقنين أثراً ولا نتاجاً.
 
الخطأ المنهجي في دراسة الفلسفة السياسية السينوية
إن الاستدعاء الطبيعي القهري لوجود منظومة فلسفية ظهورُ مثل هذا النتاج وتلك الأفكار، إلا أن المنظومة الفلسفية لابن سينا لم تحظ ــ حتى الساعة ــ سوى باهتمام ضئيل من الزاوية التي نتحدّث عنها، لا بل لعلّ من الأفضل القول: إنّها لم تنل ــ بشكل جاد ــ رعايةً ولا اهتماماً([2]).
وقد غلب على تحليل مؤرّخي العلوم والعلماء دراسة نتاجات ابن سينا وأفكاره في مجال الفلسفة الطبيعية، وعلم الطب، والمنطق، والميتافيزيقيا، دون إعارة حكمته العملية وفلسفته السياسيّة اهتماماً جادّاً، الأمر الذي أدّى إلى بقاء الوجه المدني والسياسي لفلسفة ابن سينا طيّ الكتمان، كما أفضى إلى التورّط في أحكام بعيدة كلّ البعد عن الواقع ولا أساس لـها بتاتاً، إلى الحدّ الذي أوقع بعد أصحاب القلم ومشاهير بلادنا المعروفين في التباس واشتباه، فتصوّروا أنّ ابن سينا لا يملك فلسفةً سياسيّة، لقد حكم هؤلاء في هذا الموضوع حكماً شططاً دون التوّغل في نتاجات هذا الفيلسوف وآثاره، كما ودون الأخذ بعين الاعتبار البحوث السياسيّة التي انطوت ــ متناثرةً ــ في ثنايا كتاباته الفلسفيّة المختلفة، ودون ــ أيضاً ــ ملاحظة البناءات العامّة لفلسفته السياسيّة، تلك البناءات القادرة فيما لو أُعمل التأمّل والتحقيق فيها على إنتاج نظام فلسفي ــ سياسي جامع.
ويمكن تصنيف صاحب كتاب: الدين والعلم في فخّ الاستبداد، واحداً من هذه النماذج المشار إليها، إنّه يعتقد بأنّ: ((أبا علي سينا ــ رغم هذه العظمة كلّـها ــ لم يبذل أدنّى جهد في ممارسة تأمّل فلسفي في السياسة))! والحال أنّه يمكن القول بضرس قاطع: إنّ الأبحاث الفلسفية لابن سينا في مجال السياسة وتشييده أسسها وقواعدها وفق القواعد الفلسفيّة كانت أكثر دقّةً حتّى ممّا قام به أبو نصر الفارابي بوصفه أب الفلسفة السياسيّة في العالم الإسلامي، بل لقد كان ابن سينا في بعض الحالات أقرب إلى القواعد العقليّة والحقائق الاجتماعيّة.
رغم ذلك كلـّه نطالع في الكتاب المشار إليه ما يلي: ((صحيحٌ أنّ التراث الفلسفي للفارابي لا سيّما البعد المشّائي فيه قد طوى سبيل الكمال في الفكر المنفتح والعميق لأبي علي سينا ليلج أودية جديدة لم يكن بمقدور الفارابي نفسه وُلُوجَها أو حتّى الحضور في وسطها، إلاّ أن نبوغ ابن سينا نجح في استخراج نتائج جديدة انطلاقاً من المقدمات التي وضعها المعلّم الثاني، وفي الحقيقة إن ما نتج لم يكن سوى ثمار لتلك الأشجار التي كان الفارابي قد غرسها من قبل.
والشيء الذي يبعث على الانتباه الزائد أن أبا علي ـ رغم هذه العظمة كلـّها ـ لم يبذل أدنى جهدٍ في ممارسة تأمّل فلسفي في السياسة. ولعلّ ذلك لاعتقاده ــ واعياً ــ بأنّ السياسة الصحيحة غير ممكنة التحقّق، وإذ كان آيساً من إحداث تغيّرات في بنية الحكم الظالم المزيّف وشخصيّة الحاكم الجائر، ولعلـّه ــ كسائر عظماء الفكر الإسلامي ــ كان يتصّور بأن ما هو حاصل إنما هو تقدير وقضاء لا مفرّ منه، لم نجد له سوى إشارات بالغة الإيجاز والاقتضاب مقارنةً بالأبحاث المتراكمة التي سجّلـها في بقية أبواب الفلسفة، إنّ ابن سينا لم تكن لـه دراسات في السياسة.
لقد عطف ابن سينا فكره الخلاّق ناحية المنطق، وجرّ الفلسفة ــ دفعةً واحدة ــ إلى مجال الطبيعيات والإلـهيات الرحب، وإذ لم يكن غفل عن الأخلاق فقد ركّز نظره على الأخلاق الفلسفية للفرد لا تلك المعنيّة بوجود المدينة وكيانها.
وفي حقبة الاستلام القهري الزائف للسلطة (رغم أنّ سيطرة البويهيين كان يمكن تحمّلـها أكثر من سيطرة المتشرّعة المتعصّبين، إلاّ أنها على أية حال سيطرة قهريّة) دخل أبو علي ــ عملياً ــ دنيا السياسة، ولسنا ندري هل كان في لحظةٍ من لحظاته مشغولاً في التفكير في السؤال التالي:
هل السياسة الحاليّة، التي يشغر ابن سينا مكانة فيها، تنسجم مع تلك المبادئ والأصول المنتقاة في موضوعات ما بعد الطبيعة أم لا؟
لقد هيء ابن سينا ـ بفصلـه عالم النظر عن عالم العمل ـ المجالَ للدخول في الميدان العملي غير المتوالف مع نظرات الفيلسوف، إنّ ذلك اللاإنسجام إمّا لم يقرأه ابن سينا ولم يحلّلـه أو أنّه تغافل عن الإشكاليّات المستبطنة فيه))([3]).
ورغم ملاحظة بعض القراءات والإثارات الظريفة في كلمات السيد خاتمي حول الفلسفة السياسية لابن سينا، كالتفكيك بين عالم العمل وعالم النظر، وعدم انبناء العمل السياسي لابن سينا على المبادئ النظرية لفلسفته، إلاّ أنّها من حيث المجموع محاكمة ظالمة ذات جفاء لابن سينا الكبير، بل ومملوّة بالإغراق.
إنّه لمن المثير للتعجّب جداً والاستغراب أن يكتفي مؤلّف الكتاب القيم ((الدين والعلم في فخّ الاستبداد)) والذي سطره لشرح مسار الفكر السياسي للمسلمين في حقبتي صعود الحضارة الإسلامية وانهيارها، أن يكتفي في حديثه عن الفلسفة السياسية عند ابن سينا وحكمته المدنية بهذا المقطع المنقول آنفاً، لا بل ما يظهر من الموضوع أن المؤلِّف المحترم ربما لم يبذل جهداً في مراجعة أو تأمل نصوص ابن سينا نفسه ذات الصلة بالموضوع مما يقع في متناول يده، كما هو الحال في أواخر إلـهيات الشفاء أو رسالة أقسام العلوم العقلية.. وإنما أصدر حكمه حول هذه الفلسفة دون ذلك.
لقد تغافل الباحث عن الموضوعات السياسية التي أثارها ابن سينا، انطلاقاً من قلّتها قياساً إلى الكمّ الـهائل من الموضوعات السينويّة في الأبواب الفلسفية الأخرى، ولذا اعتقد بأنها محض إشارات عابرة، ومن ثمّ لم يجهد نفسه في التأمّل ــ على الأقل ــ في ذلك المقدار الموجود في كتب ابن سينا كالشفاء والنجاة ودانش نامه اى علائى، ليقدّم ــ عبر ذلك ــ حُكماً أكثر واقعيةً وإنصافاً في حقّ الفلسفة السياسية لابن سينا، سيما وأنّ تلك المقالات الموجودة في الشفاء والنجاة كلّ واحدة منها توازي ــ من حيث الكمّ ــ بعض الرسائل الـهامّة للفارابي في السياسة، كما أنّها على أي حال تعكس ــ من ناحية المضمون ــ أسس الفلسفة السياسيّة السينوية، وهذا ما يجعل من غير الصحيح تجاهلـها تماماً في كتاب هام يُراد به رصد تطوّر الفكر السياسي عند المسلمين، ذلك أن الفلسفة السياسية لابن سينا ــ وكما سيتّضح من خلال هذه الدراسة ويَبين ــ قد دوّنت على نسق خاص، كما توزّعت في مطاوي آثاره ونتاجاته، ومن ثم فلا يتسنّى الوصول إليها إلاّ عبر اتخاذ آليّة خاصة مسبقة، كما أنّ كتابات ابن سينا المتفرّقة في الحكمة العمليّة تملك هي الأخرى أهميّتها ومكانتها الخاصّة بها بحيث لا يمكن غضّ الطرف عنها.
يعتقد الدكتور حسين نصر ــ أحد أبرز الشخصيات الدارسة لابن سينا ــ أنّ ((ابن سينا قد كتب رسائل هامة في اللغة، والقواعد، والمفردات، كما خصّص عدداً كبيراً من صفحات كتاب الشفاء لدراسة السياسة والاجتماع))([4]).
لقد خاض ابن سينا عمليّاً ـ طوال حياته المليئة بالأحداث ـ عالمَ السياسة، حتّى ارتقى بالغاً مقام الندامة، والوزارة، ومشاورة سلاطين عصره، ومن الطبيعي أنّه لم يكن على قطيعة بموضوع الفلسفة السياسية، بل أشار في آثار متعدّدة لـه إلى هذه الموضوعات عند أدنى مناسبة، بل لقد خصّص في بعض الأحيان بحثاً مطوّلاً لـها ضمن موضوعات لا يتوقّع فيها فعل لذلك، مثل الحكمة الطبيعية والمنطق، كما يرشد إلى ذلك حديثه عن أنواع السياسة وفوائد كل واحدٍ منها في طبيعيّات عيون الحكمة([5]).
وقد اشتغل ابن سينا باكتشاف فلسفته السياسيّة وتهذيبها وبَنْيَنَتِها وتثبيت أركانها في فرع مستقلّ من الحكمة الطبيعية يسمّى ((علم النفس))، كما تحدّث حول السياسة في بعض فنون علم المنطق.
ويبدي ابن سينا في بداية كتابه القيّم ((الشفاء))، وهو يسرد فيه مباحثه ويستعرضها، أنّ الكتاب ينتهي بمبحث الإلـهيات وما بعد الطبيعة، ثم يختتم هذا البحث بعرض جملة موضوعات حول الأخلاق والسياسة، ثم يَعِدُ ابن سينا ــ عقب ذلك ــ قارءه بأنّه سوف يصنّف في مجال السياسة كتاباً جامعاً مستقلاً يفرده عمّا سواه، إنّه يقول:
((ثم ختمت الكتاب بالعلم المنسوب إلى ما بعد الطبيعة، على أقسامه ووجوهه، مشاراً فيه إلى جُمَلٍ من علم الأخلاق والسياسات، إلى أن أصنّف فيها كتاباً جامعاً مُفرَداً))([6]).
ولا نعرف، على سبيل اليقين، ما إذا توفّرت الظروف لابن سينا للقيام بذلك أم لا؟ وهل أنجز تدوين ذلك الكتاب المفصّل المنظور إليـه في علم الأخلاقِ والسياسة، كما وَعَد؟ نعم، ثمّة كتاب لابن سينا يحمل اسم ((السياسة))، وهو كتاب متوفّر حالياً، بيد أنه مختصر لا يعدو الرسالة الواحدة، وتدور بحوثه الرئيسية حول فلسفة الأخلاق، وتدبير المنـزل والاقتصاد، كما اختصّ قسمٌ منه لمعالجة سياسة المدن والرئاسة، فهل كان هذا الكتاب هو ما وعدنا به ابن سينا في مدخل شفائه أم كان مختصراً لـه ومنتخباً منه فيما فُقِدَ الأصل وضاع عنّا؟
لا يمكننا في هذا المضمار إبداء رأي دقيق وحاسم، إلاّ أنّ ما يبدو لنا أنّ الكتاب الموجود بين أيدينا اليوم ليس هو ذاك الكتاب الذي وُعدنا به، كما أنّه ليس قسماً منه أيضاً.
والمنهج الذي اتبعه ابن سينا يقوم ــ نوعاً ــ على ربط موضوع النبوّة والسياسة بعضهما ببعض في فلسفته، ولذلك وجدنا كتبه المستقلّة التي صنّفها حول النبوّة مثل: رسالة إثبات النبوّة، ومعراج نامه وغيرهما، ذات صلة وارتباط بموضوعي السياسة والرئاسة، وليست سياسة المدن وحدها التي لاحظنا اندماجها في نتاجات ابن سينا بالخُلقيات وموضوعات النبوّة، بل، وكما أشرت سابقاً، تداخلت أيضاً مقالاته ورسائلـه التي دوّنها حول العقل والنفس، مما يحسب على مباحث الحكمة الطبيعية والإلـهية، مع السياسة وموضوعاتها، وأخذت بالتمازج عن طريق مطاولة موضوع النبوّة، والتشريع، والقانون و.. .
وهذا ما يعني أنّه لا يمكن في ميدان دراسة الفلسفة السياسية لابن سينا تجاهل مباحثه في النفوس والعقول أو توهّم الاستغناء عنها.
لقد تنوّعت نتاجات ابن سينا في السياسة والحكمة العملية، من المباحث البرهانية المحضة، مروراً بالموضوعات الدينية ــ الفلسفية مثل ((معراج نامه))، ورسالة في النبوّات، وصولاً إلى ما احتوته الرسائل السياسية من قبيل ((ظفر نامه))، فعبر المرور على هذه الآثار والأعمال ودراستها برمّتها يمكن التعرّف على الفلسفة السياسية لابن سينا واكتشاف مكوّناتها وعناصرها، وما قام به هذا الفيلسوف من فعل وبذلـه من جهد.
وقد أشار الدكتور ذبيح اللـه صفا إلى بعض هذه الرسائل السينوية، يقول: ((ولابن سينا رسائل في الخُلقيّات والنبوّة متوافرة بين أيدينا اليوم، مثل إثبات النبوّة، المطبوع ضمن مجموعة ((تسع رسائل))، كما تتوفّر لـه اليوم ترجمة فارسية أيضاً، أما ((الأخلاق)) فقد طبع في القاهرة ضمن مجموعة رسائل، ولـه أيضاً: الأخلاق والانفعالات النفسانية، الأرزاق، البرّ والإثم، والسياسة، الذي طبع مرّتين في بيروت، الأولى على يد الأب معلوف اليسوعن عام 1906م، والثانية ضمن المقالات الفلسفية عام 1911م، كما لـه نسخ متعدّدة متوفّرة اليوم أيضاً))([7]).
ولكي نتوصّل إلى وعي الفلسفة السياسية لابن سينا يلزمنا البحث والتنقيب في جملة بنيته الفلسفية على قاعدة السعي لاكتشاف نظرياته السياسية فيها، ومن بين هذا الجهد ينبغي التركيز ــ بصورةٍ مضاعفة ــ على نتاجاته المتمركزة حول الحكمة العملية، وتحليل مختلف المصطلحات والمداخل ذات الصلة بالمادّة المدروسة تحليلاً جدياً ومركّزاً، من قبيل: العقل، والعقل الفعّال، والعقل المستفاد، والعقل بالفعل، والنفس، والنفس الناطقة، والعناية، والنبوّة، والعقل القدسي، والعقل الملكي، والسنّة، والسانّ، والسياسة، والرئاسة، والناموس، والشارع، وواضع الناموس، والعدل، والمعدِّل، وحسن الايالة، والحريّة، والديمقراطية، والسعادة، والشقاوة، والخير، وسياسة الأخيار، والفضيلة، والمدينة الفاضلة، والمدينة الرديئة، والمشاركة، والتعاون، وغيرها مما هو موجود في آثار ابن سينا وأعماله.
إذا سعينا ــ في إطار اكتشافنا للفلسفة السياسية لابن سينا ــ إلى ملاحقة النتاجات المستقلّة والرسائل الخاصّة بالموضوع فقط على شبه ما هو موجود عند الحكيم الفارابي، فإنّنا سنواجه شحّاً أو ضآلة في استخلاص النتائج والمعطيات، فقد نشر ابن سينا فكره السياسي في بُنية المنظومة الفلسفية التي كوّنها، بل لقد عالج قسماً من موضوعات السياسة في الحكمة المشرقية، بل في بطون نتاجاته الرمزية الفلسفية ــ العرفانية من نوع: رسالة الطير، وحيّ بن يقظان، وسلامان وإبسال، ورسالة النير وزيّة، والفصول الثلاثة الأخيرة من كتابه ((الإشارات والتنبيهات)).
والذي يشاهد في فلسفة ابن سينا السياسية ــ كما يلاحظ من القسم الأخير بل وحتى السطر الأخير من إلـهيات الشفاء ــ أنّه أعرض ونأ بجانبه شاعراً بخيبة الأمل حيال السياسات القهرية الزائفة التي كانت سائدةً في عصره، لينحو ناحية السياسة المعنوية التي تعمل على تهذيب البشر وإسعادهم، ليمكن ــ عبر ذلك ــ إعمال تعاليم الأنبياء الحكيمة، وهم من كان يشغر منصب ((خليفة اللـه)) على وجه البسيطة، ومن خلال ذلك أيضاً يمكن تقديم السعادة الخالدة للنوع البشري([8]).
 
تموضع الفكر السياسي في النتاج السينوي
لقد عالج ابن سينا رؤاه المدنية والسياسية ــ وهو ما يشكّل الحكمة العملية عنده ــ ضمن قوالب أربعة مختلفة، وهي:
1 ــ داخل إطار النظام الترتيبي للعلوم.
2 ــ داخل المنظومة الفلسفية السينوية.
3 ــ ضمن حكمته المشرقية وآثاره الرمزية.
4 ــ ضمن رسائل ونتاجات مستقلة ومفردة، صنّفها في أبواب الحكمة العملية.
 
1 ـ إطار النظام الترتيبي للعلوم
تعدّ فلسفة العلم ــ بوصفها آلةً لدراسة المنهج وتنظيم العلوم وتكوين بنائها العام وعلاقاتها ــ الحجرَ الأساس لقصر الفلسفة والعلوم الرفيع، ليس من العهد القريب فقط، بل ومن قديم الأيّام أيضاً، إنّها مفتاح الدخول إلى ذاك القصر المهيب.
لقد سعى الفلاسفة المسلمون لبناء نظريّاتهم وأفكارهم على أساس هذا الإطار التنظيمي، وقد تركّزت نتاجاتهم المتصلة بهذا الموضوع تحت عناوين من قبيل: إحصاء العلوم، وأقسام العلوم، ومفاتيح العلوم وما شابه ذلك، وبعبارة مختصرة: علم الإحصاء.
وقد كان ابن سينا أحد الذين خطوا في هذا الوادي الرحيب خطوات وثّابة، فدوّن كتابه: ((أقسام العلوم العقلية))، معرّفاً ــ ولأوّل مرة ــ بعدد العلوم العقلية والفلسفية ضمن كتاب مستقلّ وخاص، حتّى بلغ بها 53 علماً([9])، وقد أسهب ابن سينا في هذا الكتاب في الحديث عن علم السياسة ومكانته بين العلوم العقلية، كما تحدّث بشكل مختصر عن أقسام العلوم وتنظيمها الرتبي في مواضع متفرّقة من كتاب الشفاء، مستعرضاً ــ بالمقدار المناسب ــ الحكمة العملية وأنواعها([10]).
وقد ذكرنا هنا ثلاثة تقسيمات للعلوم العقلية في كتبه الثلاثة، مستحضرين ــ بصورةٍ أكمل ــ القسم المختصّ بالحكمة العملية، حيث تستبين منه تلقائياً مكانة السياسة وموقعها، والكتاب الأوّل من هذه الكتب هو رسالة الطبيعيات من عيون الحكمة، أما الثاني فهو رسالة أقسام العلوم العقلية، فيما الثالث مقدّمة كتاب منطق المشرقيين، ومنها ننقل ما يلزمنا هنا.
ويمتاز التقسيم الثاني عن الأوّل بموائز واضحة وملموسة، أمّا الثالث الذي جاء في منطق المشرقيّين فهو مختلف من تمام الجهات تقريباً عن صاحبيه الأوّل والثاني، وهو ــ أي منطق المشرقيين ــ من آخر ما صنّفته يراع ابن سينا في الفلسفة.
 
الفلسفة السياسية السينوية في طبيعيات عيون الحكمة
يعرّف ابن سينا في طبيعيات عيون الحكمة كلاً من الحكمة والفلسفة أولاً، ثم يتحدت ــ ضمن تقسيمه لـهما إلى فرعين: نظري وعملي ــ عن الفلسفة السياسية، محدّداً مكانتها ومركزها من هذا التقسيم، ولا يشير ابن سينا في هذه الرسالة إطلاقاً إلى موقع علم المنطق وسط هذه العلوم، كما يعرض الحكمتين النظرية والعملية في السياق الأرسطي المعروف لـهما حيث يضعهما في أقسام ثلاثة، أي أنّ الحكمة العملية تقسّم إلى العلم المدني، والعلم المنـزلي، والعلم الخُلقي، فيما تشطر الحكمة النظرية إلى كلٍّ من الطبيعيات، والرياضيات، والحكمة الأولى، التي تعدّ الحكمة الإلـهية ــ على حدّ قول ابن سينا نفسه ــ مجرّد قسمٍ من أقسامها، لكن ابن سينا لا يشير في هذه الرسالة أبداً إلى فروع الحكمة الرياضية وأقسامها، مع تقسيمه الحكمة الطبيعية إلى أقسام ثلاثة كلية وعامة دون ممارسة تفكيك، وإنّما يسرد ذلك عبر نصّ طويل متصل، كما دون أن يعنون الفصول الصغيرة والفروع الجزئية وما ينضوي تحتها من مجموعات، إلاّ أننا وعبر مطالعة النصّ السينوي المشار إليه تمكّنا من استخراج فروع الحكمة الطبيعية منه، ووضعناها في رسم بياني يلحظه القارئ الكريم، وذلك لكي يتسنّى مقارنة التقسيم الذي استخدمه ابن سينا هنا مع تقسيميه الآخرين في أقسام العلوم العقلية ومنطق المشرقيين.
على أيّة حال، تعرّض ابن سينا في هذه الرسالة التي تدور حول الحكمة الطبيعيّة لتعريف علم السياسة وذكر فوائده، وأنواع الحكمة العملية، وذلك في أواخر الرسالة، وبعد تقديمه ببحث فلسفي عميق ومبنائي في علم النفس، ينهي ابن سينا مباحثه في علم السياسة، معتبراً النبوّة منشأ السياسة، والأنبياء هم المتولّون الأصليون للمجتمعات البشرية.
وينصّ ابن سينا على ما أشرنا إليه في قولـه: ((الحكمة استكمال النفس الإنسانية بتصوّر الأمور والتصديق بالحقائق النظرية والعملية على قدر الطاقة الإنسانية، فالحكمة المتعلّقة بالأمور التي لنا أن نعلمها وليس لنا أن نعمل بها تسمّى حكمة نظرية، والحكمة المتعلّقة بالأمور العملية التي لنا أن نعلمها ونعمل بها تسمّى حكمة عملية، وكل واحدة من هاتين الحكمتين تنحصر في أقسام ثلاثة، فأقسام الحكمة العملية: حكمة مدنية، وحكمة منـزلية، وحكمة خلقية، ومبدأ هذه الثلاث مستفاد من جهة الشريعة الإلـهية، وكمالات حدودها تستبين بها، وتتصرّف فيها ــ بعد ذلك ــ القوّة النظرية من البشر بمعرفة القوانين واستعمالـها في الجزئيات، فالحكمة المدنية فائدتها أن يعلم أنه كيف يجب أن تكون المشاركة التي تقع فيما بين أشخاص الناس، ليتعاونوا على مصالح الأبدان ومصالح بقاء نوع الإنسان، والحكمة المنـزلية فائدتها أن تعلم المشاركة التي ينبغي أن تكون بين أهل منـزلٍ واحد، لتنتظم به المصلحة المنـزلية، والمشاركة المنـزلية تتمّ بين زوجٍ وزوجة، ووالد ومولود، ومالك وعبد، وأما الحكمة الخلقية ففائدتها أن تعلم الفضائل وكيفية اقتنائها لتزكو بها النفس، وتعلم الرذائل، وكيفية توقّيها لتتطهّر عنها النفس))([11]).
وإضافةً إلى عمليات التقسيم ومحاولات التعريف التي يقوم بها ابن سينا هنا بخصوص فروع الحكمة العملية، يشير أيضاً إلى نقطتين أساسيّتين في فلسفته السياسية، وهما:
أ ـ إن للسياسة، والاقتصاد، وتدبير المنـزل، وتهذيب النفس البشرية اتصالاً علّياً وثيقاً بالشريعة الإلـهية، بحيث تستلـهم أسسها ومبادءها وأصولـها من الشريعة الإلـهية من جهة، كما يتمّ شرح السياسة والكشف عنها عبر الاستعانة بالدين ومصدر الوحي.
أما الحكمة النظرية فهي تختلف عن الحكمة العملية، ذلك أنّ مبادءها وأصولـها كانت قد حظيت في كلمات الأنبياء الإلـهيين بمجرّد الإشارة والتنبيه فقط، وعلى حدّ تعبير ابن سينا نفسه: ((ومبادي هذه الأقسام التي للفلسفة النظرية مستفادة من أرباب الملّة الإلـهية على سبيل التنبيه ومتصرف على تحصيلـها بالكمال بالقوّة العقلية على سبيل الحجّة، ومن أوتي استكمال نفسه بهاتين الحكمتين، والعمل ــ مع ذلك ــ بإحداهما، فقد أوتي خيراً كثيراً))([12]).
ب ــ النقطة الأخرى ترتبط بمسألة التقنين، إذ يذهب ابن سينا إلى القول بأن البشر يمارسون عملية التقنين بمعونةٍ من القوّة النظرية، وذلك داخل الإطار العام للشريعة، فيطبقّون الكليات على مصاديقها الجزئية في نطاق العائلة والمدينة، وقد عالج ابن سينا هذا الموضوع أيضاً في مصنّفات أخرى لـه، من بينها إلـهيات الشفاء، مبدياً فيه نظراً يقوم على الاعتقاد بأنّ الثابت هو فقط تلك الكليات والضوابط القانونية الشرعية العامة في نطاق الاجتماع والسياسة، أمّا الجزئيات والمسائل المستجدّة فلا تخضع لـهذا القانون، ولذلك يلزم لتقنين أكثر القوانين والمسائل المبتلى بها في أبواب المعاملات والسياسة إعمالَ الاجتهاد وسلوك سبيلـه، ومشاركة أهل المشورة والاختصاص الرأيَ، غاية ما في الأمر أن ذلك لابدّ أن يكون داخل الإطار العام الذي تفرضه القوانين الكلية الثابتة الشرعية والإلـهية، ذلك أنّ ظروف الزمان والحال في تغيّر مستمر، دون أن تترك للبشر فرصة في التحكّم بها أو ضبطها([13]).
بدورنا، عالجنا في بحث آخر مستقل مكانةَ الشريعة والقانون في المدينة من وجهة نظر ابن سينا، وتعرّضنا لـهذا الموضوع هناك بشكل أكثر تفصيلاً وبسطاً.

ونعرض للقارئ الكريم تقسيم ابن سينا للحكمة ورؤاه فيها، ممّا جاء في رسالة طبيعيات عيون الحكمة، عبر هذا الرسم البياني ليغدو أكثر وضوحاً، ونرفقه بهذا البحث لمزيدٍ الإبانة والإفصاح.

الفلسفة السياسية السينويّة في رسالة أقسام العلوم العقليّة

أبدع ابن سينا في رسالته في أقسام العلوم العقلية منهجاً أكثر دقّةً في تقسيم العلوم وترتيبها، واضعاً المنطق ــ بوصفه علماً آلياً أو حكمةً آلية ــ ضمن علوم الحكمة، مما يجعل أنواع الحكمة ـ وفقاً لـهذا الترتيب ـ ثلاثة: الحكمة النظرية، والحكمة العملية، والحكمة الآلية.
وللحكمة الآلية أو علم المنطق بدوره تسعة فروع وأقسام أساسية، يعدّ كل واحدٍ منها علماً مستقلاً في حدّ نفسه، وقد ربط ابن سينا فرعين من هذه الفروع التسعة بعلم السياسة، وهما: فنّ الخطابة، وفنّ الجدل.
وقسّم ابن سينا أيضاً الحكمة النظرية إلى ثلاثة أقسام، مطلِقاً عليها أسماء العلم الأسفل أو الحكمة الطبيعية، والعلم الأوسط أو الحكمة الرياضية، والعلم الأعلى أو الحكمة الإلـهية([14])، وبذلك يكون ابن سينا قد وضع مفردة الإلـهيات أو العلم الأعلى مكان مصطلح ((الحكمة الأولى)) الذي جاء في رسالة طبيعيات عيون الحكمة.
وانطلاقاً مما تقدّم، يشرع ابن سينا في تقسيم العلوم العقلية وترتيبها بصورة دقيقة، فيبلغ بها ــ نهاية المطاف ــ 53 نوعاً، يصنّف سبعة منها جزءاً من العلوم السياسية والعملية، لتبلغ تسعة علوم، بإضافة كلٍّ من فنّ الجدل وفنّ الخطابة.
أمّا العلوم السبعة المشار إليها، فتتفرّع بدورها إلى فروع ثلاثة، تمثل الأقسام الثلاثة الرئيسية للحكمة العملية وهي: سياسة المدن، وتدبير المنـزل، وتهذيب الأخلاق.
وللحكمة الإلـهية قسمان فرعيّان، يطلق عليهما اسم: علم معرفة النـزول أو علم الوحي، وعلم المعاد أو علم السعادة والشقاوة الإنسانيّتين، كما أنّ للحكمة الإلـهية أيضاً قسمين رئيسيين، يطلق عليهما اسم: علم الجواهر الروحانية، وعلم تسخير الجواهر الروحانية وشكل ارتباط الأرضيات منها بالسماويات، وعلى المنوال عينه، يطلق على أحد العلوم الطبيعية الأصلية اسم: علم النفس، وهذه العلوم تمثّل علوماً مشتركةً ما بين الحكمة الطبيعية والحكمة العملية، حيث أَكْثَرَ ابن سينا من الحديث عنها، معتبراً الأنبياء أحقّ الساسة وأفضلهم، طبقاً لقاعدة ((تفاضل الأسباب في الصور المادية))، وقد تحدّث ابن سينا أيضاً في بياناته الملحقة أواخر كتاب الشفاء عن الأنبياء، حين اعتبرهم المسؤولين عن تنظيم أمور معاش الناس ومعادهم، ووصفهم بأنّ لـهم مقام ((خليفة اللـه)) على وجه الأرض.
وقد رصدنا في دراسة أخرى تعريف الفلسفة السياسية، والحكمة العملية، في رسالة أقسام العلوم العقلية، مما يرفع حاجتنا إلى تكرار ذلك هنا، إلاّ أنّ لابن سينا في هذا القسم الكثير من الإثارات والأفكار الأساسية والمبنائية التي تعود إلى أقسام الحكمة العملية، وعلم السياسة، وكيفية ارتباطه بظاهرة النبوّة.
يقول ما نصّه: ((لما كان تدبير الإنسان إما أن يكون خاصّاً بشخص واحد، وإما أن يكون غير خاصّ بشخص واحد، والذي يكون غير خاصّ هو الذي إنّما يتم بالشركة، والشركة إما بحسب اجتماع منـزلي علوي، وإما بحسب اجتماع مدني، كانت العلوم العملية ثلاثة، واحد منها خاص بالقسم الأوّل، ويعرف به أن الإنسان كيف ينبغي أن يكون أخلاقه وأفعالـه حتى تكون حياته الأولى والأخرى سعيدة، ويشتمل عليه كتاب أرسطاطاليس في الأخلاق([15])، والثاني منها خاص بالقسم الثاني، ويعرف منه أن الإنسان كيف ينبغي أن يكون تدبيره لمنـزلـه المشترك بينه وبين زوجه وولده ومملوكه، حتى تكون حالـه منتظمة مؤدية إلى التمكَّن من كسب السعادة، ويشتمل عليه كتاب أرونس([16]) في تدبير المنـزل، وكتب فيه لقوم آخرين غيره، والثالث منها خاصّ بالقسم الثالث، ويعرف به أصناف السياسات والرئاسات والاجتماعات المدنية الفاضلة والردية، ويعرف وجه استيفاء كل واحد منها، وعلّة زوالـه، وجهة انتقالـه، وما كان يتعلّق من ذلك بالملك فيشتمل عليه كتاب أفلاطون وأرسطو في السياسة([17])، وما كان من ذلك يتعلّق بالنبوة والشريعة، فيشتمل عليه كتابان هما في النواميس، والفلاسفة لا تـزيد ناموس ما تظنّه العامّة أن الناموس هو الحيلة والخديعة، بل الناموس عندهم هو السنّة ]أي العرف والشريعة[، والمثال القائم الثابت ]أي شريعة ونظام قانون مقبول في مجتمعٍ ما[، ونـزول الوحي، والعرب أيضاً تسمّي الملك النازل بالوحي ناموساً، وهذا الجزء من الحكمة العملية يُعرف به وجود النبوّة، وحاجة نوع الإنسان في وجوده وبقائه ومنقلبه إلى الشريعة، وتعرف بعض الحكمة في الحدود الكلية المشتركة في الشرائع، والتي تخصّ شريعةً شريعة، بحسب قومٍ قوم، وزمانٍ زمان، ويعرف به الفرق بين النبوّة الإلـهية وبين الدعاوي الباطلة كلّـها))([18]).
إنّها المرّة الأولى في تاريخ الفلسفة ــ كما يُلاحظ ــ التي يعمد فيها ابن سينا إلى تقسيم الحكمة العملية والمعارف السياسية إلى ثلاثة فروع، وسوف نرى لاحقاً عما قريب أن ابن سينا قد أنجز عملـه هذا بصورةٍ أكمل عبر تنظيمه الفروع بجعلـها أربعة بدلاً عن ثلاثة، ذاكراً لكل فرعٍ منها مثالاً وأنموذجاً من نتاجات فلاسفة اليونان الكبار ومصنّفاتهم.
حتّى الفارابي، وهو أب الفلسفة السياسية في العالم الإسلامي، لم يتمكّن من ترسيم الحكمة العملية بمثل هذه القوّة في التنظيم، والبساطة في الأسلوب، والظرافة في البيان، فقد أغمض الفارابي، كما يظهر بمراجعة الموضوعات الخاصّة بالحكمة العملية في كتابه ((إحصاء العلوم))، أغمض تدبير المنـزل وأبقاه معرض الكتمان والطمر.
المسألة الأخرى التي تشاهد في تقسيم ابن سينا المذكور والتناسب القائم فيه بين العلوم العقلية، إرجاع الفلسفة السياسية إلى ثلاثة أبعاد، أو تثليث وجوهها، وهو ما أفضى إلى حصول التباس لدى بعض الباحثين الإيرانيين([19]) نتيجة عدم الدقة والتأنّي في رصد المنظومة الفلسفية السينوية، بتمام آثارها ونتاجها، إذ اعتقدوا أن ابن سينا قد أوكل أمر السياسة إلى الفقهاء ورجال الشريعة، معتبراً الفلسفة كائناً طفيليّاً بالنسبة إلى ذلك، مما جرّ إلى انـزوائها وانطوائها، بينما لا نجد الأمر كذلك إطلاقاً، فابن سينا يعتقد أنّ الرئاسة والحكومة على وجه الأرض إنما تكون للنبي أو السانّ، وهو صاحب الشريعة والإنسان المعصوم على تقدير وجوده، وذلك بصورةٍ طبيعية وتلقائية، أما في حالة غياب النبي والرجل المعصوم، فإنّ ابن سينا يرى الأفضل ــ وحتّى الواجب ــ أن تمسك بأمر السياسة والرئاسة إدارة عليا في الاجتماع البشري وفي المدينة تتبلور على شكل شوروي وجماعي، وتتكوّن عناصرها الأساسية من الفيلسوف والحكيم المتألـّه، ومن الفقهاء وأعلم العلماء في الشريعة، إضافةً على أهل المشورة من أبناء المدينة المتخصّصين في الأمور الجزئية والخبراء فيها، وهذه الصورة عن ابن سينا واضحة يكفي لاكتشافها ــ بعيداً عن مراجعة آثار ابن سينا وكتاباته ــ الصفحتين الأخيرتين من إلـهيات الشفاء، إذ تبدو هناك كاملةً وواضحة وملموسة([20]).
ويجدر بنا الالتفات هنا إلى نقطة جديرةٍ بذلك، وهي أنّ أشخاصاً من أمثال الكندي، والفارابي، والعامري، وابن سينا لم يستعرضوا الصورة الفلسفية لظاهرتي النبوة والوحي بوصفهم متديّنين ورجال شرع، إنّما أقدموا على ذلك بوصفهم فلاسفة، ذلك أنه بصرف النظر عن تديّنهم المؤكّد، كانت الفلسفة ـ سيما في الحقبة القديمة ـ مدعيةً الإجابة عن مجمل الظواهر الطبيعية، والإنسانية، والاجتماعية، ومن ثَم كانت مجبرةً على تشريح المكانة الخاصّة التي يتمتّع بها الدين والوحي داخل النظام الفلسفي وتعيينها.
على أيّة حال، فقد قمنا باستخراج ما يخص التقسيم الذي اعتمده ابن سينا للحكمة في رسالته في أقسام العلوم العقلية، ونرفقه هنا للقارئ الكريم في رسم بياني يستوعب ــ بمجموعه ــ ثلاثة وخمسين نوعاً.
نعم، الذي يبدو هو أنّ ابن سينا قد غفل عن أحد أنواع هذه العلوم، ألا وهو فلسفة العلوم وعلم الإحصاء، المصنّف جزءاً من العلوم الآليّة.

هذا الجدول والتشجير البياني يعرض مجموع فروع الحكمة، وعبر ذلك يبيّن المكانة الخاصة للفلسفة السياسية، وكيفية ارتباطها ببقية فروع الفلسفة وأنواعها، باستخدام أسهم دالّة.

المشهد السياسي السينوي في منطق المشرقيين

وبعد ملاحظة الأنموذجين السابقين، نعرّج الآن على تقسيم العلوم الذي ذكره ابن سينا في كتاب منطق المشرقيين، لنستعرض المكانة التي تحظى بها السياسة والحكمة العملية في إطاره، وتقسيم منطق المشرقيين يختلف تماماً عن التقسيمين المتقدّمين، ويبدو أنّ ابن سينا قد سطره في أواخر عمره بعد اختماره الفكري ونضوجه العلمي.
ويعدّ كتاب منطق المشرقيين قسماً من علم المنطق، الذي هو بدوره قسم من كتاب مفصّل وهام لابن سينا يحمل اسم: حكمة المشرقيين، والذي يلوح من كتاب المباحثات لابن سينا أنّ حكمة المشرقيين قد تعرّض للنهب في الحملة التي قام بها أنصار محمود الغزنوي على إصفهان، مع أثاث المنـزل وعدد آخر من كتابات ابن سينا، ثم ما لبث أن فقد بعد ذلك([21]).
وقد جاءت آراء ارسطو وابن سينا وبقية المشّائين ما راج منها في كتاب الشفاء المفصّل، إلاّ أنّ ابن سينا لم يصنّف منطق المشرقيين سوى للخاصّة جداً، محرّماً نشره وترويجه، إنه يقول في مقدّمته: ((وما جمعنا هذا الكتاب لنظهره إلاّ لأنفسنا ــ أعني الذين يقومون منّا مقام أنفسنا ــ وأما العامّة من مزاولي هذا الشأن، فقد أعطيناهم في كتاب الشفاء ما هو كثير لـهم وفوق حاجتهم))([22]).
وفي التقسيم المعتمد في منطق المشرقيين، يشرع ابن سينا بتقسيم العلوم إلى علوم مقطعية فانية غير ثابتة وعلوم ثابتة دائمة، ثم يقول: إنّ بعض العلوم لا يبليه تصرّم الليالي والأيام، فلا يغدو قديماً أو عتيقاً، بل تراه على الدوام طريّاً طازجاً غضّاً نضراً، وهذا القسم من العلوم هو ــ وحده ــ ما ينبغي عدّه علماً حقيقياً وحكمةً واقعيّة.
ويضع ابن سينا الفلسفة السياسية والحكمة العملية داخل هذا النوع من العلوم الباقية الحقيقية، تلك العلوم التي تبقى على مرّ العصور موضعَ حاجات البشر، لا يمكن تناسيها أو التغافل عنها.
بعد ذلك، يقسّم ابن سينا العلوم الحقيقيّة الثابتة إلى قسمين: أصلي، وفرعي تبعي، ويقول: لست في كتاب حكمة المشرقيين هادفاً التعريفَ أو التدوين في مجال العلوم الحقيقية التبعية الفرعية، من قبيل علوم الطب، والزراعة، وعلوم النجوم الجزئية، إنما هدفي العلوم الثابتة الباقية الأصلية، ويضيف ابن سينا أن علم المنطق الذي يمثل الأداة المعيارية لسائر العلوم يصنّف واحداً من العلوم الحقيقية الأصلية الثابتة، إنه علم آلي أداتي يهدف إلى فهم سائر أقسام الحكمة وأجزائها، ويرى ابن سينا أنّ هذا العلم سمّي عندنا نحن المسلمون بعلم المنطق، ولربما يطلق عليه عند ملل أخرى أو أقوام اسم آخر غير هذا([23]).
ويردف ابن سينا كلامه المتقدّم بالقول: إن قسماً من الحكمة الحقيقية الأصلية عند أهل زمانه يسمّى بالعلم النظري، فيما يسمّى القسم الآخر بالعلم العملي، وكل واحدٍ من هذين القسمين ينشطر بدوره إلى أربعة أجزاء، فأقسام العلم النظري أربعة، ذلك أنّ المعاني والأمور النظرية على أربعة أنواع، وعليه فلكلّ واحدٍ منها علم، وقد جرت العادة على تسمية الأوّل منها بالعلم الطبيعي، والثاني بالعلم الرياضي، والثالث بالعلم الإلـهي، والرابع بالعلم الكلّي([24]).
والمقصود بالعلم الكلّي، ذاك العلم المتعلّق بالموجودات التي ربما تخالط المادة حيناً وربما لا تكون كذلك حيناً آخر.
ولم يسبق أن قسّمت العلوم النظرية هذا التقسيم الرباعي قبل ابن سينا، فهو مبدعه ومبتكره، تماماً كما يصرّح هو بالقول: ((وإن لم يكن هذا التفصيل متعارفاً))([25]).
أمّا الحكمة العملية فيقسّمها ابن سينا أيضاً إلى أنواع أربعة، لم يسبق أن عرفت قبلـه، إذ كانت الحكمة العملية تذكر قبلـه على الدوام ذات أقسام ثلاثة، وحتّى الفارابي لم يتطرّق أبداً إلى نوع تدبير المنـزل منها، لقد أحدث ابن سينا بفعلـه هذا تحوّلاً كبيراً جداً في الحكمة العملية وفي الفلسفة السياسية، إلاّ أن المؤسف أن هذه الخطوة السينوية الـهامّة لم تلق اهتماماً مناسباً من جانب الفلاسفة الذين أتوا بعده، ولم تبيّن أو تشرّح كما هو حقّها.
وفي هذا التقسيم الجديد، يدرج ابن سينا علم معرفة نـزول الوحي، ومعرفة النبي، ومعرفة الإمام تحت عنوان: علم التشريع والتقنين، معتبراً الأخير ركناً أو فرعاً رابعاً لفلسفة السياسة.
لقد تمكّن ابن سينا ــ عبر ذلك ــ من حلّ التضاد التاريخي ما بين العقل والوحي، الفلسفة والشريعة، متفوّقاً بذلك على الثنائية الفلسفية العتيقة، فقد ردّ للقانون مكانته الضائعة في الفلسفة الإسلامية، كما منح علم الشريعة والقانون (علم الحقوق) ـ بوصفه علماً أصلياً باقياً ـ قيمةً فلسفية لازمة لـه.
يقول ابن سينا: ((وأمّا العلم العملي، فمنه ما يعلم كيفية ما يجب أن يكون عليه الإنسان في نفسه وأحوالـه التي تخصّه، حتّى يكون سعيداً في دنياه هذه وفي آخرته، وقوم يخصّون هذا باسم علم الأخلاق، ومنه يعلم كيف يجب أن يجري عليه أمر المشاركات الإنسانية لغيره، حتى يكون على نظام فاضل، إما في المشاركة الجزئية، وإما في المشاركة الكلية، والمشاركة الجزئية هي التي تكون في منـزل واحد، والمشاركة الكلية هي التي تكون في المدينة.
وكل مشاركة فإنما تتمّ بقانون مشروع، وبمتولّ لذلك القانون المشروع يراعيه، ويعمل عليه ويحفظه، ولا يجوز أن يكون المتولّي لحفظ التقنين في الأمرين جميعاً إنسان واحد، فإنه لا يجوز أن يتولّى تدبير المنـزل من يتولّى تدبير المدينة، بل يكون للمدينة مدبّر، ولكل منـزل مدبّر آخر، ولذلك يحسن أن يفرد تدبير المنـزل بحسب التولّي، باباً مفرداً، وتدبير المدينة بحسب المتولّي باباً مفرداً، ولا يحسن أن يفرد التقنين للمنـزل والتقنين للمدينة كلّ على حدة، بل الأحسن أن يكون المقنن لما يجب أن يراعي في خاصة كلٍ شخصٌ، وفي المشاركة الصغرى وفي المشاركة الكبرى شخص واحد بصناعة واحدة وهو النبي.
وأما المتولّي للتدبير، وكيف يجب أن يتولّى، فالأحسن أن لا ندخل بعضه في بعض، وإن جعلت كل تقنينٍ أيضاً باباً آخر فعلت ولا بأس بذلك، لكنك تجد الأحسن أن يفرد العلم بالأخلاق والعلم بتدبير المنـزل والعلم بتدبير المدينة كلّ على حدة، وأن تجعل الصناعة الشارعة وما ينبغي أن تكون عليه أمراً مفرداً.
وليس قولنا: وما ينبغي أن تكون عليه، مشيراً إلى أنّها صناعة ملفّقة مخترعة ليست من عند اللـه، ولكل إنسان ذي عقل أن يتولاها، كلا، بل هي من عند اللـه، وليس لكلّ إنسان ذي عقل أن يتولاها، ولا حرج علينا إذا نظرنا في أشياء كثيرة ــ مما يكون من عند اللـه ــ أنّها كيف ينبغي أن تكون.
فلتكن هذه العلوم الأربعة أقسام العلم العملي، كما كانت تلك الأربعة أقسام العلم النظري.
وليس من عزمنا أن نورد في هذا الكتاب جميع أقسام العلم النظري والعلم العملي، بل نريد أن نورد من أصناف العلوم هذا العدد: نورد منه العلم الآلي، ونورد العلم الكلّي، ونورد العلم الإلـهي، ونورد العلم الطبيعي الأصلي، ونورد من العلم العملي القدر الذي يحتاج إليه طالب النجاة، وأمّا العلم الرياضي فليس من العلم الذي يختلف فيه.
والذي أوردناه منه في كتاب الشفاء هو الذي نورده ها هنا لو اشتغلنا بإيراده، وكذلك الحال في أصناف العلم العملي لم نورده ها هنا (لعدم الاختلاف فيه) ))([26]).
يمتاز هذا التقسيم السينوي ــ مقارنةً بسائر التقسيمات ــ بأهميّة فائقة، سيما من زاوية فلسفة السياسة وفلسفة الحقوق، ولم يسبق ابن سينا أحدٌ ينظم هذا الموضوع ويجليه بصراحة كما فعلـه هو.
أولاً: أقدم ابن سينا، وعلى خلاف المنهاج المتعارف، ودون سابقة مضبوطة في الفلسفة، أقدم على تقسيم العلوم إلى علوم باقية وأخرى موردية زائلة، جاعلاً الحكمة العملية، والفلسفة السياسية، وعلم الحقوق (التقنين) من العلوم الثابتة الأصلية، التي تستحقّ ـ بجدارة ـ اسم الحكمة.
ثانياً: ذكر ابن سينا لكل واحدٍ من العلوم النظرية والعملية أربعة أقسام مستقلّة، فقد أضاف في الحكمة النظرية العلمَ الكلي، فيما أضاف على الحكمة العملية ما يمكن تسميته بالنبوّة، وعلم التقنين، وعلم الناموس، وعلم التشريع.
ثالثاً: صرّح ابن سينا بأنّ مبدأ التقنين من اللـه تعالى، فحتّى الإنسان العاقل لا يقدر ــ بالأصالة دون لحاظ المصادر الوحيانية ــ على إبداع نظام قانوني، لكنّ البشر قادرون على إبداء وجهة نظرهم القانونية ضمن الأطر الكلية العامة في الوحي، والتي تحدّد كيفية التقنين ونحوه، وفي مطاوي هذه المقولة التي يتحدّث حولـها ابن سينا يشير إلى استقلال السلطة التشريعية، كما يلفت الانتباه إلى عدم إمكان إدارة مجتمع بالجمود على ظواهر الشرع دون الأخذ بعين الاعتبار الحقائق المتغيرة المتجدّدة في حياة البشر، فمن اللازم التفكير في كيفية سنّ القوانين والتشريع المتناسب مع الأزمنة والأمكنة المختلفة، بل حتى مع طبائع الشعوب المتنوّعة.
ويوضح ابن سينا بصورةٍ أكثر جلاءً هذه المسألة في كتابه إلـهيات الشفاء، مشرّحاً هناك وظائف الشارع بوصفه واضع القوانين، ويرى ابن سينا أنّ الشارع إذا ما وضع لجزئيات الحياة المدنية قوانينَ ثابتة أدّى ذلك إلى فساد المجتمع وهلاكه واضمحلالـه، لا سيما ما يتصل بشؤون الاقتصاد والمعاملات والسياسة فيه، ذلك أنّ الزمان يخضع على الدوام للتحوّل والصيرورة، ومن هنا لم يكن تصويب هذا النوع من القوانين مفوّضاً إلى الشارع، وإنما إلى السائس ورئيس الدولة في الفترات الزمنية المختلفة، حيث يعمد الحاكم إلى ممارسة عملية تقنين، مستفيداً لـها من وجهات نظر أصحاب الرأي والمشورة([27]).
رابعاً: يقرّ ابن سينا في تقسيمه الذي اعتمده في منطق المشرقيين بأنّ المجتمع على المستوى العام (المدينة) وكذلك على المستوى الخاص، أي المنـزل والعائلة، يخضع من ناحية تشريعية لسلطة تسمّى ((صناعة الشارعين)) أو ((صنعة التقنين))، تستمدّ إلـهامها من الشرع، إلاّ أن المواطن أو أحد أبناء الأسرة خارج ــ من الناحية الإدارية والتدبيرية ــ عن تحت رقابة السلطة التنفيذية المباشرة ورئيس المدينة المسمّى سائساً.
ويصدر ابن سينا في هذا المجال حكماً إلزامياً قاطعاً باستخدامه جملة ((لا يجوز))، وذلك عند قولـه: ((لا يجوز أن يكون المتولّي لحفظ التقنين في الأمرين جميعاً إنسان واحد، فإنّه لا يجوز أن يتولّى تدبير المنـزل من يتولّى المدينة، بل يكون للمدينة مدبّر، ولكلّ منـزل مدبّر آخر))([28]).
من هنا، يفصل ابن سينا الدائرة الشخصيّة الخاصّة عن مجال السياسة فصلاً كاملاً، مقيّداً صلاحيات الحكم والدولة إزاء التدخّل في المجالات الشخصية للأفراد، لا بل مانعاً عن ذلك كلّ المنع، وهي مسألة قلّما وجدنا حديثاً فيها بين فلاسفة السياسة المسلمين قبل ابن سينا، ولذا يمكن عدّه أحد رادة هذا الموضوع ومبدعيه.
وعلى أيّة حال، نعرض بين يدي القارئ التقسيم السينوي للعلوم، وفقاً لما جاء في كتاب منطق المشرقيين ضمن هذا الرسم التوضيحي، الذي يدلّل في الوقت عينه على مكانة الفلسفة السياسية عنده، وكيفية ارتباطها بالعلوم الأخرى، وعبر مقارنة هذا الرسم بما سبقه تغدو الصورةُ ــ فيما نتوقّع ــ أكثر وضوحاً والنتيجة أكثر صوابية.
2 ـ إطار المنظومة الفلسفيّة
تتكوّن المنظومة الفلسفية أو الجهاز الفلسفي لأيّ فيلسوف من جملة عناصر متعدّدة، تدور بأجمعها حول محور واحد، وتسعى لإلباس ثوب الواقعية لـهدف أصلي ومشترك نهائي، وإذا ما نجحنا في التعرّف على ذاك الـهدف الأصلي المستكنّ داخل المنظومة الفلسفية لـهذا الفيلسوف أو ذاك، فقد وفّقنا في معرفة تمام أبعاد فلسفته، كما وأدركنا ـ بوعي وبصيرة ـ كيفية التناسب وانتقاء العناصر في تلك المنظومة، واتضح أمامنا ــ عبر ذلك ــ المكانة الخاصة التي يحظى بها كلّ علم أو حكمة داخل هذا النظام الفلسفي.
إن بنية النظام الفلسفي السينوي تخضع للقانون المذكور نفسه، وعليه، يلزمنا ــ بدايةً ــ كشف النقاب عن الـهدف الرئيسي فيها، حتى نقدر على تحديد موقعية أنواع الحكمة داخل هذا النظام، ومن بينها مكانة الفلسفة السياسية والحكمة العملية.
وكما ذكرنا من قبل، يقع ابن سينا في قراءة تاريخية للفلسفة وتحوّلاتها وحقبها في مرحلة أطلقنا عليها اسم ((تأليه الفلسفة))، وبلوغها التوحيد الأصيل الخالص، فقد ذكروا في تعريف الفلسفة أنّها ((التشبّه بالخالق بقدر طاقة الإنسان))([29])، أي إن تربية الإنسان الإلـهي في المدينة العادلة أو المدينة الفاضلة السينوية هو الـهدف الرئيس في البناء الفلسفي لابن سينا، وقد دلّلنا سابقاً عبر استخراج المطالب الفلسفية من آثار ابن سينا ووضع رسوم بيانية عدّة على أن تمام عناصر الحكمة وأقسامها في المنظومة الفلسفية السينوية إنما انتظمت وتآلفت لتحقيق هذا الغرض، أي لتوفير الأرضية المناسبة لتأسيس المدينة العادلة، وتحقّق علم السياسة، وفلسفة الحقوق والتشريع.
وكما أشرنا من قبل أيضاً، فقد قسّم ابن سينا الحكمة ــ في المرحلة الأولى ــ إلى عملية ونظرية، والأولى تعني الأخلاق والفلسفة السياسية، ثم قسّم الحكمة النظرية إلى ثلاثة أقسام هي: العلم الأسفل أو الحكمة الطبيعية، والعلم الأوسط أو الحكمة الرياضية، والعلم الأعلى أو الحكمة الإلـهية، كما خصّص ابن سينا كلاً من كتاب الشفاء الكبير ودانشنامه علائي لشرح هذه العلوم وتفسيرها، علاوةً على علم المنطق.
ويختصّ العلم الأعلى أو الإلـهيات في منتهاه بمباحث المعاد، والنبوّة، والتشريع والتقنين، وتأسيس المدينة العادلة أو الفاضلة، وعبر ذلك تنسكب محصّلة تمام أنواع العلوم النظرية في نطاق الحكمة العملية والفلسفة السياسية، مما يرشد ــ عملياً ــ إلى أن البناء الفلسفي السينوي إنما انتظم وانعقد للتمهيد لتأسيس المدينة العادلة بغية تربية الإنسان السعيد، ذلك الإنسان المكوّن من عناصر الفضيلة، والشجاعة، والعفّة، والناس ــ عبر هذا الطريق ــ يبلغون مقام الاعتدال الذي هو عين السعادة([30])، وتتوفّر للبشر ــ في هذا المجتمع بالخصوص ــ إمكانية السعي للتشبّه باللـه سبحانه عبر تجنّب الصفات الرديئة والأعمال الرذيلة كالكذب والخيانة و..
إن الـهدفَ الرئيس عند ابن سينا من تأسيس المدينة والاجتماع الإنساني توفيرُ الأرضيات المناسبة للعرفان، والعبادة، وتربية الإنسان الموحّد الواصل إلى اللـه تعالى([31]).
بناءً عليه، ينكشف لنا أن مجمل البناء الفلسفي السينوي إنما شِيْدَ برمّته لبلوغ السياسة والحكمة العملية.
وتنتهي فلسفة ابن سينا ــ بما فيها من أنواع الحكمة ــ بالعلم الأعلى أو الحكمة الإلهية، فيما تنتهي الحكمة الإلهية بدورها بالفلسفة السياسية، وشكل تأسيس المدينة، وتربية الإنسان ليغدو قادراً على بناء ذاته والتشبّه باللـه سبحانه، وهذا ما نجده عن طريق البحوث الموجودة في الأنواع الأربعة للحكمة العملية، وهي تهذيب النفس، وتدبير المنـزل، وسياسة المدن، وعلم النبوّة والتشريع، كما يقع قسم آخر منه عن طريق فنيّ الخطابة والجدل في المنطق، وثالث عن طريق شكل تنظيم المباحث في النتاجات الموسوعية الجامعة لابن سينا، من نوع الشفاء، ذلك كلّـه ليتسنّى للبشر الوصول إلى السعادة الأخروية والأبدية، أي بلوغ الإنسان الخير المحض، والسعادة المطلوبة، والعيش في اجتماعٍ لا ظلم فيه ولا انحراف ولا انحطاط، ولحفظ المكان المناسب بغية كسب الاستعداد اللازم لسفر الآخرة، ونيل السعادة الأبدية.
وتشبه المنظومة الفلسفية السينوية الـهيكليةَ العمرانيةَ للمدن الإسلامية الكبرى قديماً، حيث تنتهي الطرق وتصبّ السُبُل جميعُها في الساحة المركزية للمدينة، فالأزقة و.. تتصل بعدّة شوارع كبرى ورئيسية تتصل بدورها بالساحة العامّة التي تقع وسط المدينة، ذاك الوسط الذي تتكوّن أطرافه ونواحيه من مجموعة عناصر تمنحه هويته الخاصّة ومكانته المميّزة في المدينة مثل دار الإمارة، والمسجد، والمدرسة، والسوق، والحمام العمومي، وأحياناً منـزل القوافل وخانات المسافرين.
وبناءً عليه، ليس صدفةً ولا اتفاقاً أن تُنتقى المباحث العلمية في المنظومة السينوية لتصبّ جميعها في الحكمة الإلـهية، وتنتهي هذه الحكمة بمباحث المعاد، والنبوّة، وتأسيس المدينة، إنّما هو شيء خطّط عن وعي مسبق، ليكتسب ذاته ومفهوميته، وليكون شاهداً على عظمة المكانة التي تتمتع بها الفلسفة السياسة عند ابن سينا وسموّها.
وبهذا التصوّر السينوي للسياسة والفلسفة السياسية، وهو تصوّر لا يعتبر الحكمة ناقصة ولا بتراء.. يذهب ابن سينا إلى تصوّر الحكمة الإلـهية محيطاً خضمّاً عظيماً تصبّ فيه الأنهر كافّة، من هنا كان لابدّ ــ بدايةً ــ من تلاقي الأطراف كافّة في الحكمة السياسية لتعرض منافعها وبضائعها ونتاجاتها المشتركة هناك.
إنّ هذا النص السينوي في الفصل الثالث من إلـهيات الشفاء شاهد صارخ على هذه الحقيقة: ((إنّ العلوم كلـها تشترك في منفعة واحدة، وهي تحصيل كمال النفس الإنسانية بالفعل، مُهيّئةً إيّاها للسعادة الأخروية))([32]).
ومن الطبيعي أن لا يتسنّى تحقيق هذا الـهدف الكبير إلاّ عبر الحكمة العملية وفروعها الثلاثة أو الأربعة، وعليه، تغدو الحكمة العملية في فلسفة ابن سينا ملتقى العلوم كافّة وأنواع الحكمة عامّة.
فبعد المقطع المشار إليه، يذكر ابن سينا أنّ لنفعية العلوم بالنسبة إلى بعضها البعض عند المؤلّفين معنى آخر، تغدو فيه العلوم كافّة في خدمة الفلسفة الأولى، بما فيها العلوم الطبيعية والرياضية، ومن ثم، وبالمقابل، تمثل الفلسفة الأولى المعيار الذي يزن مَدَيَات الصواب أو الخطأ في تلك العلوم، مما يجرّ عليها جميعها نفعاً ومصلحة، من نوع المصلحة التي يدرّها الرئيس على مرؤوسيه، والمخدوم على خادميه.
وفي هذا المضمار، تكون للعلوم الرياضية الجزئية، والأخلاقيات، وعلم السياسة منافع أيضاً تمنحها للفلسفة الأولى والإلـهيات، إلاّ أنّها لا تصنّف ـ على مستوى ترتيب البحوث ـ مقدّمةً لـها حتى يكون وجودها من هذه الزاوية ضرورياً([33])، أي أن علم الأخلاق والسياسة يمثلان نتيج الفلسفة الأولى لا سببها وموجدها، أو فقل: كدرجات السلّم في سلسلة علومها التمهيديّة.
 
3 ــ إطار الحكمة المشرقيّة
لابن سينا نوعان من الفلسفة، إحداهما الفلسفة الأرسطية المعروفة بالفلسفة المشّائية، والتي سطرها لعموم الراغبين والمحتاجين، وثانيهما الفلسفة الخاصّة التي عبّر عنها هو نفسه بحكمة المشرقيين، ودوّنها بل أسّسها للخواص فحسب، تماماً كما يقول هو نفسه في منطق المشرقيين: ((وما جمعنا هذا الكتاب لنظهره إلاّ لأنفسنا ــ أعني الذين يقومون منّا مقام أنفسنا ــ وأما العامّة من مزاولي هذا الشأن، فقد أعطيناهم في كتاب الشفاء ما هو كثير لـهم وفوق حاجتهم))([34]).
وتتنوّع الكتب المتعلّقة بفلسفة المشرقيين إلى نوعين، فبعضها ذو لغةٍ رمزية، وذو كسوة قصصية روائية، مثل رسالة حيّ بن يقظان، ورسالة الطير، وسلامان وإبسال، وبعضها الآخر لا يملك لغةً رمزية، وإنما أدبيات عادية متوارثة ومستعملة، مثل كتاب حكمة المشرقيين المفقود، والذي بقيت منه مقدّمته فقط، مشتملةً على قسمٍ من المنطق، وكذلك مثل الفصول الأخيرة من كتاب الإشارات والتنبيهات.
وهذا القسم من الفلسفة السينوية المسمّى بعلم الخواص، لا يخلو هو الآخر عن الحكمة العملية والفلسفة السياسية، فقد تحدّث ابن سينا في مقدّمة حكمة المشرقيين ــ عند تقسيمه العلوم وتحديد مكانتها ــ عن علم السياسة بحديثٍ جاذب وبرّاق سبق أن أسلفناه، إلا أنّه كان وعد هناك قائلاً: ((ونورد من العلم العملي القدر الذي يحتاج إليه طالب النجاة))([35])، بيد أن فقدان الكتاب جعلنا جاهلين ــ بالدقة ــ بطبيعة البحث الذي استأنفه ابن سينا هناك حول الحكمة العملية والفلسفة السياسيّة.
أما الفصول الأخيرة من كتاب الإشارات، أي النمط الثامن، والتاسع، والعاشر، فقد اشتملت على بحوث أساسية في الأخلاق والسياسة، يمكن وصفها بالاستثنائية، فقد تحدّث ابن سينا في هذه الفصول من الإشارات بحديث بارع ورائع حول مسألة الشرّ في الطبيعة الإنسانية والاجتماع البشري، والسياسة قسم من هذا الموضوع، مستخدماً منهجاً جديداً كلّ الجدة ذا سمةٍ إبداعية، جاعلاً مباحث القضاء والقدر والعناية الأزلية البناءَ التحتي الذي تشاد عليه حلول مسألة الشرّ من الناحية الفلسفية، لقد قام ابن سينا في هذا البحث فعلاً بتقويم ظواهر كالظلم، والعدل، واللامساواة الاجتماعية تقويماً جذرياً([36]).
وهكذا الحال في مسألة السعادة والشقاوة الحسّاسة، والتي يتكفّل عند الفلاسفة كلٌّ من علم الأخلاق وعلم المدن حلَّها وتأمينَها في الاجتماع والمدينة، إذ نَعُمَت ببحث مسهب قلّ نظيره من قبل، حيث أبدى فيه ابن سينا مواقف وآراء هامّة([37]).
وقد تعرّض ابن سينا أيضاً إلى موضوعات من نوع كيفية تكوّن الاجتماعات البشرية، وتأسّس المدن، والـهدف منها، فأثار مباحث رئيسية، مستدلاً على ضرورتها باستخدام منهج برهاني وفلسفي، حيث لا يمكن بناء إنسان عارف إلاّ في محيط كهذا([38]).
وفي هذه المواضع كافّة، نلاحظ ــ إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الشروح المعطاءة للخواجة نصير الدين الطوسي ــ إشارات لتبلور حكمة عملية وفلسفة سياسية جديدة، يمكنها أن تشكّل بنيةً تحتيةً فلسفية وبرهانية راسخة لتشييد علاقة ((العرفان والسلطة))([39]).
ولم تخلُ الرسائل الرمزية السينوية في الحكمة المشرقية من مفاهيم سياسية أو تعاليم كذلك، رغم أنّ موضوعها الرئيس كان يتركّز حول الأخلاق وتهذيب النفس، الذي يصنّف بدوره قسماً من الحكمة العملية، وبنيةً تحتيةً أساسية لسياسة المدن.
على أية حال، إذا ما أمعنّا النظر والتفكير في مقولة ((العرفان والسلطة)) بصورةٍ أكثر مبدئيةً، فسوف نعثر في هذه الرسائل على عدد أكبر من المفاهيم السياسية، تماماً كما حاولـه فيلسوف بارز من أمثال الخواجة نصير الدين الطوسي، حيث استنتج من رسالة سلامان وإبسال تعاليم عدّة تتعلّق بسياسة المدن، فلدى شرحه مصطلحي ((سلامان وإبسال)) في كتاب الإشارات ــ وما يثيره الخواجه الطوسي هنا هو بحدّ ذاته قيّم يستحق الدرس والتركيز ــ وعند تفسيره قسماً من الرسالة المذكورة لابن سينا، مفكّكاً رموزها حالاً أسرارها يقول: ((وفتحه البلاد لأخيه: اطّلاع النفس بالقوّة النظرية على الجبروت والملكوت، وترقّيها إلى العالم الإلـهي، وقدرتها العملية على حسن تدبيرها في مصالح بدنها، وفي نظم أمور المنازل والمدن. ولذلك سمّاه بأوّل ذي القرنين، فإنّه لقب لمن كان يملك الخافقين … واختلال حال سلامان لفقده إبسالاً: اضطراب النفس عند إهمالـها تدبيرها شغلاً بما فوقها، ورجوعه إلى أخيه: التفات العقل إلى انتظام مصالحها في تدبيرها البدن))([40]).
فعندما يستنتج فيلسوف مثل الخواجة نصير الدين الطوسي من هذه الرسائل العرفانية المرمَّزة مسائل تتصل بالحكمة العملية وسياسة المدن، فلا بد أنّ جوهر هذه المسائل مستكنّ بين سطور هذه الرسائل، ومن هنا يمكن القول: إن واحداً من أنماط البحث السينوي في الفلسفة السياسية يتمثّل في آثاره في حكمة المشرقيّين، أعم من رسائلـه الرمزية وغيرها، فمن مطالعة هذه الأعمال العلمية وتحليلـها ودرسها ونقدها وتقويمها يمكننا اكتشاف علاقة العرفان بالسياسة والسلطة عند ابن سينا، لنضع يدنا على نوع جديد من الفلسفة السياسية.
إن الرسائل الرمزية الأخرى لابن سينا لم تقرأ ــ هي الأخرى ــ من هذه الزاوية أيضاً، يقول الدكتور يوسف زيدان، الذي حقّق ونشر الرسائل المتعلّقة بموضوع حيّ بن يقظان في الحضارة الإسلامية، متحدّثاً عن رسالة ابن سينا: إنّ المقصود بحيّ نوع البشر، وبيقظان العقل البشري المتيقّظ، الذي لا بد لـه أن يترك أثراً أو بصمةً على أبعاد الحياة الروحية والمادية للبشر، فيحرّر الروح من أسر القوى النفسانية([41]).
 
4 ــ إطار المصنفات المُفرَدة
إحدى أشكال التناول السينوي الأخرى لموضوع الحكمة العملية وسياسة المدن الرسائلُ والمدوّنات المستقلة المفردة التي خصّصت لمعالجة هذا الموضوع، وقد أطلقنا عليها اسم ((المصنّفات المفردة))، فإذا ما وضعت هذه التصنيفات المفردة إلى جانب بعضها بعضاً مكمّلة، فسوف يظهر لنا أن ثمّة بنية فكرية فلسفية منظّمة تقبع داخل هذه المتفرّقات، أمّا لو طالعناها بصورةٍ منفصلة دون أن نسعى للعثور على حلقات الوصل والارتباط فيما بينها فإنّها لن تبدو سوى كتابات متفرّقة غير مبرّرة.
إن رسائل ابن سينا حول النبوّة، والقضاء والقدر، والمعراج، والأخلاق، والسياسة، والنفس، وتقسيم العلوم وتنظيمها، كلّـها من هذا النوع من المصنّفات، فإذا ما ربطناها بعضها ببعض، وطالعناها بغية اكتشاف الرؤى الفلسفية ــ السياسية السينوية، ودقّقنا فيما تحويه من مصطلحات حضارية وسياسية ومعرفية مثل: العقل، والنفس الناطقة، والنبوّة، والعدل، والظلم، والمدينة، والتدبير، والمدبّر، والشارع، والسانّ، وخليفة اللـه، والإمام، والمشاركة، والتعاون، والخير، والعناية، والسائس، والديمقراطية، والسياسة، والرياسة، وحسن الايالة وأمثال ذلك… إذا ما قمنا بذلك كلّـه فسوف نعثر بالتأكيد على منظومة فلسفية سياسية سينوية.
وقد عرّفنا بدورنا هذه الأعمال العلمية لابن سينا في بحث ((فهرس الأعمال السياسية لابن سينا))، ومن ثم، فلا حاجة لمزيد من الكلام ها هنا أكثر ممّا أسلفناه هناك.
وما ينبغي ــ ضرورةً ــ إعادة التذكير به مجدّداً، هو أننا ملزمون بقراءة منهاجية بحث ابن سينا في الموضوعات السياسية ومفاهيم السياسة حتّى نتمكّن ــ عبر ذلك ــ من فهم فلسفته وفكره السياسيين، فقد أبدى ابن سينا المباحث المتعلّقة بالسياسة والأخلاق ضمن الأشكال والأطر والأساليب الأربعة المذكورة مما أوضحناه آنفاً، وعدم الالتفات إلى كيفية توزّع البحوث السياسية في مجموعة أعمال ابن سينا يؤدّي إلى عجزنا عن وعي فلسفته السياسية، نعم، مع الأخذ بعين الاعتبار مسبقاً هذه الآلية الدرسية للموضوع، لن نكون قادرين على التعرّف على محالّ بحث هذه الموضوعات عند ابن سينا ومظانّها فحسب، بل ستنجلي أمامنا جملة البنية الفلسفية السياسية السينوية، وهيكلـها العام، مع طبيعة العلاقة التي تربط أجزاءها بعضها ببعض، وسوف نفهم آنذاك أن ابن سينا أشغل نفسه ببناء مبادئ الفلسفة السياسية وأصولـها قبل أن يشغلـها بجزئيّات الفلسفة السياسية، لا بل إن ابن سينا ليس فقط لم يعتبر الانشغال الجزئي هذا خارجاً عن وظائف الفيلسوف ومهامّه فحسب، بل رآه منفصلاً أيضاً عن مهامّ النبي والسانّ والشارع، إذ اعتقد بأنّ هذه المسائل يمكن الوصول إلى تصّورات فيها عبر اتخاذ منهج عقلاني اجتهادي، وعموماً، عبر الاستفادة من تجارب الحياة الجماعية والحضارية للبشر، ذلك أن ظروف الزمان في تحوّل مستمرّ وصيرورة دائمة.
ولكي نتممّ الفائدة هنا، نستعرض في هذا الرسم التوضيحي كيفية توزّع الفكر السياسي والحكمة العملية عند ابن سينا داخل منظومته الفلسفية وأعمالـه المتفرّقة، إن هذا الرسم البياني يدلَّل على أن الفكر السياسي السينوي قد انتشر في مختلف نتاجاته، وعلى طول البنية الكبيرة لمنظومته الفلسفية، بصورةٍ لا نظير لـها ولا شبيه، إلاّ أنّ هذا التناثر لعقد الفكر السياسي السينوي تختبئ خلفه حلقات الوصل والارتباط، حتّى تنتج بمجموعها سياسةَ المدن عند ابن سينا.
إن فنّ الخطابة والجدل من علم المنطق، والعلم الثامن من العلوم الطبيعيّة الأصلية المسمّى بعلم النفس، إضافةً إلى العلم الرابع والخامس من العلوم الأصلية الإلـهية، وكذلك فرعين من فروع العلوم الفرعية الإلـهية، زد على ذلك تمام فروع الحكمة العملية، التي دوّنت على شكل مصنّفات جامعة، ومباحث متصلة، وبعضها بصورة كتابات مفردة ورسائل خاصّة في بعض هذه العلوم… كلّـها منابع ومصادر أصلية ومباشرة للفكر السياسي والفلسفة السياسية عند ابن سينا.
إنّ كتابات ابن سينا المفردة في موضوعات مثل الأخلاق، والسياسة، والنبوّة، وفلسفة العلم، وتقسيم العلوم وتنظيمها و.. نعرضها للقارئ في هذا الرسم التوضيحي.
 
 


[1] ــــ راجع: سه حكيم مسلمان (ثلاثة حكماء مسلمين): 9 وما بعد، الدكتور السيد حسين نصر، ترجمة أحمد آرام، طهران، شركت سهامي كتاب هاى جيبي، 1992م، الطبعة الخامسة.
[2] ــــ يعدّ الدكتور السيد جواد الطباطبائي إحدى الشخصيات التي عنيت بالفلسفة السياسية لابن سينا، مصنّفاً في ذلك بعض النتاج المدوّن، حيث أفرد لـها ــ خصوصاً ــ الصفحات 189 ــ 199 من كتابه ((زوال انديشه سياسي در إيران))، وكانت لـه إشارات مقتضبة في كتابه الآخر ((در آمدي فلسفي بر تاريخ انديشه سياسي در إيران))، كذلك الحال مع الدكتور داوود فيرحي في كتابه ((قدرت، دانش، ومشروعيت در إسلام)) حيث سجّل بحثاً جيداً نسبياً، غاية الأمر أنّ الشخصيّتين المحترمتين المشار إليهما لم توفّقا لكشف الواقع تماماً، بسبب عناصر لا مجال لذكرها هنا، وقد توصلا إلى نتائج تبعث القارئ على الحيرة والضياع.
في الجانب العربي، قدّم الباحث العربي المعروف الدكتور رضوان السيد في كتابه ((الأمّة والجماعة والسلطة)) من الصفحة 203 وما بعد، قدّم دراسةً جيّدة تحتوي على جوانب من الإفادة، كذلك ما قام به أحد الباحثين العرب الآخرين في تحقيقه رسالة (السياسة) لابن سينا مرفقةً برسالتين أخريتين تحملان الاسم نفسه لأبي نصر الفارابي وأبي القاسم المغربي ثم نشرها، كما كتب في مقدمة السياسة لابن سينا جملةً من الموضوعات التي تتصل بالفكر السياسي عنده، وهكذا الحال مع محمد يوسف موسى، إذ كتب مقالةً تحت عنوان: الناحية الاجتماعية والسياسية لابن سينا، وهي المقالة التي جعلـها رضوان السيد أحد مصادر كتابه، إلاّ أننّي لم أعثر عليها حتى الآن، والجدير ذكره وجود مقالات أخرى في المصادر الفارسيّة والعربية بالغة الصغر والاختصار.
[3] ــــ آيين وانديشه در دام خود كامكَى (سيرى در انديشه سياسى مسلمانان در فراز وفرودهاى تمدّن اسلامى): 128، السيد محمد خاتمي، طهران، طرح نو، الطبعة الثالثة، 2000م.
[4] ــــ سنت عقلاني اسلامي در ايران: 132.
[5] ــــ راجع: تسع رسائل في الحكمة والطبيعيّات، رسالة الطبيعيّات من عيون الحكمة: 2، طبعة بومباي، الـهند، مطبعة كلزار حسني، 1318هـ.ق.
[6] ــــ الشفاء 1: 11، المدخل، طبعة أوفست عن مكتبة آية اللـه العظمى المرعشي النجفي، قم، عن طبعة القاهرة، 1952م.
[7] ــــ الدكتور ذبيح اللـه صفا، تاريخ علوم عقلي در تمدّن إسلامي 1: 230، انتشارات دانشكاه طهران، الطبعة الخامسة، 1995م.
[8] ــــ راجع: ابن سينا، إلـهيات الشفاء: 455.
[9] ــــ راجع: ابن سينا، تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات (رسالة في أقسام العلوم العقلية): 77.
[10] ــــ راجع: إلـهيات الشفاء: 3 ــ 4، وأيضاً: الشفاء، قسم المنطق 1 (المدخل): 10، 12، 13، 14.
[11] ــــ تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات (الطبيعيات من عيون الحكمة): 2، طبعة بومباي، الـهند، مطبعة كَلزار حسني، 1318هـ.ق.
[12] ــــ المصدر نفسه: 3.
[13] ــــ راجع: الشفاء (الإلـهيات)، مصدر سابق: 454.
[14] ــــ تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات (رسالة في أقسام العلوم العقلية): 68.
[15] ــــ المقصود كتاب: علم الأخلاق إلى نيقوماخوس، لأرسطوطاليس، تعريب: أحمد لطفي السيّد، طبعة القاهرة، 1343هـ.ق، وهو يقع في مجلّدين.
[16] ــــ المقصود منه بريسون Bryson، والذي يسمّى أحياناً ((رونس))، فقد جاء اسمه على هذا النحو في فهرست ابن النديم: 215، 263، طبعة أوروبا، انظر: زمينه تاريخ فلسفه اسلامي: 64.
[17] ــــ يعلم من كلام ابن سينا هذا أنّه كان مطّلعاً على وجود كتاب السياسة لأرسطو، وأنه رآه، ذلك أنّه يتحدّث عنه بصراحة إلى جانب كتاب الجمهورية لأفلاطون، معيّناً موضوعه ومحتواه، وبناءً عليه، فما يسود من القول بأنّ الفلاسفة المسلمين ـ ومن بينهم ابن سينا ـ لم يكونوا مطّلعين على كتاب السياسة لأرسطو، مردود غير مقبول.
[18] ــــ تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات (رسالة في أقسام العلوم العقلية)، مصدر سابق: 69 ــ 70.
[19] ــــ من بينهم الدكتور السيد جواد الطباطبائي في كتابه: ((زوال انديشه سياسى در إيران))، والدكتور داوود فيرحي في أطروحة الدكتوراه التي طبعها تحت عنوان: ((قدرت، دانش، ومشروعيت در إسلام)).
[20] ــــ راجع: إلـهيات الشفاء، مصدر سابق: 454 و455.
[21] ــــ راجع: ابن سينا، المباحثات: 49 ــ 50.
[22] ــــ ابن سينا، منطق المشرقيين: 4.
[23] ــــ المصدر نفسه: 5.
[24] ــــ المصدر نفسه: 7.
[25] ــــ المصدر نفسه.
[26] ــــ منطق المشرقيين، مصدر سابق: 6 ــ 9.
[27] ــــ إلـهيات الشفاء، مصدر سابق: 454.
[28] ــــ منطق المشرقيين، مصدر سابق: 7.
[29] ــــ يقول الفارابي: وأمّا الأعمال التي يعملـها الفيلسوف فهي التشبّه بالخالق بقدر طاقة الإنسان، المنطقيات للفارابي 1 : 6 ــ 7، تنظيم وإعداد: محمد تقي دانش پژوه والسيد محمود المرعشي، طبعة قم، مكتبة آية اللـه المرعشي النجفي، 1408هـ . ق.
[30] ــــ الشفاء، الإلـهيات، مصدر سابق: 455.
[31] ــــ راجع: الإشارات والتنبيهات 3: 371، أبو علي حسين بن عبداللـه بن سينا، قم، نشر البلاغة، 1996م، الطبعة الأولى.
[32] ــــ إلـهيات الشفاء، مصدر سابق: 17.
[33] ــــ المصدر نفسه: 17 ــ 18.
[34] ــــ منطق المشرقيين، مصدر سابق: 4.
[35] ــــ منطق المشرقيين، مصدر سابق: 8.
[36] ــــ راجع: الإشارات والتنبيهات، مصدر سابق 3: 316 ــ 374.
[37] ــــ راجع المصدر نفسه 3: 334 وما بعد، تحت عنوان: النمط الثامن في البهجة والسعادة.
[38] ــــ راجع: المصدر نفسه: 371 ــ 374.
[39] ــــ إن تعبير العرفان والسلطة الرائع والجميل، من إبداعات الأستاذ الدكتور السيد مصطفى محقق داماد، أبدعه لشرح علاقة العرفان بالسياسة، ويعدّ الفلاسفة العرفاء من أمثال ابن سينا والسهروردي من روّاد هذا الميدان المعرفي، لمزيد من المراجعة لآثار الدكتور محقق داماد انظر: خرد جاودان: 625 ــ 636، إعداد علي أصغر محمد خاني وحسن سيد عرب، طهران، انتشارات فرزان، 1998م.
[40] ــــ الإشارات والتنبيهات 3: 368 ــ 368، ولمزيد من الاطلاع حول هذه الرسالة وترجمتها، راجع: رمز وداستانهاى رمزى در ادب فارسى: 440 ــ 444، تقي پور نامداريان، طهران، انتشارات علمي وفرهنكَى، 1996م، الطبعة الرابعة.
[41] ــــ راجع: حيّ بن يقظان، نصوص أربعة ومبدعوها: 47، الدكتور يوسف زيدان، بيروت، دار الأمين، 1419 هـ.ق.
Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً