أحدث المقالات

د. السيد إحسان رفيعي العلوي(*)

أ. محمد صادق ذوقي(**)

ترجمة: حسن علي مطر

توطئةٌ

يُعَدّ إنتاج وبَلْورة العلم الديني، وكذلك أسلمة المعرفة، من بين الضروريّات الهامّة بالنسبة إلى الحضارة الإسلاميّة المعاصرة. وقد تمّ طَرْح الكثير من الاتجاهات والأساليب المتنوِّعة في هذا الشأن؛ من أجل تحقُّق العلم الدينيّ وأسلمة العلوم. وكلّ واحدٍ من هذه الاتجاهات يشتمل على مبانيه المعرفية والمنهجية الخاصّة. وإن من أكثر هذه المناهج نجاحاً، والذي حَظِي باستقبالٍ كبير، رؤية النظام الفقهيّ وفق النظريّة الذي أُرسيَتْ قواعدها بجهود السيد الشهيد محمد باقر الصدر. إن من بين الجذور الهامّة للنظام الفقهيّ هي تلك التي تكمن في أبحاثه المنهجيّة، حيث هناك الكثير من مواطن الخلأ الجادّة في الأبحاث المنهجية والأسلوبية في فكر السيد الشهيد الصدر. ومن هنا، تسعى هذه المقالة إلى العناية بالأبحاث المنهجيّة للسيد الصدر، حيث سنعمل ـ بالإضافة إلى بحث أساليب إنتاج العلم في التفكير الغربيّ، والعمل كذلك على بيانٍ مختصر للأساليب والخطابات الموجودة في العلم الدينيّ ـ على مناقشة الأبحاث المنهجيّة والأسلوبيّة له في مجال النظام الفقهيّ بشكلٍ تفصيليّ؛ حيث تمّ السعي إلى بحث النقاط المنهجية التي صرَّح بها الشهيد الصدر نفسه، كما تمّ السعي ـ من خلال الاستفادة من تحليل النماذج والقضايا المتبلورة في المنظومة الفكريّة للسيد الشهيد الصدر ـ إلى استخراج وتنقيح الأسلوب والمنهج المعرفي لسماحته في مجال إنتاج العلم الدينيّ، والنظام الفقهي أيضاً.

1ـ إشكاليّات البحث

إن من بين الأبحاث الهامّة في مجال التأسيس للنظام الفقهيّ منهج إنتاج وكشف الأنظمة الإسلاميّة، وما هو المنطق والاتجاه الذي يمكن بواسطته استخراج الأنظمة الاجتماعيّة من التفكير الإسلاميّ؟ وفي هذا الإطار تمّ بحث وتداول الكثير من الاتجاهات والحوارات المختلفة في مجال إنتاج وبلورة العلم الدينيّ، حيث كانت تسعى إلى بيان مناهج وأساليب لإنتاج وبلورة العلم الديني، حيث يمكن لهذا البحث والتحقيق الأوّلي أن يُثري حوار التأسيس للنظام الفقهيّ بشكلٍ ملحوظ. وبطبيعة الحال فإن وجود هذه الأساليب لا يمنع من البحث في أسلوب التأسيس للنظام الفقهيّ؛ وذلك لأن خطاب التأسيس للنظام الفقهيّ يقوم على الآراء والاتجاه الفكريّ للسيد الشهيد الصدر، ولذلك يجب بسط وتفصيل مداخل هذا الأسلوب على أساس أفكاره. ومن هنا، فإن هذه الدراسة تسعى ـ بعد بيان بعض الأساليب المطروحة في إنتاج وبلورة العلم الديني ـ إلى بيان الاتجاه المختار للشهيد الصدر في مجال التأسيس للنظام الفقهيّ، والعمل على بسط أفكاره وآرائه في هذا الشأن.

كما صرَّح الكثير من المفكِّرين فإن الأسلمة لا تعني إضافة عباراتٍ دينية إلى القضايا العلمية، بل بمعنى إحياء بِنْيةٍ منهجيّة ومعرفيّة للعلوم والقوانين([1])؛ حيث لهذه البِنْية لوازم ومستلزمات دينيّة وإسلاميّة، وباعتبار هذه اللوازم والمستلزمات يمكن إضافة صفة الإسلامية أو الدينية إلى القضايا التي يتمّ إنتاجها وبلورتها.

يلجأ الفلاسفة والعلماء؛ من أجل التعرُّف على الحقائق واكتشافها، إلى مختلف المباني والمصادر؛ فمنهم مَنْ يعتبر العقل وسيلةً للاستدلال والبرهان؛ وبعضهم يرى التجربة بواسطة الحواسّ؛ وهناك مَنْ يذهب إلى القول بأن القلب عبر التزكية؛ ومنهم مَنْ يقول بالوَحْي من طريق الكتب السماويّة؛ ومنهم مَنْ يجمع بين جميع هذه الأمور في كلّ موردٍ خاصّ، بوصفه مصدراً للمعرفة([2]). وعلى هذا الأساس، فإن الأساليب والاتجاهات؛ من أجل الحصول على المعرفة الحقيقية والمعتبرة، متعدِّدةٌ ومتنوّعةٌ. ومن الواضح أن كلَّ واحدٍ من هذه الأساليب يشتمل على دعائمه المعرفيّة الخاصة. والسؤال الهامّ الذي يطرح نفسه في هذه المقالة: ما هي المصادر التي يجب الاستفادة منها في إنتاج الأنظمة الإسلاميّة، والتي يجب توظيفها في إنتاج وبلورة العلم الدينيّ بشكلٍ عامّ؟ وكذلك كيف يكون أسلوب التحقيق في هذه الموضوعات؟

وهذا هو ما نسعى إلى الإجابة عنه في هذه المقالة، في إطار دراسة الأساليب والاتجاهات المختلفة في تحقُّق العلم الديني، والتأسيس للنظام الفقهي.

إن الظاهرة مورد البحث في مجال العلوم الاجتماعية تواجه مختلف التحدّيات، ومن أهمّها: الخصيصة الهرمنيوطيقية الثنائية([3]) أو ما يُسمِّيه كارل بوبر بـ «تأثير التوقُّع على الحدث غير المتوقَّع»؛ ببيان: إن الإنسان على مرّ الزمان؛ وبفعل التعاطي مع مختلف النظريات الاجتماعية، يعمل على تغيير سلوكه. ونتيجةً للرواية الداخلية([4]) يتمّ الخَدْش في نظريّةٍ جديدة من سلوك الإنسان([5]). في حين لا وجود لمثل هذا التحدّي في إنتاج النظريات الإسلاميّة ـ ولا سيَّما في التأسيس للنظام الفقهي ـ في مرحلة بَلْورة النظريات الإسلامية؛ لأن المصدر في إنتاج الأنظمة في التأسيس للنظام الفقهيّ هو جوهر الشريعة، ونسعى إلى استخراج مباني الفكر الإسلامي في ذلك الموضوع الخاصّ ـ كالاقتصاد أو السياسة، على سبيل المثال ـ، ولا مدخلية فيها للعناصر المتغيِّرة الدخيلة، من قبيل: الإنسان، وإنْ كانت هناك في مرحلة تفعيل التأسيس للأنظمة الإسلامية تتمّ ملاحظة مختلف العناصر، من قبيل: الزمان والمكان والإنسان وما إلى ذلك؛ حيث يُعَدّ لحاظ هذه المجموعة من العناصر من الملاحظات العمليّة لها، ولا تكون دخيلةً في مرحلة إنتاج وبَلْورة النظريات.

لقد دخل علم المنهج حيِّز التداول منذ أواخر القرن التاسع عشر للميلاد، وذلك في ما يتعلَّق بالحسابات المنطقية؛ من أجل الوصول إلى الحقيقة العلميّة، والتي يُطْلَق عليها في بعض الأحيان مصطلح «المنطق العلميّ». وفي القرن العشرين حَلَّ مصطلح منطق التحقيق محلّ علم المنهج على مستوى التداول والاستعمال([6]). إن الآليّة العامّة في العلوم التجريبية والأساسية تقوم على هذا المنوال، وهو أن الباحث يسعى ـ من طريق صياغة المفاهيم([7]) ـ إلى تحويل العالم الواقعيّ للظواهر إلى عالمٍ اعتباريّ قائمٍ على النماذج والتعاريف؛ حيث تكون المرحلة اللاحقة هي مرحلة صياغة المفاهيم، وتنظيم القضايا أيضاً([8]). ويوجد ذات هذا الاتجاه ـ إلى حدٍّ ما ـ في التأسيس للنظام الفقهي، مع فارق أن الظاهرة مورد البحث والدراسة في إنتاج وبلورة الأنظمة الإسلامية ليست من الأمور الخارجية، بل هي من الحقائق والأفكار التي تمّ التأسيس لها في التفكير الإسلاميّ، وبالتالي فإننا في نهاية المطاف بصدد صياغة المفاهيم، وتحويل هذه الأفكار الإسلامية إلى نظريّاتٍ وأفكارٍ واضحة.

وعلى هذا الأساس، فإن الغاية والقصد في معرفة أساليب العلوم الإنسانية ـ ولا سيَّما العلوم الإنسانية الإسلامية ـ هو التأسيس لمنظومةٍ منهجيّة. والمراد من المنظومة المنهجية هو القانون الفلسفي أو المبادئ الفلسفية؛ حيث يتمّ العمل على إضفاء النَّظْم عليها من خلال تعيين منهج الأفكار، ومن دون هذه التقنينات والأفكار والتأمّلات سوف تتحوَّل إلى تصوُّرات لقيطة([9])؛ إذ مع غياب النظم المنطقيّ سوف تكون متهافتة أو متناقضة، وتجعل من إمكان إنتاج وبلورة النظريّات الإسلامية أمراً عقيماً. إن التحدّي والاضطرار إلى وجود مثل هذه الاتجاهات، التي تعمل على إيجاد هذا النظم والمنطق، يتضاعف في العلم الدينيّ؛ لأن الدين والقضايا الدينية متعدِّدةٌ ومتكثِّرةٌ، وفي بعض الموارد يكون هناك تنافٍ حتى بين هذه القضايا ذاتها. يُضاف إلى ذلك أن هناك تعدُّداً في فهم وتفسير هذه القضايا أيضاً، وتزيد من التحدِّيات الماثلة أمام النصّ الديني. ومن هنا، يبدو من الضروريّ جدّاً أن يكون هناك أسلوبٌ منسجم ومنطقيّ للوصول إلى تحليلٍ أفضل وأدقّ للقضايا الدينيّة الموجودة، حيث نكون بفضلها بمنأىً من الوقوع في السَّهْو والخطأ.

2ـ نماذج من المناهج المعرفيّة في الخطاب الغربيّ

نشير في هذا المحور ـ قبل بحث أساليب وخطابات إنتاج العلم الديني ـ إلى أربعة مناهج معرفية في إنتاج العلم في الخطاب الغربي. ويمكن القول تقريباً: إن جميع هذه النماذج([10]) الفكرية ـ التي سوف نشير إليها في سياق الحديث عن اتجاهاتها الأربعة ـ تعود بجذورها إلى الفلسفة الإغريقية. والاختلاف فيما بينها يكمن في أنها تنظر إلى الطبيعة والإنسان من آفاق مختلفة. ومن هنا يمكن القول: إن الفكر الغربيّ على المستوى العام هو من قبيل: المظلّة التي تنضوي تحتها مختلف الأنظمة الفلسفية، ويمكن العثور على مبانيها في الفلسفة الإغريقية، من قبيل: الفلسفة الوضعية، والفلسفة التأويلية، والاتّجاه النقدي، بل وحتّى الأشكال الفلسفية الأخرى، من قبيل: التشكيك الفلسفي، الذي يمكن ملاحظته في تفكير نيتشه([11]).

أـ الفلسفة الوضعية([12])

إن الفلسفة الوضعية تعمل ـ من خلال سَلْب المفهومية عن جميع القضايا المفتقرة إلى قابلية التجربة ـ على نفي إمكانية الحصول على أيّ نوعٍ من أنواع المعرفة غير التجريبية تجاه الواقع؛ حيث تعود جذور تعاليم هذه المدرسة إلى آراء راسل وفيتغنشتاين. وإن مركز ثقل العلوم التجريبية من زاوية هذه الرؤية يقوم على أصل الاستقراء([13]). لقد أدّى هذا الرأي في بداية الأمر، وعند نيتشه، إلى التأسيس لثورةٍ علميّة، ظهرَتْ وتمّ تعميمها بشكلٍ رئيس في القرن السابع عشر للميلاد، على يد علماء، من أمثال: غاليلو؛ ونيوتن؛ ولا سيَّما فرانسيس بيكون([14]). يمكن مشاهدة تأكيد هذا الرأي على التجربة التي يراها مصدراً للمعرفة، ويعمل على ترجيح المنهج الاستقرائي على المنهج القياسي. يذهب أنصار هذه المدرسة إلى الاعتقاد بأن العلوم الطبيعية في ما يتعلَّق بالحصول على العلم والمعرفة الواقعية يجب أن تمرّ بقنطرة التجربة والمشاهدة، وأن على العلوم الاجتماعية أن تتأسَّى بالعلوم الطبيعية، وأن تجعل بيان وتحليل المعطيات التجريبية على سُلَّم أولوياتها([15]). وباختصارٍ، فإن هذا الاتجاه يعتبر النظريّات العلمية ناشئةً ومنبثقةً من المعطيات التجريبية التي يتمّ الحصول عليها بالمشاهدة والاختبار([16]). إن النزعة التجريبية في بيان العلاقة بين الظواهر المادّية، بَدَلاً من البحث في العِلَل الميتافيزيقية بالإضافة إلى العِلَل المادّية، قد اقتصرَتْ على الخَوْض في العِلَل المادّية فقط، ولهذا السبب تمَّتْ تسمية أسلوبهم في البيان: «المادّية الميثودولوجية»([17]). إن هذه الرؤية الوضعية إلى العلم قد امتدَّتْ حتّى تسلَّلت إلى مجال العلوم الإنسانية أيضاً، وكانت تسعى إلى إضافة المعارف والعلوم إلى إطار المعيار التجريبي والتحقيقي([18]).

ب ـ قابلية الدَّحْض([19])

تظهر رواية ما بعد الفلسفة الوضعية عن هويّة العلم في منتصف القرن العشرين، وهي رواية «ما بعد الوضعيّة»، حيث تؤكِّد ضمن الاتجاه النقدي على الرؤية الوضعية، التي تؤكِّد على تأثير المفاهيم الميتافيزيقية والقِيَميّة في هويّة العلم والبِنْية الفكرية للعالم؛ إذ يقع هذا الاتجاه في مقابل الفلسفة الوضعيّة. ويجب اعتبار «كارل بوبر» الوجه البارز في هذا الاتجاه؛ حيث قامت رؤيته على القول ببطلان قابلية إثبات العلوم الاجتماعية والإنسانية بواسطة معيار العلوم الطبيعية. يقوم اتجاه كارل بوبر على دَحْض النظريات، ببيان: إن المعيار والشرط في علميّة فرضيّةٍ ما هو قابلية الدَّحْض([20])؛ فإذا أرَدْنا أن نعتبر فرضيّةً ما جزءاً من المعرفة العلمية وجب أن تكون قابلةً للدَّحْض([21]). ولهذا السبب، وانطلاقاً من هذا الاتجاه، فإنه يعتبر القضايا الدينية والميتافيزيقية، وكذلك القضايا القِيَميّة، غير علميّةٍ؛ لعدم اشتمالها على خصوصية قابلية الدَّحْض([22]).

وعلى هذا الأساس، فإن فلسفة قابلية الدَّحْض عند كارل بوبر نظريّةٌ بشأن المنهج العلمي، ومعيارٌ للتمييز والفصل بين القضايا العلمية والقضايا غير العلمية([23]). إن النظرية ـ من وجهة نظر القائلين بقابلية الدَّحْض ـ مجرَّد حَدْسٍ يتمّ اقتراحه؛ للتكهُّن بأداء عالم الطبيعة فقط. إن العلم لا يقدّم لنا أيّ معرفةٍ يقينية. إذ يرى كارل بوبر أن النظريات العلمية لا يمكن إثباتها بشكلٍ كامل أبداً، ولكنّها مع ذلك قابلةٌ للاختبار. ويمكن للنظريات أن يتمّ إبطالها بالتجربة والاختبار، ولكنْ لا يمكن إثبات أيّ نظريّةٍ علميّة تدَّعي لنفسها التعميم بواسطة أيّ اختبارٍ أبداً([24]). وعلى هذا الأساس، فإن النظرية التي تحظى بالمرجعية في الاتجاه الدَّحْضي هي النظريّة التي تخرج بسلامٍ من الاختبارات المتعدِّدة، وتحوز على المزيد من البراءات([25]). ولذلك فإن نموذج قابليّة الدَّحْض يكون هو المنهج في إنتاج القضايا المتَّصفة بوصف العلميّة، على النحو التالي، وهو: أن تكون القضايا المُنْتَجة متّصفة بقابلية الإبطال والدَّحْض على النحو المتقدِّم ذِكْرُه.

ج ـ الفلسفة التأويليّة([26])

إن النزعة الرومنطيقية ـ التي كانت تمثِّل ردّة فعل على التفكير الميثودولوجي والعقلانيّة الديكارتية وأصالة الفيزياء الكانْطية ـ قد شكَّلت بدايةً لنموذج جديد بالنسبة إلى العلوم الإنسانية، ونعني بذلك النموذج التفسيري. وعلى الرغم من أن النموذج الوضعي ـ من زاوية الاتجاه التفسيري ـ يضع تحت تصرُّف المحقِّق نوعاً من الواقعية، إلاّ أن هذه المعرفة لا تكشف للمحقِّق عن جميع أبعاد الواقعية. ويُعَدّ فيلهلم ديلثي ـ المفكِّر والفيلسوف الألماني البارز ـ من أهمّ المفكِّرين في هذه المدرسة. وقد كان هاجسه يتمثَّل في تعيّن وإضفاء الهويّة على العلوم الإنسانية؛ وذلك لأن الوضعيّين يرَوْن أن الطريق الوحيد لإضفاء التعيُّن والقيمة المعرفية على العلوم في الاستفادة من الأسلوب التجريبي الشائع في العلوم الفيزيائية والطبيعية، وفي هذه الرؤية تُعَدّ العلوم الإنسانية ـ وعلى حدّ تعبير فيلهلم ديلثي: «العلوم المعنوية»([27]) ـ؛ بسبب عدم خضوعها للتجربة، ساقطةً عن الاعتبار. ومن هنا فقد اتَّجهَتْ هِمَّة فيلهلم ديلثي إلى تقديم معيارٍ وملاك لتعيُّن العلوم الإنسانية، وإثبات أن هذه العلوم على مستوى العلوم الطبيعية والفيزيائية متعيِّنةٌ وقيِّمةٌ ومعتبرة ومعبِّرة عن الواقع([28]).

يرى فيلهلم ديلثي أن موضوعات العلوم الإنسانية ذات خصائص تاريخيّة؛ بمعنى أن المؤلِّفين وأصحاب الآثار الفلسفية والأدبية والفنية والدينية، والأحداث والوقائع والمؤسَّسات الاجتماعية، وبشكلٍ عامّ جميع موضوعات العلوم الإنسانيّة، ظواهر تاريخية؛ بمعنى أن هذه الموضوعات والظواهر قد تبلوَرَتْ في الأزمنة الماضية، وأن الفاعل المعرفي والمفسِّر الذي يسعى في الوقت الراهن إلى قراءتها ودراستها إنما يقوم في الحقيقة بدَوْر المفسِّر الذي يسعى إلى تفسير تلك الظواهر. ومن هنا فإن غاية فيلهلم ديلثي تتلخَّص في سَعْيه إلى تأسيس ميثودولوجيا ومنهج للعلوم التاريخية، وتأسيس صرحٍ لهذه العلوم؛ لكي يحقِّق فَهْماً قطعياً وعينيّاً لهذه العلوم. وعلى هذا الأساس، فإن موضوع العلوم الفيزيائية عبارةٌ عن الأشياء الخارجية، والتي تكون في وجودها مستقلّةً عن الإنسان بوصفه فاعلاً معرفيّاً وموضوعيّاً، وليست هي وليدة الذهن الإنساني. وأما موضوع العلوم الإنسانية فهي تشمل الفاعل المعرفي نفسه أيضاً؛ إذ إن كيفيّة وطريقة تفسير كلّ شخصٍ تقع بدَوْرها تحت تأثير خصوصيّات ذلك الفاعل المعرفي. وعلى هذا الأساس، فإن التمايز الأسلوبي بين العلوم الطبيعيّ والعلوم الإنسانية يكمن في أن التبيين([29]) هو ثمرة ونتيجة العلوم الطبيعية، في حين أن الفهم هو ثمرة العلوم الإنسانية([30]). وباختصارٍ، فإن الأسلوب والمنهج الذي يقدِّمه فيلهلم ديلثي يقوم على أن الهرمنيوطيقا أسلوبٌ ومنهج لفهم العلوم الإنسانية، وإن هذا المنهج الهرمنيوطيقي لفهم الظواهر الإنسانية يتمّ العمل على إنتاجه وتوجيهه والاستفادة منه([31]). كما يندرج پول ريكور، وكذلك غادامير، من المنظِّرين في مجال العلوم الإنسانية ـ بدَوْرهما ـ ضمن النموذج والاتجاه التفسيري أيضاً.

يهتمّ أصحاب الاتجاه التفسيري بالفَهْم المتعارف والاعتقادات العُرْفية؛ للوصول إلى إدراك وفَهْم الناس للعالم المحيط بهم. إن الفَهْم المتعارف يحتوي على مفهومٍ يستفيد منه الناس في حياتهم اليومية، وإن هذا الفَهْم المتعارف يُعَدّ مصدراً هامّاً للمعلومات من أجل فَهْم التوجُّهات العلميّة للناس وفرضيّاتهم بشأن العالم. يذهب أصحاب الاتجاه التفسيري إلى الاعتقاد بأن المعطيات والمدارك المرتبطة بالأمور الاجتماعية لا يمكن أن تنفصل عن الأمور المعنوية التي ألصقها الفاعل بها([32]). وعلى هذا الأساس، فإن المعرفة لا تكون معتبرةً، ولا يصدق عليها عنوان العلمية ـ من وجهة نظر خطاب الاتجاه التفسيري ـ، إلاَّ إذا تمّ انتاجها على أساس المنهج الدقيق والمنسجم للاتّجاه التفسيري، وأن يتبع القواعد والاتّجاهات التفسيرية.

د ـ الاتِّجاه النقديّ

يمثِّل الاتّجاه النقدي في العلوم الإنسانيّة خطاباً رابعاً قد تبلور على أساس النموذج النقدي. وإن لهذا النموذج النقديّ رؤيةً مختلفةً إلى العالم الاجتماعي عن الفلسفتين: الوضعية؛ والتأويلية. وعلى الرغم من أنه ـ مثل الفلسفة التأويليّة ـ يرى العالم الاجتماعي مختلفاً عن العالم الطبيعي، ولكنّه لا ينفي بحث المشاهدة والتقعيد قبل تعيُّن النظام الاجتماعي. يسعى أصحاب الاتجاه النقدي إلى جَذْب المزايا والنقاط الإيجابيّة للنموذجين: الوضعيّ؛ والتأويلي، ورفع النقاط السلبيّة فيهما([33]). يختلف النموذج النقدي من جهةٍ عن الرؤية الميكانيكية للوضعيّين تجاه هويّة الإنسان؛ بسبب تجاهل الإنسان وخضوعه لشرائط معرفته. إن التصوير الوضعيّ ـ من زاوية هذا النموذج ـ يؤدّي إلى تشيُّؤ الإنسان، واغترابه في نهاية المطاف عن ذاته وقواه الخلاّقة والمُبْدِعة؛ ومن ناحيةٍ أخرى فإن هذا النموذج على الرغم من الرؤية التفسيرية، إلاّ أنه لا يعتقد بعقلانيّة جميع التصرُّفات والأفعال الإنسانية. إن الإنسان على أساس هذا الاتجاه، من خلال امتلاكه للطاقات الكامنة فيه بالقوّة، وقدرته على الإبداع الأسمى، يقع في حالة ما بين الجَبْر والاختيار، وإن الإنسان من خلال معرفة القوانين التاريخية والأفعال الجماعية الناشطة يمكنه أن يعمل على تغيير الواقع الموجود، وتحرير الناس ومساعدتهم في الوصول إلى عالمٍ أفضل([34]).

إن التفسير النقديّ يعمل على توصيف الشرائط القائمة، ويقوم بشرح كيفيّة تغييرها، ويقدِّم تصويراً عن المستقبل. إن التفسير النقديّ في خدمة فَهْم الآليّات الخفيّة عن الواقعية، كما أنه أداةٌ لنقد الشرائط القائمة، مع تقديم خطّةٍ لتغييرها([35]). ومن الجدير ذِكْرُه أن المدافعين عن نظريّة أسلمة المعرفة قد استفادوا الاستفادة القصوى في نقض النموذج المنافس لهم (أي الفلسفة الوضعيّة)، وكذلك في إثبات نموذجهم المعياريّ، من أدبيات مدرسة فرانكفورت([36]) والاتجاه النقدي. ويمكن اعتبار (الدكتور محمد محمد إمزيان) النموذج البارز لهذا التيّار، حيث اتَّخذ في عام 1991م خطوةً جادةً وهامّةً في بيان نظرية أسلمة المعرفة، من خلال صدور كتابه بعنوان: «منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية». فقد سعى في هذا الكتاب إلى إثبات استحالة تصوُّر منهجٍ حيادي في مجال العلوم الإنسانية؛ بحيث يكون مستقلاًّ عن الفلسفة، وعن سابقته المعرفيّة ورؤيته الكونيّة، ولذلك فإنه فيما وراء الأساليب والمناهج العلمية الحديثة تقع الفلسفات الوضعية والمادية، حيث تعمل على تفسير تصوُّراتها المادية بشأن العالم والإنسان والحياة، ولذلك لا يمكن القبول بدعوى حياديّة وواقعيّة العلوم. لقد كان الطرح الهامّ لـ (محمد إمزيان) في هذا الكتاب أنه خاض في نقد المفاهيم الشائعة بشأن النزعة العلمية، حتّى قبل بيان خصائص العلوم الاجتماعية الإسلامية. إنه من خلال توظيف أدبيات النظرية النقدية يرى عدم صوابية وحدة أسلوب العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانيّة، ويصرِّح بأن النظرية الإسلامية تقوم على أن الحقيقة العلمية غير منحصرةٍ بالتجربة والوجود المادّي، وأن التأكيد على المنهج والأسلوب العلمي لا يؤدّي بالضرورة إلى الاتِّجاه التجريبي والمادّي. ومن هنا، فقد عمد المؤلِّف إلى التمييز والفصل بين ثلاثة أساليب علميّة، وهي: الأسلوب العلمي الاستنباطي؛ والأسلوب العلمي التجريبي؛ والأسلوب العلمي التاريخي؛ وأضاف إليها أسلوباً رابعاً باسم: الأسلوب الإسلامي، وعرّف به على أنه الوَحْي وأحد مصادر المعرفة في مجال العلوم الاجتماعية والمجالات المعرفية الأخرى. وقد ذهب إلى الاعتقاد بأن هذا المنهج والأسلوب يحظى بدرجةٍ عالية من التعبير عن الواقع([37])؛ حيث يتعيَّن على الدكتور محمد إمزيان أن يعتبر نفسه ـ في هذه الرؤية النقدية للاتجاه الموجود ـ مديناً للاتجاه النقدي المنبثق عن مدرسة فرانكفورت. وعلى هذا الأساس، فإن الاتجاه النقدي قد حَظِيَ بين المفكِّرين والباحثين في الفكر الإسلامي وأسلمة المعرفة باستقبالٍ ملحوظ، كما يمكن اليوم للنموذج النقدي ـ بالنظر إلى الظرفيّات التي يمتلكها في إطار إنتاج العلم ـ أن يكون ممهِّداً لأبحاث أسلمة المعرفة.

3ـ اتِّجاهات إنتاج العلم الدينيّ

في المحور الثاني من هذه الدراسة تتمّ الإشارة إلى اتجاهات المفكِّرين والعلماء المختصّين في العلم الديني في ما يتعلَّق بإنتاج العلوم الإنسانية الإسلامية. ولكنْ قبل بيان الآراء نشير إلى بعض الملاحظات، التي يجب أخذُها بنظر الاعتبار في إنتاج أساليب ومناهج استخراج العلم الديني.

الملاحظات المنهجيّة([38])

1ـ صياغة المعرفة الإسلامية على أساس عناصر وخصائص الرؤية الكونية الإسلامية، ببيان: إن الميثودولوجيا ـ التي يتمّ توظيفها في تأسيس العلم الدينيّ ـ يجب أن تعكس وتصوغ آراء الفكر الإسلاميّ في الرؤية الكَوْنيّة الخاصة لها. وفي الأساس فإنه بفضل هذه العناصر يُعَدّ العلم المنتج دينياً؛ وذلك لأنها منبثقةٌ عن الفكر الإسلامي في موضوعٍ خاصّ؛ وعلى هذا الأساس فإن العنصر الأصلي والأوّلي في إنتاج العلم الدينيّ هو الاهتمام بالمصادر الإسلامية.

2ـ تأسيس اتجاهٍ ناجعٍ للتعامل مع التراث الإسلاميّ: إن كلّ أسلوب ومنهج يتمّ طرحه لإنتاج العلوم الإنسانية الإسلامية يجب أن يشتمل على هذه الخصيصة، التي تمكِّنه من الارتباط بالتراث الإسلامي، وبناء العلوم الإنسانية على أساسها. إن التراث الإسلاميّ هو الأعمّ من القرآن الكريم والروايات الشريفة، وكذلك آراء ومساهمات المفكِّرين الإسلاميين، التي هي في الغالب منبثقةٌ عن القرآن والسنّة أيضاً. وفي هذا الإطار يجب أن تتمتَّع بالقدرة على إبداء الرأي ومناقشة النصوص المعرفية، وفهم النصوص، ومعرفة الحجِّية، وما إلى ذلك. وعلى هذا الأساس، فإنه بالنظر إلى ظهور الاتجاهات والأساليب الملحوظة في العلوم الجديدة، يمكن للهرمنيوطيقا، والفلسفات اللغوية، وتحليل الخطاب، وتحليل المحتوى، أن تمهِّد الطريق للكثير من أبحاث أسلمة العلوم وإنتاج العلوم الدينيّة.

3ـ التعامل مع المعطيات البشريّة: على الرغم من قيام فكرة إنتاج العلوم الإنسانية الإسلامية على هذا الاتجاه، القائل بوجوب قيام العلوم الاجتماعية والإنسانية على أساس التراث والفكر الإسلاميّ، بَيْدَ أن إنكار المعطيات البشريّة في مختلف العلوم الاجتماعية، وغير الاجتماعية أيضاً، أمرٌ غير ممكنٍ. وعلى هذا الأساس، فإن كلّ أسلوبٍ ومنهجٍ يتمّ التخطيط له في إنتاج العلوم الدينيّة يجب أن يحتوي على هذه القابلية، التي تجعل العلم المضاف بلحاظ المحاور السابقة قادراً على تجهيز الباحث والمحقِّق في العلم الدينيّ؛ كي يتعلَّم أوّلاً كيفية التعامل مع المعطيات البشرية؛ وأن يعمل ثانياً على بيان مساحة هذا التعاطي والتعامل.

وقبل بيان مختلف الاتجاهات في العلم الديني سوف نبيِّن تعريف العلم من قِبَل المتكلِّمين والفلاسفة والمناطقة، من المتقدِّمين والمتأخِّرين، حيث تمّ تعريف العلم بأنه: «حضور صورة الشيء عند العقل أو عند النفس»([39]). وبغضّ النظر عن مقام الحكم بشأن هذا التعريف، فإن جميع مصاديق واتجاهات العلم الدينيّ تمثِّل مصداقاً لهذا التعريف؛ وذلك بسبب عموميته وشموليته. ولا بُدَّ من الالتفات إلى هذه النقطة، وهي أنه حيث سنبحث أيّ واحدٍ من أساليب تحقُّق العلم الديني فإنه؛ بالنظر إلى المبادئ المعرفيّة والمنهجيّة لكلٍّ من هذه الاتجاهات، سوف يظهر تعريفٌ خاصٌّ للعلم، ويمكن لهذا التعريف المختار أن يكون مذكوراً أو مستتراً في كلامه ورأيه.

أـ الاتِّجاهات الدنيا

1ـ الاتِّجاه النقليّ

إن العلم الدينيّ ـ طبقاً لهذا الاتجاه ـ هو العلم الذي يتمّ استخراجه واستنباطه من النصوص الدينية. إن التأكيد على هذا المبنى في ماهيّة العلم الدينيّ، بالإضافة إلى القبول بالتجربة المحورية في العلم، قد أدَّى ببعض العلماء إلى القول باستحالة وعدم إمكان العلم الدينيّ من الأساس. وعليه فإن هذا الاتجاه في واقع الأمر ينكر العلوم الإنسانية الإسلامية والعلم الدينيّ بمعناه الشائع. وفي هذا الاتجاه يعمل المنكرون والمخالفون للعلم الديني ـ بتأثيرٍ من مبانيهم الدينية والعلمية والمنهجية ـ ضمن بيان ماهيته على نفي إمكانيته وضرورته ومطلوبيته. يذهب هؤلاء إلى الاعتقاد بأن العلم المتَّصف والمنتسب إلى الدين هو العلم الذي يستنبطه علماء الدين المختصّون بالفقه والأصول والتفسير في ضوء المنهج الاجتهادي من الآيات والروايات([40]).

يمكن مشاهدة جذور هذا الاتجاه في بعض آثار أبي حامد الغزالي، ومن بينها: كتاب «جواهر القرآن»؛ و«المنقذ من الضلال». وعلى الرغم من تصريح الغزالي في كتاب «إحياء علوم الدين» بأن العلوم إما نقليّة؛ أو عقليّة، إلاّ أنه يؤكِّد مع ذلك بأن القرآن الكريم؛ حيث هو «تبيانٌ لكلّ شيءٍ»، فإن جميع الحقائق موجودةٌ فيه، ويجب علينا أن نستفيد من العلوم الدينيّة، وإنه يجب أن تكون جميع العلوم دينيّةً، وحتّى ما كان من العلوم، مثل: الطبّ والهيئة، يجب استخراجه من القرآن الكريم أيضاً.

وقد ذهب بعض الأخباريّين من الإمامية إلى سلوك طريقة الغزالي، وأضافوا لها دليل العلم اللدني للأئمّة الأطهار؛ حيث لديهم علم ما كان وما يكون، وإن العلوم النقليّة هي وحدها المعتبرة.

وإن أوّل مَنْ عمل على نقد العلوم البشريّة صراحةً، وحَصْر القيمة المعرفية بالعلوم النقلية الدينية فقط، هو الميرزا مهدي الأصفهانيّ، مؤسِّس المدرسة التفكيكية؛ حيث رأى المعارف البشرية، في كتابه «معارف القرآن»، جهالةً وضلالةً، كما أنه قال، على ما ورد في تقريرات الحلبي عنه: «أعظم الحجب للمعرفة حجاب التعقُّل». وعلى الرغم من أن هذا الاتجاه قد انخفض بعد الميرزا مهدي الأصفهانيّ، من خلال الأخباريين الجُدُد الذين ظهروا في المجتمع، وعلى الرغم من قولهم بأن الحجِّية لا تكون إلاّ لتلك العلوم التي جاء بها الأنبياء، إلاَّ أنهم لم يكونوا يصرُّون على القول بأن جميع العلوم التي يحتاج إليها الناس يمكن استخراجها واستنباطها من الآيات والروايات([41]).

2ـ الاتِّجاه الغائيّ

يمثِّل هذا الاتجاه نظرةً متواضعةً جدّاً إلى العلم الدينيّ، حيث يرى أن المعيار الوحيد لاتّصاف العلم بالصفة الدينيّة هو أن يصبّ موضوعه في خدمة الأهداف والغايات الدينيّة والمجتمع الدينيّ. ونتيجةً لذلك فإن العلم الدينيّ هو العلم الطبيعي أو الإنساني الموجود؛ حيث يكون في خدمة أهداف الدين والمجتمع الديني. ومن دون أخذ الهدف والغاية بنظر الاعتبار لا يكون هناك أيّ وجهٍ للقول بتقسيم العلوم إلى: علوم دينية؛ وعلوم غير دينية. ورُبَما أمكن القول بأن من الشخصيات التي تذهب إلى هذا الرأي هو «السيد حسين العطاس»([42])؛ حيث قال بأن العلوم الاجتماعية وسيلةٌ ومجموعةٌ من العلوم التي يمكن أن يستفيد منها بعض الأشخاص ضدّ أهداف الأسلام، ومن هنا فإن البحث بشأن أسلمة العلوم الاجتماعية يمثِّل نوعاً من إشاعة التضليل([43])؛ ولكنْ بعد النظر في الآراء الأخرى للسيد العطاس يتّضح أنه قد اختار رأياً آخر، سوف نذكره لاحقاً.

ومن الجدير بالذكر أن كلّ شخصٍ يقول بإمكان العلم الدينيّ فإنه يقبل بالضرورة هذه المرحلة من إنتاج العلم الإسلامي أيضاً، من قبيل: الموارد التي تعمل على توجيه علم الاجتماع والعلوم الاجتماعية نحو أهدافها المثالية، الوطنيّة والدينيّة([44]). ويقول الدكتور گلشني في هذا الشأن: إن العلم الإسلامي هو العلم الذي يتطابق مع أصول ومعايير وأهداف الوَحْي الإسلامي ويتمسَّك بها. إن غاية العلم الإسلامي شاملةٌ، ولا تفصل المعرفة الدينية عن المعرفة العلمية، وهذه الغاية عبارةٌ عن توجيه الإنسان إلى الله الخالق والحافظ للعالم وبيان صفاته([45]).

من الناحية الإبستمولوجية، وبالنظر إلى المبنى الواقعيّ للعلم الدينيّ، يمكن القول بأن الغاية من هذا العلم هي المعرفة الصحيحة للعالم. وبالنظر إلى أن مجرّد معرفة الواقع هي معرفةٌ متواضعة لوظيفة العلم، فإن قيمتها تكمن ـ في سياق الأهداف والغايات المقدَّسة والمنشودة ـ في السيطرة على العالم؛ من أجل تلبية الاحتياجات وحلّ المشاكل الواقعية التي تعاني منها البشريّة. بالإضافة إلى أنه، بالالتفات إلى القيود المنهجية والمعرفية في العلم الدينيّ، لا يمكن لهذا العلم أن يجعل غايته كشف ذات وماهيّة الأمور، ولا سيَّما منها الأمور الطبيعية، ولكنْ يمكن أن يجعل بعض الأهداف على جدول مهامّه، من قبيل: فهم دوافع ومعاني السلوكيات والأفعال، وبيان العوامل والعناصر الفردية والاجتماعية للظواهر، والعمل على نقد وإصلاح الأوضاع الاجتماعية الحاكمة([46]). ولا بُدَّ من الالتفات إلى أن الغاية القصوى في العلم الديني هي تقديم نماذج معيارية في مختلف العلوم، ولا سيَّما أن الكثير من المحقِّقين يرَوْن أن الغاية في مجالاتٍ من قبيل: علم الاجتماع الإسلامي تكمن في بيان الاتجاهات المعيارية للمجتمع([47]).

وتحت المنهج الغائيّ يوجد هناك رأيٌ آخر يقول: إن العلم الدينيّ إنما يتحقَّق لكي تحظى العلوم الإنسانية والتجريبية بالاتجاه الإلهي، وأن تقع في إطار الأهداف والدوافع الدينية. وباختصارٍ: إن العلم الذي يكون في خدمة الدين والدعوة والتربية الدينية يُعتبر دينياً. ولكنّه أخصّ من الآراء المطروحة([48]).

إن أنصار هذا الاتجاه إنما يؤكِّدون على هذه الرؤية في سياق أن عنصر الغاية، على غرار الموضوع والمنهج، ليس له أيّ دَوْرٍ في ماهية العلم؛ لتكون دينيّته دخيلةً في ماهية العلم([49])، ومن هنا يمكن أن نعتبر التأكيد على هذا الرأي إنما يأتي في سياق إمكان تحقُّق العلم الديني.

وإن هذا الاتجاه يعود بدَوْره إلى عدم إمكان العلم الدينيّ، وإن هذا الاتجاه هو مجرَّد مسعى متواضع للقائلين بضرورة العلم الدينيّ، ويرى في الوقت نفسه أن العلم الدينيّ أمرٌ غير ممكن من الناحية الماهوية والأسلوبية.

وعلى الرغم من أنه لو تتبَّعنا جذور هذا الرأي في الفكر الإسلاميّ سوف ندرك أنه كان يرمي إلى خدمة الدين وتبليغه وإشاعته، وهذه الغاية تمثِّل الحدّ الأدنى من القيمة، ولكنْ مع ذلك لا بُدَّ من معرفة أن لهذا الاتجاه الغائيّ بعض الأنصار في العلم الحديث أيضاً، ولكنَّه لم يؤدِّ إلى نتيجةٍ؛ إذ إن البعض في مسار تكامل العلم الحديث قد شاهد طرد بعض الحقائق والقِيَم (وعلى حدّ تعبير غيدنز: العناصر المقموعة لعصر الحداثة)، وكانت بصدد إعادة صياغة هذه العناصر، ولكنها لم تؤدِّ إلى شيءٍ؛ إذ لا يمكن تعريف هوية العلم الحديث في خارج النموذج الحاكم عليها([50]). وعلى هذا، فإن القول بهذا الاتجاه الداني في العلم الديني لا يكون منحصراً بخطاب العلم الديني، حيث ذكر بعضٌ آخر أن تمايز العلوم يكمن في غايتها، ولكنْ لا بُدَّ من الالتفات إلى أننا عندما نتحدَّث عن العلوم الإنسانيّة الغربيّة لا يمكن لنا طرح الاتجاه البديل له في التفكير الإسلاميّ على هذه الشاكلة، بحيث عندما نعيد قراءة العلوم المنتجة في الغرب بعد ضمّ الأهداف والغايات الإلهيّة فإنه سيتمّ حمل وصف الإسلامية والدينيّة عليها؛ وذلك لأن للعلم الغربيّ خصائص وملاحظات معرفية ومنهجية خاصّة به في الخطاب الغربي، ولا يمكن أن تقع مورداً لإعادة القراءة خارج دائرة ذلك الخطاب.

3ـ الاتِّجاه الفرديّ

في هذا الاتجاه يتمّ اعتبار العلم الذي يتمّ تأسيسه على يد العلماء والمفكِّرين المتديِّنين علماً دينياً، ويرى أن إنتاج العلم الديني إنما يتحقَّق حيث يشكِّل «الدين» مناخاً فكريّاً للعلماء. في هذا الاتجاه يتبع العلم منهجه وأسلوبه التجريبي، ويحتوي على مسائله وموضوعاته وغاياته، بَيْدَ أن الفرضيات الدينية للباحث تترك تأثيرها في نشاطه العلمي على نحوٍ لا إراديّ. ويمكن مشاهدة مباني هذا الاتجاه في تاريخ العلم؛ إذ من خلال النظر في نَمَط تبلور وبسط النظريّات العلمية نلاحظ أن التكهُّنات العلمية والأرضيات الفكرية والخصائص النفسية والروحية للأفراد تلعب ـ في الكثير من الموارد ـ دَوْراً ملحوظاً في إنتاجاتهم العلميّة؛ كما يذهب بوبر إلى القول بأن منشأ النظريات يكمن في أنواع الحَدْس والتكهُّنات التي تسعى العلوم إلى إبطالها([51]). وعلى هذا الأساس، لا ينبغي تجاهل دَوْر الاتجاهات والفضاء الفكري للعلماء والمفكِّرين في بلورة وتكوين العلوم. وإن لهذا الاتجاه في إنتاج العلم تأكيداً على النواحي المذكورة في تبلور النظريات العلميّة.

وهناك مَنْ ذهب ـ بمعزلٍ عن إمكان أو عدم إمكان العلم الدينيّ ـ إلى التصريح بهذه النقطة، وهي أن علم الأنثروبولوجيا، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، وما إلى ذلك من العلوم التي يتمّ إنتاجها في المجتمع الإسلاميّ، سوف تكون مختلفةً حَتْماً عمّا هو موجودٌ في المجتمعات غير الإسلامية؛ وذلك لأن المفاهيم والاتجاهات والقوالب والتقسيمات الموجودة في الفكر الإسلاميّ [تستدعي ظرفيات خاصّة لإنتاج العلم، الأمر الذي يؤدّي إلى إنتاج نظريات وعلوم مختلفة في نهاية المطاف]([52]). إنه لا يؤكِّد على تأثير الذهنيّة الإسلامية في إنتاج العلم فحَسْب، بل حتّى المنهج والأسلوب الذي يضعه لإنتاج العلم الديني يسير بدَوْره على ذات المنوال أيضاً؛ إذ يقول: «للحصول على العلوم الإنسانية المنشودة والمطلوبة يجب العمل على تنظيم شخصيّة المتعلِّم والعالم، ولهذه الغاية يجب تعريف أذهانهم وضمائرهم على العرفان والأنثروبولوجيا المدرسية بشكلٍ جيّد، بحيث لا يعودون في تفكيرهم الإسلامي يكابدون العناء عند مواجهتهم للمسائل الإنسانية وحلِّها وفصلها، بل تجري وتتجلّى جميع شخصياتهم الإسلامية والمعنوية في نتاجاتهم. وفي مثل هذه الحالة فقط يتمّ إنتاج العلم الإسلامي الإنساني، وعندها سوف يكون كلّ ما ينضح من هذا الإناء إسلاميّاً»([53]).

4ـ الاتِّجاه المقتَنَص

في تصويرٍ آخر يطلق مصطلح تديُّن العلم على اقتناص مسائل وموضوعات العلم من دائرة المعارف الدينية. وفي الحقيقة فإن انتقال القضايا الدينية الواجدة ـ بحَسَب الأصول ـ لقابلية التحقيق بالأساليب العلمية المتداولة، يُعَدُّ منشأً لتبلور وظهور العلم الديني، وإن الخلأ الموجود في هذا الأسلوب يكمن في اتّصاف العلم بصفة «الدينيّة» في مقام الجمع والتأليف. وبعبارةٍ أخرى: إن العلم الذي يُعَدّ من العلوم التجريبية إذا كانت موضوعاتُه مقتبسةً ومأخوذةً من الدين يعتبر طِبْقاً لهذا الاتجاه علماً دينياً. إن الغاية في هذا الاتجاه تقوم على مقاربة وتقييم علمٍ خاصّ على أساس الدين، وذلك من خلال النقاط المشتركة والحدود المتداخلة، والعمل على إدخال واحدة من نسب التأييد أو التعارض في مورده. هناك الكثير من نقاط الاشتراك بين العلم والدين، وإن تأكيد هذا الاتجاه المقتَنَص يكمن في البحث عن الآراء العلمية والدينية في كلّ واحدٍ منها، ودراسة التماهي أو التنافر الموجود بينها. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن هناك الكثير من الآراء والمقترحات في مجال المسائل الروحيّة والنفسيّة في الدين، وكذلك في مجال المجتمع والمسائل الاجتماعية، وما إلى ذلك، حيث نسعى في هذا الاتجاه إلى دراسة ومناقشة هذه الموضوعات بشكلٍ مقارن([54]). والمثال الذي يمكن لنا أن نسوقه في مقام إبداء المزيد من التوضيح في مورد هذا الاتجاه هو أن بعض الاتجاهات في مورد منشأ وَحْيانية العلوم والفنون، التي تستند إلى آياتٍ من قبيل: قوله تعالى: ﴿عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ (العلق: 5)، و﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ (البقرة: 31)، في إرجاع كافّة العلوم ـ مباشرةً أو بالواسطة (من طريق الأنبياء وتعاليمهم) ـ إلى الدين والفكر الدينيّ([55])، حيث يمكن لهذه الرؤية بدَوْرها أن تندرج ضمن هذا الاتجاه.

وبالإضافة إلى الأساليب المتقدِّمة، يمكن اعتبار التفسير العلميّ للقرآن الكريم ـ الذي شاع في القرن الأخير بشكلٍ ملحوظ ـ من مصاديق هذا الاتجاه في الأبحاث القرآنية، حيث كان لهذا التيّار في التفسير العلميّ للقرآن بعض المؤيِّدين وبعض المعارضين أيضاً. ومن بين المؤيِّدين يمكن أن نذكر: ابن سينا، والطبرسي، والغزالي، والسيوطي، ومحمد عبده، وعبد الرزّاق نوفل، والشيخ الطنطاوي، ومن بين المفكِّرين الإيرانيين المتأخِّرين يمكن لنا أن نذكر المهندس مهدي بازرگان، والدكتور پاك نجاد، والسيد محمود الطالقاني. وأما المخالفون لهذا التيّار فنذكر منهم: أبا إسحاق الشاطبي، والدكتور محمد حسين الذهبي، والشيخ محمود شلتوت([56]).

وعلى أيّ حالٍ فإن خلاصة هذا الاتجاه هو أنه لو اقتبسنا بعض العناصر والقضايا المطروحة في الفكر الدينيّ (من قبيل: خلق الإنسان، وماهية الجنّ والملائكة، وما إلى ذلك)، وعملنا على بحثها وبيانها من خلال الاتجاهات العلمية الحديثة، يمكن اعتبار العلم المنتج علماً دينياً وإسلامياً، ويطلق على هذا العلم صفة الدينية.

5ـ الاتِّجاه التنظيميّ

الاتجاه الآخر الموجود في الفكر الإسلاميّ هو الاتجاه الذي يستند إلى قوله تعالى في وصف القرآن الكريم: ﴿تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ (النحل: 89)، وكذلك اشتمال القرآن على البطون المتعدِّدة؛ ليؤكِّد على أن جميع العلوم الموجودة وغير المكتشفة موجودةٌ في القرآن الكريم([57]). وهناك مَنْ عبَّر عن هذا الاتجاه بـ «الاكتفاء بمجرّد النقل»([58]).

وقد ذهب اتجاه العلماء المتقدِّمين، من أمثال: ابن أبي الفضل المرسي، وأبي حامد الغزالي، وغيرهما، إلى استخراج جميع العلوم من القرآن الكريم. ومن ذلك على سبيل المثال: استخراج علم الجَبْر من الحروف المقطَّعة؛ واستخراج علم الطبّ من قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ (الشعراء: 80).

وقد سعى الاتجاه الآخر ـ من خلال التسليم بقوانين ونظريات العلوم التجريبية ـ إلى تطبيق التجربة على آيات القرآن في ضوء منهج وأسلوب التفسير العلميّ للقرآن، وقد شاع هذا الاتجاه في القرن الأخير (وقد اعتبر العلاّمة الطباطبائي هذا التفسير العلميّ نوعاً من التطبيق أيضاً)([59]). ويمكن مشاهدة النوع الأشدّ لهذا الاتجاه في الأساليب الموجودة في الطبّ الإسلاميّ (دون الطبّ التقليدي). ويأتي تأكيد هذه الرؤية على أن جميع العلوم والمعارف موجودةٌ في القرآن الكريم والروايات الشريفة، والجهد الوحيد الذي يتعيَّن على المختصّين في الفكر الإسلامي أن يبذلوه هو العمل على استخراج وتنظيم وتبويب هذه العلوم. وفي المجموع يمكن اعتبار هذا الاتجاه نوعاً من الأخبارية الجديدة([60])؛ وذلك لوجود الشَّبَه الكبير بينهما من حيث الاتجاه. ولكننا من حيث الموضوعات والأبحاث نقف في هذا الاتجاه على تحوُّلٍ وإبداع. ويمكن اعتبار الأستاذ مهدي نصيري الشخصيّةَ البارزة في هذا الاتجاه؛ إذ يقوم اعتقاده على إمكان استخراج جميع العلوم التي يحتاجها الإنسان واستنباطها من النصوص الدينيّة([61]).

إن هذا الاتجاه يقوم على أساس المعرفة الدينيّة الموسَّعة، التي ترى أن الدين يشتمل على مختلف العلوم والمعارف التي تحتاجها البشرية. وفي هذا الأسلوب يجب العمل أوّلاً على قراءة النصوص الدينية بشكلٍ دقيق، ثمّ العمل بعد ذلك على استخراج مواد العلم المنشود واستنباطها، ثمّ تنظيمها وتأليفها، تمهيداً لبَلْورتها ضمن العلم المنشود. وعليه يكون العلم الدينيّ في هذا الاتجاه علماً مكتَشَفاً، وإن مصدر اكتشافه هي نصوص التراث الإسلامي. ومن الجدير ذِكْرُه أنه لا يتمّ الاقتصار في هذا الاتجاه على مجرَّد الاكتشاف فقط، بل يتصدّى أيضاً في الفروع والموارد الجزئية إلى الاتجاهات الاستنتاجية، من خلال الاستعانة بالأصول والمباني الجامعة للعلوم أيضاً. وإن الخصيصة الأهمّ في هذا الاتجاه تكمن في تراجعها (في مقابل التقدُّمية)؛ ببيان أنه يؤكِّد على المعطيات الموروثة والتراث الموجود، ويسعى إلى العثور على محملٍ لتفسيرها وتطبيقها([62]). وفي تكميل بيان هذا الأسلوب يجب القول بأن هذا الاتجاه، رغم تعرُّضه للكثير من الاعتراضات، وكونه بدويّاً بحَسَب الظاهر([63])، ولكنْ من الجدير ذِكْره أن كلّ نموذجٍ نأخذه بنظر الاعتبار في إنتاج العلم الدينيّ فإن هذا الاتجاه المذكور يعتبر لازماً لتحقُّق ذلك النموذج المنشود والمطلوب؛ ببيان: إننا في المراحل الأولى لتبلور العلم الديني في كلّ موضوعٍ (مثل: الاقتصاد أو السياسة الإسلامية) لا مندوحة لنا من جَمْع وتحليل الآيات والروايات، وبشكلٍ عامّ: جميع التراث الإسلاميّ الموجود في ذلك الموضوع الخاصّ، والعمل على تنظيمها، وهذا يعني تمهيديّة الاتجاه التنظيمي لتحقُّق العلم الديني في الكثير من الموضوعات المختلفة.

6ـ الاتِّجاه الموضوعيّ

يشير الاتجاه الموضوعي إلى الاتجاه القائل بأن موضوع العلم الدينيّ عبارةٌ عن عناصر من قبيل: الدين، والظواهر المنسوبة إلى الدين، والأمور التي تقع مورداً لاهتمام الدين، والأشخاص المتديِّنين، أو المجتمعات الدينيّة، دون أن تقدِّم في هذه الدراسة إطاراً مغايراً لإطار العلوم العلمانية([64]). يُضاف إلى ذلك أن بعضاً آخر قال في تأييد هذا الاتجاه: إن مهمة علم الاجتماع الإسلامي تكمن في السعي إلى الكشف عن الأحداث التي وقعَتْ في المجتمع الإسلامي، ومن هنا فإن علم الاجتماع الإسلامي يندرج ضمن المجالات الأخرى من علم الاجتماع، من قبيل: علم الاجتماع القروي، وعلم الاجتماع المدني، والأسرة، وما إلى ذلك([65]). كما أن الاتجاه المتمحور حول المسائل يشمل الدراسات التي تتناول الدين من مختلف المجالات، ومن ذلك، على سبيل المثال: علم النفس الدينيّ، وعلم الاجتماع الدينيّ، وفلسفة الدين، وما إلى ذلك([66])، حيث تعتبر جميع هذه المجالات من العلوم الدينية؛ إذ تهتمّ بالدين والعناصر الدينية.

ب ـ الاتِّجاه الوسيط

1ـ الاتِّجاه الافتراضيّ

في هذا الاتجاه، الذي يرى مساحة دخول التفكير الإسلاميّ أوسع من الأساليب السابقة، قبل أن يتمّ التأكيد على الغاية أو المسألة، يتمّ السعي إلى البحث عن الاتجاه الإسلامي في العلوم ضمن المباني والفَرَضيات المُسْبَقة([67]). وهناك مَنْ يسعى إلى إدخال الاتجاهات الميتافيزيقيّة، من قبيل: الأسلوب الذي اختاره الدكتور خسرو باقري؛ إذ يقول بأن إمكان الحديث عن العلوم الإسلامية رَهْنٌ بإمكان لحاظ بعض الأفكار الإسلامية بوصفها دعامةً ميتافيزيقيّة للتحقيق في العلوم الإسلامية([68]).

ويسعى بعضٌ آخر، من أمثال: الدكتور گلشني، من خلال التأكيد على الفرضيات ما فوق التجريبية، إلى ضمان دينيّة العلم. كما أنهم لا يرَوْن دينية العلم بالأسلوب، ولا بالغاية، بل يؤكِّدون على تجنُّب آفات العلم، والسعي إلى المزيد من إثرائه، من خلال بسط وتحكيم الرؤية الإلهيّة([69])؛ وذلك لأن العالم الراهن رازحٌ تحت وطأة القِيَم والمعايير الغربية والرؤية الكونيّة لفلسفة الغرب؛ حيث تلقي بظلالها على النظريات العلمية للعلوم والمعارف الجديدة، وإن العلم الديني إنما يتحقَّق حيث تحلّ القِيَم الدينيّة محلّ الفرضيات المُسْبَقة([70]). إن هذه الرؤية تنظر إلى معيار دينيّة العلم من زاوية الفرضيات والمباني، وتنظر إلى تأثير الدين وعناصره بمنزلة الفرضيات في العلم، لا بوصفه فرضيّةً علمية؛ إذ الفرضية هي حصيلة جُهْد وبحث العالم.

2ـ الاتِّجاه التهذيبيّ

أما الرؤية الأخرى إلى العلم فتأتي على شكل أن العلوم الموجودة يجب أن يتمّ تهذيبها وتنقيحها من الرواسب والانحرافات بالنظر إلى الفكر الإسلاميّ، ورُبَما أُضيفَتْ لها أجزاء أخرى أيضاً([71])؛ ببيان: إن العلوم الموجودة لا تتنافى في نفسها مع الإسلام والفكر الإسلامي، وعلى هذا الأساس لا توجد ضرورةٌ للسعي من أجل إنتاج الأنظمة المعرفية الجديدة، ويمكن الاستفادة من هذه المحاصيل البشرية؛ وإنما حيث يكون هناك تنافٍ بين الفكر الإسلاميّ والمباني النظرية أو الاتجاهات العلميّة لمثل هذه العلوم يمكن السعي في مثل هذه الموارد إلى تهذيب وتنقيح العلوم الموجودة.

وعلى الرغم من أن هذه الدراسة ليست بصدد نقد الاتجاهات التي يتمّ ذكرها، إلاَّ أن النقد الأهمّ الذي يمكن إيراده على هذا الاتجاه هو أنه لا يلاحظ التماهي والتناغم بين النظريات العلمية في الفرضية وأساليبها ومعطياتها([72])؛ وذلك لأن معطيات كلّ علمٍ وإنْ كانت قد لا تتطابق مع الفكر الإسلامي، ولكنْ لا بُدَّ من أخذ هذه النقطة بنظر الاعتبار، وهي أن هذه النتائج إنما تنبثق عن المنظومة الفكرية المنسجمة والمنطقية التي تحقَّقَتْ بأسلوبٍ خاصّ، ولا يمكن دراستها ومناقشتها، بل ولا حتّى إعادة النظر فيها وإصلاحها، بمعزلٍ عن العناصر الأخرى.

إن الملاحظة الأهمّ التي يجب أن نأخذها في هذا الاتجاه بنظر الاعتبار هي أن النظريّة عندما تولد ضمن شرائطها التاريخية تُعَدّ نظريّةً محلِّية، ولكنْ عندما تنفصل عن مسقط رأسها فإن الدائرة المتقبِّلة للنظرية إذا لم تكن ناشطةً، ولم تكن تحتوي على القدرة على التهذيب والتصرُّف اللازم، ولم تَسْعَ إلى رفع مواطن الخلأ الموجودة في تلك النظرية؛ من أجل ربطها ببيئتها الجديدة، فإنها سوف تضع الدائرة المتقبِّلة أمام تحدِّياتٍ معرفيّة، وفي هذه المرحلة نشهد تبلور النظريات غير المحلِّية. ومن خلال التأمُّل في سابقة تعامل العالم الإسلاميّ وتعاطيه مع الثقافات الأخرى كان يتمّ التأكيد على الملاحظات المذكورة، كما تمّ التعاطي مع الثقافة الإسلاميّة بوصفها ثقافةً فاعلة (وليست منفعلةً) في مواجهة الثقافات الأخرى، وكان لها ـ من خلال التأكيد على المبادئ الأنطولوجية والوجودية (التي كانت متمثِّلةً في التوحيد)، وكذلك المباني الأنثروبولوجية الإسلامية (التي تمثَّلَتْ بخلافة الإنسان)، مع الأرضيات الإبستمولوجية والمعرفية (المتمثِّلة في الاهتمام بالعقل وتبجيله) ـ مواجهةٌ فاعلةٌ مع الثقافية اليونانية([73]). وعلى هذا الأساس يجب إما إنكار الاتجاه التهذيبي من الأساس، والإعلان عن رفض مثل هذا الشيء من الناحية الإبستمولوجية والمعرفية. وإنْ لم يتمّ اعتباره ملاكاً يجب الالتفات إلى هذه التحدِّيات والملاحظات، وأن يكون لدينا مواجهةٌ فعّالةٌ مع الخطابات البديلة التي نسعى إلى مواجهتها.

ويجب اعتبار المفكِّر البارز نقيب العطاس هو الشخصية البارزة في هذا الاتجاه؛ إذ يعتبرونه أبا الاتجاه التهذيـبي. وإن رؤيته في هذا الشأن تقوم على مرحلتين:

المرحلة الأولى: هي مرحلة أسلمة العلوم الشائعة، حيث يتمّ العمل في هذه المرحلة على إعادة النظر بشكلٍ كامل وعميق في العلوم الموجودة، وعلى أساسها يتمّ تشذيب وتنقيح القضايا والفرضيات المرفوضة وغير المقبولة في الاتجاهات الغربية، ومن ثمّ إضافة القضايا المناسبة والمنبثقة من النصوص الدينية إليها.

وأما المرحلة الثانية فهي مرحلة إنتاج العلوم الجديدة، والتي هي ذات العلوم الدينية المنشودة والمطلوبة على أساس المباني الإسلامية([74]).

ورُبَما أمكن اعتبار النقد الأهمّ على هذا الاتجاه أن الحداثة والعلم الغربيّ يجب ملاحظته بوصفه مجموعةً متكاملةً، لها ملزوماتها ولوازمها (السوابق والآثار) الخاصّة، ولا يمكن أخذ قضايا العلوم الغربية دون لحاظ نسيجها، أو حتّى تنقيتها وتنقيحها، ولكنْ لا بُدَّ من الانتباه إلى أن هذه النقطة إنما تكون مقبولةً إذا اعتبرنا وحدة الغرب وحدةً حقيقيّة؛ في حين إذا اعتبرنا هذه الوحدة وحدةً اعتباريّة تكون مساحة الانتقاء والتنقيح واسعةً. كما أن المسلمين يختزنون في هذا المجال تجربةً ناجحة للغاية من التعاطي والتعامل مع الفكر اليونانيّ؛ حيث استطاعوا ـ من خلال انتقاء وتنمية الأفكار اليونانية ـ إثراء تراثهم الإسلاميّ بشكلٍ ملحوظ([75]).

وفي الختام، لا بُدَّ من التذكير بأن هذا الاتجاه يصلح ليكون مقدِّمةً للنموذج المطلوب في إنتاج العلم الديني، والوصول من خلاله إلى الاتجاهات القصوى في إنتاج العلم الديني؛ إذ إن البحث والتنقيب في مجال العلوم الإنسانية إنما هو سعيٌ في إطار إنتاج وتبويب نموذج متعدِّد الأبعاد، يشمل جميع العلوم الإنسانية، والعمل على أساس رؤيته الكَوْنية الخاصّة، والقائمة على المباني الأنطولوجية والإبستمولوجية والقِيَميّة المنبثقة عن المعارف الإسلامية. وبطبيعة الحال يمكن لمثل هذا النموذج أن تكون له مواجهةٌ خاصّة مع مجمل العلوم الإنسانيّة، وأن يحتوي بالتالي في داخله على نظريّاتٍ مختلفة في العلوم الإنسانية، أو يجعل من إنتاج النظريّات الجديدة أمراً ضروريّاً([76]). كما نشاهد هذا الاتجاه عند المفكِّرين الإسلاميّين البارزين في العلوم الإنسانية من أمثال: الكِنْدي؛ والفارابي؛ إذ نجد أن الكِنْدي في تعاطيه مع الأفكار الفلسفية اليونانية قد عمد ـ بالإضافة إلى الترجمة ـ إلى التعاطي الانتقائيّ بشأن آراء الفلاسفة الإغريق، وقام بتأميم المصطلحات الفلسفية اليونانية؛ حيث استخدم مصطلح المادّة بَدَلاً من الهيولى، والحكمة بَدَلاً من الفلسفة. والفارابي بدَوْره ـ في اتجاهٍ مُشابِهٍ ـ لم يقتصر على الاستفادة من التأميمية والانتقائية الكِنْدية فحَسْب، بل قام من خلال الاستفادة من التراث الإسلاميّ ـ ولا سيَّما منه التراث الشيعي ـ بالعمل على تدوين نظامٍ فلسفيّ باتجاهٍ إسلاميّ وشيعيّ. ومن ذلك أنه ـ على سبيل المثال ـ قد استفاد من نظرية الإمامة عند الشيعة في الفكر السياسيّ، وعمد إلى بيانها في إطار النظريات الفلسفية. كما أخذ مفهوم العقل الفعال وأسقطه على جبرائيل×([77]). ومنذ البداية واجه الكِنْديّ معارضةً شديدة من قِبَل المتكلِّمين؛ حيث قالوا بأن الفلسفة اليونانية لا تتناسب مع الإسلام أصلاً، بَيْدَ أن الكِنْدي وغيره من الفلاسفة واصلوا عمليّتهم الانتقائية، والاصطلاحيّة، والتأميميّة، وإنتاج النظريات والآراء الجديدة في منظومة الفكر الإسلاميّ، ومن خلال تعميق نظرياتهم والبرهنة عليها أثمر هذا الاتجاه التهذيبي التأسيسي من قِبَلهم. وإن النظام الفلسفي الحاضر، الذي يُعْرَف حالياً باسم الفلسفة الإسلامية، إنما هو حصيلة الجهود والحوارات المنبثقة عن هذا الاتجاه. وقد دفع بهم هذا النجاح إلى توسيع رقعة أبحاثهم، فأخذوا يواصلون هذا الاتجاه في الطبيعيات والطبّ والرياضيات والنجوم وغيرها من العلوم الأخرى. بَيْدَ أن انتقادات الغزالي وتشكيكات الفخر الرازي حال دون هذا التوسُّع، وأصبح مقتصراً على مباحث الإلهيّات (وحتى صدر المتألِّهين إنما ذكر بحث الحركة والزمان ـ الذي هو بحثٌ طبيعي ـ في الإلهيّات فقط، وأدّى إلى آرائه الميتافيزيقية البديعة عن الحركة والزمان)([78]).

ـ يتبع ـ

الهوامش

(*) أستاذٌ في الحوزة والجامعة، وعضو الهيئة العلميّة في قسم الفقه في جامعة الإمام الصادق× في طهران ـ إيران.

(**) طالبٌ على مستوى الدكتوراه في قسم الفقه ومبادئ الشريعة الإسلاميّة في جامعة طهران ـ إيران.

([1]) انظر: مجيد مرادي، إسلامي سازي معرفت (أسلمة المعرفة): 106، پژوهشگاه حوزه ودانشگاه، قم، 1385هـ.ش. (مصدر فارسي).

([2]) انظر: محمد رضا حافظ نيا، مقدّمه إي بر روش تحقيق در علوم إنساني (مقدّمة على أسلوب التحقيق في العلوم الإنسانية): 77، سازمان مطالعه وتدوين كتب علوم إنساني دانشگاهها (سمت)، طهران، 1381هـ.ش. (مصدر فارسي).

([3]) Double hermeneutic.

([4]) Internal validity.

([5]) انظر: حسن دانائي فرد، نظريه پردازي: مباني وروش شناسيها (التنظير: المباني ومعرفة الأساليب): 33 ـ 34، سازمان مطالعه وتدوين كتب علوم إنساني دانشگاهها (سمت)، مركز تحقيق وتوسعه علوم إنساني، طهران، 1389هـ.ش. (مصدر فارسي).

([6]) انظر: عبد الله عبد اللهي وجعفر جوان، درآمدي بر فلسفه علم وپژوهش در علوم إنساني: روش وروش شناسي (مدخلٌ إلى فلسفة العلم والتحقيق في العلوم الإنسانية) (المجلد 2) 1: 7، نشر چاپار، طهران، 1389هـ.ش. (مصدر فارسي).

([7]) conseptualization.

([8]) انظر: حسن دانائي فرد، نظريه پردازي: مباني وروش شناسيها (التنظير: المباني ومعرفة الأساليب): 41.

([9]) انظر: مجيد مرادي، إسلامي سازي معرفت (أسلمة المعرفة): 107.

([10]) هناك تعاريف متعدِّدة للنموذج، وهي في بعض الموارد مبهمة، ومن بينها نجد التعريفين الآتيين هما الأقرب إلى الواقع، كما أنهما يساعدان على إيضاح المسألة:

التعريف الأوّل: وهو من «ويلس هارمن»؛ إذ يقول في تعريف النموذج والمثال: «هو أسلوب رئيس في عملية الفهم والإدراك والتفكير وإضفاء القيمة، وممارسة النشاطات في إطار نوع من الرؤية الخاصة إلى الواقع».

وفي التعريف الثاني يذهب «جول باركر» إلى القول بأن النماذج عبارة عن «مجموعة من القواعد والمقررات المدوَّنة أو غير المدوَّنة، والتي تعمل قبل كلّ شيءٍ على بيان الحدود أو تعريفها، لتقول لنا في الخطوة الثانية كيف نتصرَّف ضمن تلك الحدود؛ لكي نحقِّق النجاح». انظر: حسن دانائي فرد، نظريه پردازي: مباني وروش شناسيها (التنظير: المباني ومعرفة الأساليب): 72.

([11]) انظر: محمد تقي إيمان، فلسفه روش تحقيق در علوم إنساني (فلسفة منهج التحقيق في العلوم الإنسانية): 289، پژوهشگاه حوزه ودانشگاه، قم، 1393هـ.ش. (مصدر فارسي).

([12]) Positivism.

([13]) انظر: حسين بستان ومحمد فتح علي خاني وأبو الفضل گائيني، گامي‌ به‌ سوي‌ علم‌ ديني (1): ساختار علم تجربي وإمكان علم ديني: 27 و86، پژوهشگاه حوزه ودانشگاه، قم، 1384هـ.ش. (مصدر فارسي).

([14]) انظر: ألان فرانسس تشالمرز، چيستي‌ علم‌ : درآمدی‌ بر مکاتب‌ علم‌ شناسي‌ فلسفي (ماهية العلم: مدخلٌ إلى مدارس العلم الفلسفي): 9، ترجمه إلى اللغة الفارسية: سعيد زيبا كلام، شرکت‌ انتشارات‌ علمي‌ وفرهنگي، طهران، 1374هـ.ش.

([15]) انظر: فرامرز رفيع پور، کتاب کندوکاوها وپنداشته ها (كتاب الأبحاث والتصوُّرات): 37 ـ 38، شركت سهامي انتشار، إيران، 1360هـ.ش. (مصدر فارسي).

([16]) انظر: ألان فرانسس تشالمرز، چيستي‌ علم‌ : درآمدي‌ بر مکاتب‌ علم ‌شناسي‌ فلسفي (ماهية العلم: مدخلٌ إلى مدارس العلم الفلسفي): 13.

([17]) انظر: أبو الفضل گائيني وأمير حسين زاده، پارادايم هاي سه گانه إثبات گرايي، تفسيري وهرمنوتيك در مطالعات مديريت وسازمان (النماذج الثلاثة الوضعية والتأويلية والتفسيرية في دراسات الإدارة والتنظيم): 13، راهبرد فرهنگ: 106، 1391هـ.ش. (مصدر فارسي).

([18]) انظر: محمد رضا خاكي قراملكي، تحليل هويت علم ديني وعلم مدرن (تحليل هوية العلم الديني والعلم الحديث): 95، كتاب فردا، قم، 1390هـ.ش. (مصدر فارسي).

([19]) Falsificationism.

([20]) انظر: محمد رضا خاكي قراملكي، تحليل هويت علم ديني وعلم مدرن (تحليل هوية العلم الديني والعلم الحديث): 101 ـ 102.

([21]) انظر: ألان فرانسس تشالمرز، چيستي‌ علم‌ : درآمدي‌ بر مکاتب‌ علم‌ شناسي‌ فلسفي (ماهية العلم: مدخل إلى مدارس العلم الفلسفي): 53.

([22]) أمثلةٌ للقضايا القابلة للدَّحْض والقضايا غير القابلة للدَّحْض:

القضية الأولى: إن السماء لا تمطر في أيام الأربعاء أبداً. إن هذه القضية قابلةٌ للدَّحْض؛ إذ قد يهطل المطر في يومٍ من أيام الأربعاء.

القضية الثانية: الطقس إما ماطرٌ أو غير ماطر. إن هذه القضية غير قابلةٍ للدَّحْض؛ وذلك لأن حالة الطقس لا تخلو من إحدى هاتين الحالتين.

التحليل: إن الذي نتوقَّعه من القانون العلميّ هو أن يقدِّم للبشرية روايةً بشأن كيفية أداء العالم في الواقع (انظر: ألان فرانسس تشالمرز، چيستي‌ علم‌: درآمدي‌ بر مکاتب‌ علم ‌شناسي‌ فلسفي (ماهية العلم: مدخلٌ إلى مدارس العلم الفلسفي): 43). وبالنظر إلى أن القضية الأولى تقدِّم لنا روايةً عن العالم (وإنْ كانت قابلةً للدَّحْض، أو لا تحتوي من الناحية المصداقية إلاّ على الشيء القليل من القيمة المعرفية، ولكنها تبقى على أيّ حالٍ روايةً وإخباراً عن العالم) يمكن أن تكون مصداقاً للنظرية العلمية؛ في حين أن القضية الثانية لا تقدِّم لنا أيّ روايةٍ بشأن العالم، ولا تنطوي على أيّ قيمةٍ معرفية. ومن هنا تكون القضية الأولى ـ من وجهة نظر كارل بوبر ـ مصداقاً للنظرية العلميّة؛ لأنها قابلةٌ للدَّحْض، وأما القضية الثانية فلا تتناسب مع النظرية العلميّة؛ لكونها غير قابلةٍ للدَّحْض.

انظر: محمد رضا خاكي قراملكي، تحليل هويت علم ديني وعلم مدرن (تحليل هوية العلم الديني والعلم الحديث): 104.

([23]) انظر: مرتضى فتحي زاده، ناهمخواني إبطال گرايي با واقع گرايي (عدم التناغم بين الفلسفة الدحظية والفلسفة الواقعية): 17، پژوهش هاي فلسفي ـ کلامي، 1391هـ.ش. (مصدر فارسي).

([24]) انظر: محمد مهدي حاتمي ومهدي دهباشي، ترميم دوپارگي فلسفه‌ي فيزيك با تکيه بر إبطال‌ گرايي پوپر (ترميم الشرخ في فلسفة الفيزياء في ضوء الفلسفة الدَّحْضية لكارل بوبر): 22، حکمت وفلسفه، 1393هـ.ش. (مصدر فارسي).

([25]) انظر: مسعود ألوند، قرائتي ديگر أز إبطال گرايي: روش‌شناسي علوم إنساني (قراءة أخرى لفلسفة قابلية الدَّحْض): 82، 1382هـ.ش. (مصدر فارسي).

([26]) Interpretivism.

([27]) Geisteswissenschaften.

([28]) انظر: مهدي علي پور وحميد رضا حسني وسعيد رضا علي عسكري، بارادايم اجتهادي دانش ديني (النماذج الاجتهادية للعلوم الدينية): 41 ـ 42، پژوهشگاه حوزه ودانشگاه، قم، 1394هـ.ش. (مصدر فارسي).

([29]) explanation.

([30]) understanding.

([31]) انظر: مهدي علي پور وآخرون، بارادايم اجتهادي دانش ديني (النماذج الاجتهادية للعلوم الدينية): 42 ـ 43.

([32]) انظر: حسن خيري، مقايسه پارادايم ديني (إسلامي) با پارادايم هاي إثباتي، تفسيري وانتقادي (مقارنة النموذج الديني (الإسلامي) بالنماذج الإثباتية، التفسيرية والنقدية): 16، 1389هـ.ش. (مصدر فارسي).

([33]) انظر: محمد تقي إيمان، فلسفه روش تحقيق در علوم إنساني (فلسفة منهج التحقيق في العلوم الإنسانية): 72.

([34]) انظر: مهدي علي پور وآخرون، بارادايم اجتهادي دانش ديني (النماذج الاجتهادية للعلوم الدينية): 116 ـ 117.

([35]) انظر: حسن خيري، مقايسه پارادايم ديني (إسلامي) با پارادايم هاي إثباتي، تفسيري وانتقادي (مقارنة النموذج الديني (الإسلامي) بالنماذج الإثباتية، التفسيرية والنقدية): 21.

وفي الختام لا بُدَّ من التذكير بأنه في اللاهوت المسيحيّ؛ بالالتفات إلى خوضه تجربةً مماثلة لـ «الأسلمة» من خلال مرحلة «حركة الإصلاح الديني» (Reformation)، يمكن لرصد الاتجاهات والأساليب ـ التي يتمّ التأكيد عليها في هذه الحركة ـ أن يكون ملهماً لاتجاهات إنتاج العلم الديني في الفكر الإسلامي. بالإضافة إلى أن حركة الإصلاح الدينية بدَوْرها ـ وبسبب الانتماءات والاتجاهات ـ تنقسم إلى عدّة مجموعاتٍ، من قبيل: الإصلاح الديني اللوثري، وحركة الإصلاح الديني الكالونية، وحركة الإصلاح الديني المتطرِّفة، وحركة الإصلاح الديني الكاثوليكي. (انظر: بيتر برن وجيمز ليسلي هولدن، مجموعه مقالات: دفتر نخست: إلاهيات جديد مسيحي (سلسلة مقالات / الكتاب الأوّل: اللاهوت المسيحي الجديد): 380، مرکز مطالعات وتحقيقات أديان ومذاهب ودانشگاه أديان ومذاهب، قم، 1388هـ.ش).

([36]) Frankfurt School.

([37]) انظر: مجيد مرادي، إسلامي سازي معرفت (أسلمة المعرفة): 9 ـ 10.

([38]) مقتبسة من: المصدر السابق: 170 ـ 175.

([39]) انظر: محمد رضا خاكي قراملكي، تحليل هويت علم ديني وعلم مدرن (تحليل هوية العلم الديني والعلم الحديث): 229.

([40]) انظر: رمضان علي تبار فيروزجائي، علم ديني: ماهيت وروش شناسي (العلم الديني: الماهية والمنهج): 50 ـ 51، سازمان انتشارات پژوهشگاه فرهنگ وأنديشه إسلامي، طهران، 1396هـ.ش. (مصدر فارسي).

([41]) انظر: عبد الحسين خسروپناه ومهدي عاشوري وحميد پارسانيا، توليد وتكوين علوم إنساني إسلامي: تحرير درس گفتارهاي دوره فلسفه علوم إنساني (إنتاج وبلورة العلوم الإنسانية الإسلامية: تحرير دروس مقالات دورة فلسفة العلوم الإنسانية): 47 ـ 48، مؤسسه پژوهشي حكمت وفلسفه إيران، دفتر مطالعات دانش آموختگان حكمت وفلسفه، طهران، 1392هـ.ش. (مصدر فارسي).

([42]) السيد حسين العطّاس (1228 ـ 2007م): سياسيّ وعالم اجتماع ماليزي. شغل منصب نائب رئيس جامعة مالايا، وشكَّل حزب حركة الشعب الماليزي. له عددٌ من الكتب في الفساد والتعدُّدية العرقية والإمبريالية، وأشهرها: كتاب «أسطورة السكّان الأصليين». (المعرِّب).

([43]) انظر: حسين بستان ومحمد فتح علي خاني وأبو الفضل گائيني، گامي‌ به‌ سوي‌ علم‌ ديني: ساختار علم تجربي وإمكان علم ديني: 123، 1384هـ.ش. (مصدر فارسي).

([44]) انظر: مسعود گلچين، مفهوم جامعه شناسي إسلامي: إمكان وعدم إمكان ودلالت هاي هاي آن (مفهوم علم الاجتماع الإسلامي: إمكانه وعدم إمكانه ودلالاته): 27، إعداد: مجيد كافي.

([45]) انظر: مهدي گلشني، أز علم سكولار تا علم ديني (من العلم العلماني إلى العلم الديني): 86، پژوهشگاه علوم إنساني ومطالعات فرهنگي، طهران، 1377هـ.ش. (مصدر فارسي).

([46]) انظر: حسين بستان ومحمد فتح علي خاني وأبو الفضل گائيني، گامی‌ به‌ سوي‌ علم‌ ديني: ساختار علم تجربي وإمكان علم ديني: 142.

([47]) The first goal to attain must be to create an environment where Islamic values exist and where it is possible to carry out the Islamization in practice.

See: Stenberg, 1996, p. 214.

([48]) انظر: محسن عبّاس نجاد، قرآن وعلوم روز: قرآن، روانشناسي وعلوم تربيتي (القرآن والعلوم الحديثة: القرآن وعلم النفس والعلوم التربوية): 227، همايش ملي پژوهشهاي قرآني حوزه ودانشگاه، بنياد پژوهشهاي قرآني حوزه ودانشگاه، ‏‫دانشگاه الزهراء، ودانشگاه آزاد إسلامي، مشهد، ‏بنياد پژوهشهاي قرآني حوزه ودانشگاه، 1389هـ.ش. (مصدر فارسي).

([49]) انظر: رمضان علي تبار فيروزجائي، علم ديني: ماهيت وروش شناسي (العلم الديني: الماهية والمنهج): 56.

([50]) انظر: محمد رضا خاكي قراملكي، تحليل هويت علم ديني وعلم مدرن (تحليل هوية العلم الديني والعلم الحديث): 106.

([51]) انظر: محسن عباس نجاد، قرآن وعلوم روز: قرآن، روانشناسي وعلوم تربيتي (القرآن والعلوم الحديثة: القرآن وعلم النفس والعلوم التربوية): 221.

([52]) انظر: عبد الكريم سروش، تفرّج صنع: گفتارهائي‌ در أخلاق‌ وصنعت‌ وعلم‌ إنساني (مشهد الخلق: مقالات في الأخلاق والصنع والعلم الإنساني)‌: 56، منشورات الصراط، طهران، 1380هـ.ش.

([53]) انظر: المصدر السابق: 201 ـ 202.

([54]) انظر: محسن عباس نجاد، قرآن وعلوم روز: قرآن، روانشناسي وعلوم تربيتي (القرآن والعلوم الحديثة: القرآن وعلم النفس والعلوم التربوية): 239.

([55]) انظر: مهدي نصيري، إسلام وتجدُّد (الإسلام والتجديد): 47، نشر كتاب صبح، طهران، 1387هـ.ش. (مصدر فارسي).

([56]) انظر: محمد علي رضائي أصفهاني، در آمدي بر تفسير علمي قرآن کريم (مدخلٌ إلى التفسير العلمي للقرآن الكريم) 1: 350 ـ 354، دار الأسوة، طهران، 1375هـ.ش. (مصدر فارسي).

([57]) انظر: محمد علي رضائي أصفهاني، إشارات‌ علمي‌ إعجاز آميز قرآن:‌ کيهان‌ شناخت‌؛ زيست‌ شناخت‌؛ پزشکي (الإشارات العلمية لإعجاز القرآن الكريم: الكَوْن والبيئة والطبّ‌): 38 ـ 40، نهاد نمايندگي‌ مقام‌ معظم‌ رهبري‌ در دانشگاهها، دفتر نشر معارف‌؛ طهران‌؛ نهاد نمايندگي‌ مقام‌ معظم‌ رهبري‌ در دانشگاهها، پژوهشکده‌ فرهنگ‌ ومعارف، 1383هـ.ش. (مصدر فارسي).

([58]) انظر: رمضان علي تبار فيروزجائي، علم ديني: ماهيت وروش شناسي (العلم الديني: الماهية والمنهج): 49.

([59]) انظر: محمد علي رضائي أصفهاني، إشارات‌ علمي‌ اعجاز آميز قرآن:‌ کيهان‌ شناخت‌؛ زيست‌ شناخت‌؛ پزشکي (الإشارات العلمية لإعجاز القرآن الكريم: الكون والبيئة والطب‌ّ): 52 ـ 55.

([60]) انظر: رمضان علي تبار فيروزجائي، علم ديني: ماهيت وروش شناسي (العلم الديني: الماهية والمنهج): 71.

([61]) انظر: مهدي نصيري، إسلام وتجدُّد (الإسلام والتجديد).

([62]) انظر: خسرو باقري نوع پرست، علم تجربي ديني: نگاهي معرفت ‌شناختي به رابطه دين با علوم إنساني (العلم التجريبي الديني: رؤية معرفية إلى العلاقة بين الدين والعلوم الإنسانيّة): 41 ـ 42، نقد ومناظره ويژه علوم إنساني ومعارف إسلامي وهيأت حمايت أز کرسي هاي نظريه پردازي، سازمان انتشارات، طهران، 1390هـ.ش. (مصدر فارسي).

([63]) انظر: عبد الكريم سروش، تفرُّج صنع: گفتارهائي‌ در أخلاق‌ وصنعت‌ وعلم‌ إنساني (مشهد الخلق: مقالات في الأخلاق والصنع والعلم الإنساني)‌: 201 ـ 202.

([64]) انظر: حسين بستان ومحمد فتح علي خاني وأبو الفضل گائيني، گامی‌ به‌ سوی‌ علم‌ ديني: ساختار علم تجربي وإمكان علم ديني: 124.

([65]) انظر: محمد محمد إمزيان، روش تحقيق علوم اجتماعي أز إثبات گرائي تا هنجار گرائي (منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية): 220، ترجمه إلى اللغة الفارسية: عبد القادر سواري، پژوهشكده حوزه ودانشگاه، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، قم، 1380هـ.ش.

([66]) انظر: محسن عباس نجاد، قرآن وعلوم روز: قرآن، روانشناسي وعلوم تربيتي (القرآن والعلوم الحديثة: القرآن وعلم النفس والعلوم التربوية): 235.

([67]) انظر: حسين بستان ومحمد فتح علي خاني وأبو الفضل گائيني، گامي‌ به‌ سوي علم‌ ديني: ساختار علم تجربي وإمكان علم ديني: 125.

([68]) انظر: خسرو باقري، هويت علم ديني: نگاهی معرفت ‌شناختي به نسبت دين با علوم انساني (العلم التجريبي الديني: رؤية معرفية إلى العلاقة بين الدين والعلوم الإنسانية): 250، طباعة ونشر وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، طهران، 1382هـ.ش. (مصدر فارسي).

([69]) انظر: مهدي گلشني، أز علم سكولار تا علم ديني (من العلم العلماني إلى العلم الديني): 2 ـ 3، 1377هـ.ش. (مصدر فارسي).

([70]) انظر: محسن عباس نجاد، قرآن وعلوم روز: قرآن، روانشناسي وعلوم تربيتي (القرآن والعلوم الحديثة: القرآن وعلم النفس والعلوم التربوية): 251.

([71]) انظر: خسرو باقري نوع پرست، علم تجربي ديني: نگاهي معرفت ‌شناختي به رابطه دين با علوم إنساني (العلم التجريبي الديني: رؤية معرفية إلى العلاقة بين الدين والعلوم الإنسانية): 43.

([72]) انظر: المصدر السابق: 43.

([73]) انظر: عبد الحسين خسروپناه ومهدي عاشوري وحميد پارسانيا، توليد وتكوين علوم إنساني إسلامي: تحرير درس گفتارهاي دوره فلسفه علوم إنساني (إنتاج وبلورة العلوم الإنسانية الإسلامية: تحرير دروس مقالات دورة فلسفة العلوم الإنسانية): 142، طهران، 1392هـ.ش. (مصدر فارسي).

([74]) انظر: سيد حميد رضا حسني، روش شناسي تحقق علوم إسلامي أز ديدگاه سيد محمد نقيب عطاس (علم منهج تحقيق العلوم الإسلامية في رؤية السيد محمد نقيب العطاس): 69، نشر راهبرد فرهنگ، 1393هـ.ش.

([75]) انظر: عبد الكريم سروش، تفرّج صنع: گفتارهائي‌ در أخلاق‌ وصنعت‌ وعلم‌ إنساني (مشهد الخلق: مقالات في الأخلاق والصنع والعلم الإنساني)‌: 238.

([76]) انظر: فاضل حسامي، تبيين وتحليل علم ديني أز ديدگاه شهيد صدر (بيان وتحليل العلم الديني من وجهة نظر الشهيد الصدر): 7، نشر جاويدان خرد، 1390هـ.ش. (مصدر فارسي).

([77]) وللمزيد من التوضيح نقول: إن الشخص الذي يستطيع اجتياز المراحل ـ طبقاً لهذه النظرية ـ وصولاً إلى العقل الفعّال هو الإنسان الكامل، الذي لا يمكن إلاّ أن يكون نبيّاً، وبعد النبيّ يجب أن يكون هناك مَنْ يخلفه ويحلّ محلّه، وهو الإمام. (انظر: عبد الحسين خسروپناه ومهدي عاشوري وحميد پارسانيا، توليد وتكوين علوم إنساني إسلامي: تحرير درس گفتارهاي دوره فلسفه علوم إنساني (إنتاج وبلورة العلوم الإنسانية الإسلامية: تحرير دروس مقالات دورة فلسفة العلوم الإنسانية): 14.

([78]) انظر: عبد الحسين خسروپناه ومهدي عاشوري وحميد پارسانيا، توليد وتكوين علوم إنساني إسلامي: تحرير درس گفتارهاي دوره فلسفه علوم إنساني (إنتاج وبلورة العلوم الإنسانية الإسلامية: تحرير دروس مقالات دورة فلسفة العلوم الإنسانية): 14 ـ 15.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً