أحدث المقالات

حوارٌ مع: د. موسى غني نجاد(*)

د. حسين بشيريه(**)

ترجمة: سرمد علي

تعريف العدالة

_ هل هناك تعريف لـ «العدالة»، بحيث يمكن إطلاقه على العدالة الأخلاقية، والعدالة السياسية، والعدالة القضائية والجزائية، والعدالة الاقتصادية، والعدالة في العلاقات الدولية، والعدالة في الروابط الأُسرية، والعدالة في الإلهيّات والكلام؟ وبكلمةٍ واحدة: ما هو فهمكم للعدالة؟

غني نجاد: إن العدالة من تلك المفاهيم التي يستلزم إدراكها العودة إلى المفهوم المخالف، بمعنى أن فهم العدل يغدو أيسر من خلال الالتفات إلى مفهوم الظلم. فكما أن الصحة بمعنى السلامة من المرض، أو بكلمةٍ أدقّ: كما أن الصحة حالة معتدلة ومفترضة، نسمّي أيّ اختلال فيها مرضاً، فهكذا هو الشأن بالنسبة إلى العدالة أيضاً. ويبدو أن الفلاسفة الإغريق كانوا هم أوّل مَنْ سعى إلى تعريف مفهوم العدالة بشكلٍ عقلاني، فهم يرَوْن أن العدالة ـ في المرتبة والتناسب ـ تعني وضع الكائنات في منزلتها «الطبيعية»، وكان هذا يشكِّل من وجهة نظر الإغريق أساساً لمفهوم العدالة، ومن هنا كانوا يستعملون أغلب الصفات العادلة والطبيعية بما يرادف بعضها، وكانوا يتحدثون عن الحقّ الطبيعي الذي هو حقّ ناشئ من المرتبة «الطبيعية» للكائنات. وفي الوقت نفسه كان الإغريق يرَوْن أن الحالة الطبيعية هي الحالة المنشودة والمثالية أيضاً، ومن هنا كان مفهوم العدالة عندهم وثيق الصلة بمفهوم الحالة المثالية والحالة الطبيعية. وعلى أيّ حالٍ فقد تمثَّل المنجز الكبير لفلاسفة اليونان بتقديم اتجاه استدلالي وعقلاني في خصوص العدالة، فقد قاموا بإخراج العدالة عن النطاق الضيّق للتعاليم والمواعظ الأخلاقية البَحْتة، ووضعوها في معرض الأبحاث الجَدَلية والفكرية والنقدية. وعلى الرغم من أن لمفهوم التناسب ـ بمختلف معانيه المتنوّعة ـ دَوْراً محورياً في مباحث الإغريق، إلاّ أن حصيلة هذه الأبحاث لم تخرُجْ بتعريفٍ موحَّد ومجرّد من التناقض. يبدو أن أحد المصادر الهامّة لاختلاف آراء الفلاسفة الإغريق يعود إلى تصوّرهم وتعريفهم لإمكانية وخصائص المجتمع المثالي؛ إذ إن تموضع كلّ ما هو موجود في مكانه «الطبيعي» يشكّل ـ كما تقدَّم ـ أساساً للتفكير الإغريقي بشأن العدالة. وهذا في الواقع تعريف كلّي وصوري جدّاً للوضع المثالي أيضاً. إن حمل اختلاف الآراء في الواقع يمثِّل مصداقاً مضمونياً وخصائص انضمامية لهذا الوضع (المجتمع) المثالي. وقد تسلَّل هذا الاختلاف في أوجه النظر إلى الأبحاث الحديثة حول العدالة بشكلٍ وآخر أيضاً، حيث نشاهد له حضوراً في الجدال الفكري لمختلف المذاهب الفكرية المعاصرة. وإن البحث المتعلِّق بالعدالة في التوزيع ـ أو ما يُصطلح عليه حالياً بالعدالة الاجتماعية أو الاقتصادية ـ يمثِّل مربط الفرس في اختلاف الآراء.

لو أمكن الحديث في التفكير الإغريقي التقليدي ـ بسبب الاتجاه المعرفي الخاصّ لديهم بشأن العالم ـ عن العدالة في الطبيعة بشكلٍ مستقلّ عن الإنسان فإن هذا النوع من الاتجاه في التفكير الذاتاني الحديث لن يخلو من التناقض؛ وذلك لأن جميع المفاهيم، ولا سيَّما المفاهيم الأخلاقية منها ـ في هذا الأسلوب من التفكير ـ ذات صبغة إنسانية، ولا يكون لها خارج دائرة النشاط الإنساني أيّ محلٍّ من الإعراب. وعلى هذا الأساس فإن الحديث عن الطبيعة بمعزل عن الإنسان، وبطريقٍ أَوْلى تصوّر الوضعية المثالية المستقلة عن النشاط الإنساني، يُعَدّ من الزاوية الأبستيمولوجية الحديثة لَغْواً وأمراً عبثياً. ومن هنا نرى في النظرية الحقوقية الحديثة لـ (جون لوك)([1]) أن الحقّ الطبيعي والقانون الطبيعي يعني الحقّ والقانون الطبيعي الإنساني؛ إذ لا يمكن تصوّره بشكلٍ مستقلّ عن وجود الإنسان ونشاطه. وفي التفكير الحديث تمّ التعرّف على عدد من الحقوق الأساسية الطبيعية للإنسان (حقوق الإنسان)، من قبيل: حقّ الحياة، وحقّ التملّك، وحقّ اختيار طريقة الحياة وما إلى ذلك، مما شكّل الأساس الأولي لنظريات العدالة. إن العدالة تهدف إلى حفظ وصيانة هذه الحقوق الفردية، أو بعبارةٍ أكثر تحديداً: إن كل عمل متعمّد ينقض هذه الحقوق يُعَدّ عملاً ظالماً. وفي اعتقادي إذا أردنا التفكير ضمن الإطار الأبستيمولوجي الحديث ـ وهو أمرٌ لا مناص منه على ما يبدو ـ وجب اعتبار العدالة من صفات الأفعال الإنسانية؛ فإن الفعل إنما يكون عادلاً إذا تطابق مع الأصول والقواعد العامّة الناظرة إلى حفظ وصيانة الحقوق الأساسية للإنسان. إن هذا التعريف العام قابلٌ للإطلاق على جميع أبعاد الحياة الاجتماعية للبشر. ولكنْ علينا الانتباه إلى أن أغلب المصاديق العملية لهذا التعريف ذات صبغةٍ سلبية أكثر منها إيجابية.

بشيريه: يتعيَّن عليّ في البداية أن أطرح فرضيتي الرئيسة، وهي عدم كفاءة الآراء القديمة بشأن العدالة. ومن ذلك ـ مثلاً ـ أن العدالة في الأفكار الإغريقية القديمة ـ ولا سيَّما عند أفلاطون([2]) ـ يتمّ البحث عنها في المفهوم الانتزاعي أو الهندسي للاعتدال، حيث يتمّ توظيفه بوصفه أصلاً أزليّاً وغير قابل للنقاش في مختلف المجالات. إن العدالة تحتوي ـ مثل سائر المُثُل الأخرى ـ على حقيقة مغلقة وغير قابلة للبحث والنقاش. ويبدو أن هناك ثلّة قليلة من العلماء الذين يعرفون هذا المثال، أو يكتشفونه، ولا قِبَل لعامة الناس به، ولا حقّ لهم في التصرّف فيه؛ إذ إن مثال العدالة أصلٌ انتزاعي وفرضية مسبقة، بحيث لا يمكن البحث فيها بما يتجاوز هذا الحدّ. وبعبارةٍ أخرى: إن بحث العدالة هنا ـ مثل سائر الأبحاث ـ يحتوي على صفةٍ ذهنية فذّة ومفردة فريدة، ولا صلة له بالمساحة العامّة للمجتمع. يضاف إلى ذلك أن العدالة في الاعتدال ليست نظرية فعّالة ومتطفّلة، وإنما تعمل على مجرّد بيان الوضع القائم في الطبيعة، لا أكثر. إن المدينة الفاضلة في حقيقتها ليست يوطوبيا، وإنما تعني وضع كلّ شيء في مكانه المحدّد. إن العدالة في الأصل صفة نفسية لدى الفرد تنعكس في المجتمع. إن فضيلة الفكر هي التعقُّل، وفضيلة الإرادة هي الشجاعة، وفضيلة الشهوة هي الاعتدال. وإن حاصل جمع هذه الفضائل الثلاثة هو الذي نطلق عليه مصطلح العدالة. وإن المجتمع بحاجةٍ إلى ثلاثة أمور، وهي: البقاء، والدفاع، والقيادة. والاعتدال بين هذه الأمور الثلاثة في المجتمع هو الذي يمثِّل العدالة الاجتماعية. إذن مفهوم العدالة في الأساس مفهوم طبيعي وغير فعّال. إن الدولة والمجتمع لا يعملان على إيجاد العدول، بل الأمر على العكس من ذلك تماماً، بمعنى أن العدول هم الذين يؤسِّسون للدولة العادلة. وبشكلٍ عامّ فإن الفلسفة الميتافيزيقية لدى أفلاطون عبارة عن مجتمع مغلق، وإن مفهوم العدالة في هذا المجتمع يأتي بتأثير من هذه الخصوصية العامة.

إن نظرية العدالة عند أرسطو([3]) تتجلّى في نزعتها الطبيعية بشكلٍ أظهر من أفلاطون. وهنا تكون العدالة في تعادلٍ أيضاً. ففضيلة كل شيء تكمن في الحدّ الوَسَط، وهذا الحدّ بدَوْر حدّ طبيعي. والطبيعة ذاتها تفهم على أنها غير متكافئة، وتأتي العدالة في إطار هذه الأنواع اللامتكافئة. فالعدالة إذن عبارة عن السلوك والتعامل المتكافئ مع الأفراد المتكافئين من الناحية المنشودة، والتعامل غير المتكافئ مع الأفراد غير المتكافئين من هذه الناحية أيضاً. وعليه حيث يكون العبيد والنساء والمواطنون في طبيعة المجتمع غير متكافئين، يكون التعامل اللامتكافئ معهم هو عين العدل. في مدارج تكامل المادّة والصورة يكون لكلٍّ من: المرأة والعبد والغريب والمواطن مقامٌ ومنزلة. فالمرأة ـ على سبيل المثال ـ تقف في مرحلة من التكامل أدنى من مرحلة الرجل. إن رؤية أرسطو للعدالة قد ماتت منذ قرون، ولا يمكن لها أن تكون مُجْدية في عصرنا الراهن.

وبطبيعة الحال فإن عصرنا بدَوْره لم يَخْلُ من طرح الأفهام الطبيعية عن العدالة. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ: يمكن الإشارة إلى (فريدريش فون هايك)([4])، حيث يرى أن نظم المجتمع أمر تلقائي وطبيعي. إن المجتمع والحضارة في هذه الرؤية ليسا حصيلة طرح عقلاني. وعليه لا يمكن استخدام العدالة في توصيف المجتمع؛ وذلك لأن المجتمع ليس أمراً مصنوعاً ونتاج عقلانية البناء. وعلى هذا الأساس فإن عدم المساواة ضرورة طبيعية. وإن التخطيط والبرمجة والتدخل في الأنظمة التلقائية ـ مثل المجتمع ـ غير ممكن أصلاً. ومن هنا فإن (فريدريش هايك) يعارض العدالة في التوزيع؛ وذلك لأنها بسبب التعارض، وعدم إمكانية قياس الحاجات الفردية (بمعنى عدم المساواة الطبيعية)، لن تكون قابلةً للتطبيق. وباختصارٍ يجب الاستسلام للقوى الطبيعية وغير الشخصية.

أرى أن العدالة في الأساس مسألةٌ أخلاقية، وليست طبيعية. إن العدالة، مثل سائر المؤسسات الاجتماعية، مؤسّسة يجب العمل على وضعها. كما يجب أن تكون العدالة خصوصية في المؤسّسات الاجتماعية أيضاً، فعندما تعمل المؤسّسات الاجتماعية على توزيع إمكاناتها وسلطاتها طبق القواعد «العادلة» يتمّ تطبيق العدالة. وبطبيعة الحال علينا أن نرى ما هي «العدالة»؟ إن شرط العدالة بوصفها مؤسّسة اجتماعية وعملاً أخلاقياً يكمن في تجاوز الطبيعة؛ فإن الحضارة والثقافة الإنسانية تكمن في خروج الإنسان من الطبيعة والقفز فوقها. ففي الطبيعة يتمّ وضع الإنسان ضمن دائرة سائر الحيوانات، في حين أن العدالة تابعة للتعقّل والحياة الثقافية والاجتماعية للإنسان. إن جميع المؤسّسات والمفاهيم الإنسانية تتبلور في ظلّ الخروج عن الطبيعة المَحْضة، ويكون فيها عنصر من الروح والذهن والعقل. وعلى هذا الأساس فإن العدالة صفة للمؤسّسات والمفاهيم الاجتماعية. فعندما نتحدث عن العدالة السياسية ـ مثلاً ـ نعني بذلك أن المؤسّسات السياسية والإمكانات المرتبطة بها أو المناصب يجب توزيعها بحَسَب القواعد «العادلة». إن الاستبداد وضعٌ طبيعي، ونحن من خلال تحديد السلطة نعمل على تجاوز هذا الوضع الطبيعي. من الممكن أن نستدلّ على أن الوضع الطبيعي والطبيعة غير عادلة. ليست هناك علاقة منطقية مقنعة بين الطبيعة والعدالة، وإن القائلين بأن العدالة طبيعية لا يستنتجونها من الطبيعة بشكلٍ «منطقي»، في حين يمكن استنتاج العدالة منطقياً من الأصول التي هي من صنع عقل الإنسان. وعليه فإن العدالة مطلب ومؤسّسة إنسانية. ثم إن العدالة بالمفهوم الطبيعي تكتسب مفهوماً أحادياً. إن الطبيعة مساحة نائية لا تسلك مسار دائرة العقل العامّ. ومرّةً أخرى، وبشكلٍ انتزاعي، يتمّ استنباط بعض الأصول والإعلان عنها، دون أن يدور الحديث بشأنها على المستوى العقلاني.

إن إشكالي العامّ على النظريات القديمة والطبيعية للعدالة يكمن في اشتمالها بأجمعها على خصلة أحادية، في حين أن العدالة؛ بوصفها مؤسّسة أخلاقية واجتماعية، يجب أن تكون مؤسّسة معقولة، بمعنى أن تكون مفكّراً فيها، وهذا في حدّ ذاته رهنٌ بالحصول على ماهية العمل العادل في الإجماع العامّ الحاصل في كلّ عصر. وليس الآراء الفلسفية والطبيعية الأحادية، ولا حتّى الإجماع العام في الماضي حول ماهية العمل العادل، يمكنها أن تكون ملزمة في الوقت الحاضر. إذا كانت المؤسسة الاجتماعية عقلية ومعقولة إذن يجب تحديث هذه الخصيصة على الدوام من جديد. ومن هذه الناحية لا يمكن للسنّة أن تحدّد تكليف العدالة. وفي الأساس فإن البحث الرئيس لا يدور حول ماهية ومضمون العدالة، بل ولا يمكن أن يدور حولها. إن هذا المحتوى يتحوَّل من عصرٍ إلى عصر آخر. إن العدالة السياسية في العصر الديمقراطي تختلف عن العدالة السياسية في عصر العبودية. كما أن الأديان بدَوْرها تنظر إلى محتوى العدالة برؤية أحادية أيضاً، إلاّ أن المسألة الأساسية ـ من وجهة نظري ـ تكمن في شكل الوصول إلى القواعد العادلة. إلاّ أن الذهن الأحادي ـ سواء أكان فلسفياً أم طبعياً أم دينياً ـ يضع نموذجاً مسبقاً للعدالة، وفي هذه الحالة يتمّ تسديد ضربة إلى جوهر العدالة، بمعنى أن الشرط الأدنى والأوّل للعدالة يكمن في أن يكون للجميع سهمٌ في الوصول إلى تعريف ومعنى مشترك للعدالة والقواعد العادلة. إن مساهمة الجميع في تكوين فهم مشترك للعدالة يمثِّل شرطاً أوّلياً للعدالة؛ إذ في مثل هذه الحالة لا نكون قد قلنا بمكانةٍ أفضل لزاوية خارجية. إن العدالة، أيّاً كان محتواها، شرطُها الأول هو أن تكون قائمةً على أساس التوافق. وعليه فإن أيّ تنظير بشأن العدالة لا يمرّ بالمساحة العامّة والعقل الجماعي، ويتمّ عرضه على شكل معادلة معدّة مسبقاً، ستكون في حدّ ذاتها ـ بطبيعة الحال ـ غير عادلة.

فإذا قبلنا بهذا الكلام لا يُتوقَّع مني أن أقدِّم تعريفاً ومعادلة بشأن ماهية ومفهوم العدالة؛ وذلك لأن هذا من مهامّ المؤسّسات والنظريات والمدارس التي تعتبر نفسها أفضل من العقل الجماعي. وإن العمل الأحادي بشأن العدالة غير عادل في حدّ ذاته.

_ ما هو المراد من كون محتوى العدالة توافقياً؟

بشيريه: إن مرادي من توافقية محتوى العدالة ليس هو ذات نظرية (ديفيد هيوم)([5])، الذي يبحث عن مفهوم العدالة في التبعية للتقاليد والأعراف الاجتماعية. إن هذا المعنى من العدالة وإنْ كان أكثر اجتماعية، إلاّ أنه يؤدي إلى القبول المتحفّظ لكلّ وضع قائم، ويرى التقاليد والأعراف منبثقة عن طبيعة المجتمع. يُضاف إلى ذلك أن المراد من العدالة ليس هو تكرار نظرية العدالة المتّفق عليها في تفكير أمثال: (توماس هوبز)([6])، رغم وجود التوافق حولها؛ إذ في نظرية العقد الاجتماعي نتّفق على كيفية متابعة وتعقّب مصالحنا، وعندما يعمل الجميع على متابعة وتعقّب مصالحهم على أساس التوافق سوف يكون عملهم عادلاً. ولكنّي، كما سبق أن ذكرتُ، أرى أن العدالة في الأساس مسألة أخلاقية، وليست مصلحية، رغم أن كلا الأمرين يحصل بواسطة العقد والاتفاق. إنني في هذا المورد متّبع للتراث الكانتي، الذي يربط العدالة بالإنصاف والحياد وعدم الانحياز. ومن الناحية المصلحية يمكن للعقد الاجتماعي أن يشيد بالوضع الطبيعي في مورد المصالح والعلاقات الاقتصادية، في حين قد ذكرنا أن مفهوم العدالة بوصفه مؤسّسة يستلزم الذهاب إلى أبعد من ذلك والعمل العقلاني والأخلاقي. إن العدالة مؤسّسة تتجاوز حدود الطبيعة.

وهنا نصل إلى هذه المسألة الأساسية، وهي: هل يمكن التوصُّل إلى فهم للعدالة يمكن إطلاقه على مختلف المجالات التي أشرتم لها؟ كما سبق أن ذكرنا، يمكن لنا البحث في خصوص شكل الوصول إلى أصول العدالة، وسيكون محتوى العدالة في كلّ عصرٍ تابعاً لهذا الشكل، بمعنى أن محتوى العدالة يجب أن يستنبط ضمن إطار الشكل، أي في مهد التوافق ومساحة العقل العام، وهذا بيانٌ آخر لذلك الأصل الأساسي الذي سبق أن ذكرناه، وهو أن الشرط الأوّل للعدالة هو أن يكون للجميع سهمٌ في الوصول إلى فهم مشترك بشأنها.

طبقاً لعقلانية وأخلاقية مؤسّسة العدالة، يجب علينا العمل بشكلٍ جادّ من أجل العثور على أسلوب لتحصيل شكل الوصول إلى أصول العدالة. وأرى أن الرؤية الكانْتية للعدالة ـ ولا سيَّما في نظرية (جون رولس)([7]) ـ في التركيب مع نظرية المساحة العامة لـ (يورغن هابرماس)([8]) يمكن لها تحديد هذا الشكل. إن المسألة الرئيسة في كلا هذين الموردين تكمن في كيفية وشكل الوصول إلى العدالة. وبشكلٍ عامّ فإن شكل الوصول إلى أصول العدالة يستلزم تدخل العقل الجماعي. إن الاتفاق بشأن العمل العادل يمثِّل شرطاً في تحقيق العدالة، وعليه فإن العدالة المعلنة من قبل الذهن الخارجي غير عادلة في حدّ ذاتها، أو إن كل أصل أو معادلة يتمّ الإعلان عنها من قِبَل المجالات الأحادية إنما تكون عادلة إذا تمّ اختبارها والقبول بها في مهد العقل الجماعي بشكلٍ متواصل. وبطبيعة الحال يمكن الاستدلال على أن أصول العدالة في المجال الأحادي هي في أصل الأصول المنبثقة عن العقل والتجربة الجماعية، ولكنها تبلورت وتشيّأت في العصور الأخرى، وأخذ يتمّ الإعلان عنها من الأعلى. وعلى هذا الأساس يجب العثور في كلّ عصرٍ على آلية تضمن الحضور للجميع في تعرييف العدالة وأصولها.

نسبية العدالة وتوافقيّتها

_ في الحقيقة ـ طبقاً لهذا التحليل ـ يتمّ إرجاع تعريف العدالة في كلّ عصرٍ إلى المفهوم العرفي. وعلى هذا الأساس فإننا نفهم من العدالة شيئاً، في حين كان عصر أفلاطون يفهمها بشكلٍ آخر، وفي عصر أرسطو كانت تفهم بشكلٍ ثالث، وكانوا يفهمونها في مرحلة ظهور الأديان بشكلٍ لم يَعُدْ من الممكن فهمه في المرحلة الحديثة الأخرى. وفي الحقيقة بعد تحقُّق مفهوم العدالة في كل عصر نخوض في الأشكال التنفيذية للعدالة في ذلك العصر. فما هو دليلكم على هذا الادّعاء؟

بشيريه: في الحقيقة إن أساس الاستدلال يكمن في أن هناك علاقةً عميقة بين العدالة والتوافق. فقد سبق أن ذكرتُ أنه بالإمكان من الناحية المنطقية استنتاج العدالة من التعاقد والتوافق. وبعبارةٍ أخرى: إن هناك ارتباطاً وثيقاً بين العدالة والعقل الجماعي والمساحة العامة والمجتمع المدني. وإن هذا البحث في الحقيقة هو ذات البحث الأصليّ لشكل الوصول إلى أصول العدالة.

أودّ هنا أن أقيم علاقة بين نظريات يورغن هابرماس وجون رولس. وفي الواقع إن بحث كلا هذين المفكِّرين يدور في نهاية المطاف حول شكل الوصول إلى أصول العدالة؛ فإن مركز بحث رولس يكمن في الوصول إلى «وضعية اختيارية مثالية»؛ كي نتمكّن من انتخاب أصول العدالة. وهذا واحدٌ من الطرق الأساسية لجعل العدالة توافقية. إن المراد من هذه الوضعية هو تصميم الأفراد العقلاء الحياديين حول شكل وأصول العدالة، وهذا التصميم لا يقوم على أساس معرفة المصالح، وإنما خلف حجاب الجهل وتجاهل خصوصياتهم ومصالحهم. إن الوضعية الانتقائية المثالية واقعٌ مفروض، يمكن الوصول من خلاله إلى الأصول العامة للعدالة. إن الوضع الانتقائي المثالي لرولس من قبيل: حصول الإرادة العامة لدى الفرد، حيث يتجاهل الإرادة الخاصة التي تجنح نحو مصالحه، أو يضعها خلف ستار الجهل. إن الفرد في الوضع الانتقائي المثالي يشتمل على إرادة عامة، بمعزل عن الاهتمام بالخصائص والمصالح الفردية. وبهذا المعنى تكون الإرادة العامة والعقل الجماعي والمساحة العامة والوضعية الانتقائية المثالية بمعنىً واحد. وفي هذه الحالة يمكن الوصول إلى توافقٍ حول كلّ شيء، بما في ذلك الأسلوب الأخلاقي للوصول إلى أصول العدالة. إن الأفراد إنّما يمكثون في الوضع الانتقائي المثالي وستار الجهل عندما يكونون جاهلين بمصالحهم وخصوصياتهم، ويكونون مطَّلعين على الوضع العام لجميع الناس ومصالحهم ورغباتهم. وهذا في الواقع هو ذات تحصيل الإرادة العامّة بمعنى الاتجاه العامّ. إن كل أصل يتمّ انتخابه في الوضع الانتقائي المثالي سيكون منصفاً وحيادياً. إن الفرد في هذه الوضعية لا يعلم ما إذا كان حرّاً أو عبداً، رجلاً أو امرأة، فارسياً أم تركياً. وهذا يعني أن هناك حضوراً للجميع في الوضع الانتقائي المثالي. وعلى هذا الأساس، حتّى إذا دار الحديث حول حقوق الحيوانات، لا يعلم الفرد ما إذا كان إنساناً أم حيواناً. إن معرفة واحترام حقوق الحيوانات في عصرنا ينشأ إلى حدٍّ ما من هذا الانتقاء الكامن خلف ستار التجاهل.

إن الوضعية الانتقائية المثالية من قبيل: «الوضعية الكلامية المثالية» في نظرية يورغن هابرماس. في الوضع الكلامي المثالي لن يكون هناك مجالٌ للعقل الأحادي والباحث عن الحقيقة في كلّ مورد من الموارد. في الوضع الكلامي المثالي يتجلّى العقل التفاهمي والارتباطي والتفاعل التفاهمي والارتباط الذهني التامّ. إن الوضعية الكلامية المثالية هي وضعية الارتباط والتفاهم الكامل. إن هذه الوضعية هي التي تخرجنا من الوضع الأحادي. إن إقامة الوضعية الكلامية المثالية تمثِّل في الحقيقة شرط العدالة. إن فرض نموذج للعدالة من الخارج لم يخضع للتفكير في الدائرة العامة يؤدّي بالوضعية إلى الأحادية الذهنية، وحيث إن كل وضعية في أحادية الذهن واللغة تؤدي في نهاية المطاف إلى استخدام القوّة والإكراه فإن نفي تلك الوضعية يُعَدّ غير عادل. إن أصول العدالة إنما تكون حقيقية ومعقولة ومقبولة إذا كانت منبثقة عن التوافق العقلاني الحاصل من «الوضعية الكلامية والوضعية الانتقائية المثالية»، ففي هذه الوضعية نصل إلى أصول العدالة. وبطبيعة الحال فإن المراد من الوضعية الانتقائية المثالية وستار الجهل ـ كما تقدَّم توضيحه ـ ليس مجموعة أو طائفة من الناس أو منتخبيهم الذين يتحدّثون حول أصول العدالة، بل المراد هو المجتمع بأَسْره، حيث يمكنه أن يمكث في رؤية واحدة وأفق واحد خلف ستار الجهل بالنسبة إلى مصالحه الخاصة، بمعنى أن الناس إنما يكونون في الدائرة العامة والوضع الكلامي المثالي، بحيث كلّما اتسعت هذه الدائرة تصبح مساحة المصالح والرغبات غير المعقولة والإجبال والخصال الأحادية أضيق. ففي محضر دائرة العقل العامّ لا يمكن الدفاع عن الأهواء الخاصة أو طلب الجاه والسلطة بغير وجهٍ معقول. وفي الدائرة العامة نقوم في الحدّ الأدنى بإخفاء رغباتنا الخاصة خلف ستار التوجيهات العامة، وكما قيل: إن الرياء احترامٌ تبديه الرذيلة في حقّ الفضيلة.

وعليه، ففي تلك الوضعيات المثالية يمكن الوصول إلى أصول يقبلها كلّ أفراد المجتمع خلف ستار الجهل بمصالحهم الخاصة. ومن هذه الزاوية فإن الوضعية الانتقائية المثالية هي ذات الوضعية الكلامية المثالية في مجال العدالة.

وعليه نقول: ما هي أصول العدالة التي يجب اتخاذها فيما وراء ستار الجهل، وفي دائرة الإرادة والمساحة العامة، وبعيداً عن العلم بالرغبات والمصالح، والخصوصيات الخاصة بأصحاب القرار؟ إن أصحاب القرار مطَّلعون بشكل طبيعي على الخصال العامة واحتياجات الإنسان، كما يعلمون بإمكان اختلاف المصالح وعدم المساواة بين الناس. إن العدالة ـ بطبيعة الحال ـ إنما يمكن الحديث عنها إذا أمكن أن يكون هناك اختلافٌ في المصالح وأنواع الانتفاع. وإن أوّل وأدنى أصل هو ـ كما تقدَّم أن ذكرنا ـ أن يكون للجميع دَوْرٌ في تعريف أصول العمل العادل، بمعنى أن ذات اتساع الدائرة العامة والوضع الكلامي والانتقاء المثالي يمثِّل الشرط الأول في العدالة. إن العبارة التي استعملها رولس هي حقّ المساواة بالنسبة إلى الحرّية، وهذا هو المطلب الذي يبيِّنه بعبارةٍ أخرى إذ يقول: إن الحقّ للجميع في الحرّية يعني حقّ بيان وجهات النظر والآراء. إلاّ أن هذه الآراء ليست آراء خاصة، بحيث لا نمتلك الجرأة على بيانها في الملأ العام. وفي الوضعية الكلامية المثالية أو في دائرة العقل العامّ إنما يتقدّم ذلك الرأي الذي يمكن الدفاع عنه بواسطة اللغة العامّة وفي الملأ العام. إن العمل الذي نحبِّذه في خلواتنا الخاصّة (أي في دائرة مصالحنا) إنما يمكن جعله علنياً ومقبولاً ومبرّراً إذا أمكن الدفاع عنه في الملأ العام. إن الدائرة الخاصّة يجب أن تدلي باعترافها في محضر العقل العامّ، وليس في محضر العقول الذهنية الأحادية. وكلّما اتَّسع العقل العامّ تصبح الأغراض الخاصة والسلطوية والأنانية غير قابلة للدفاع.

الأصل الثاني للعدالة يعود إلى عدم المساواة. إن المسألة الأساسية في بحث العدالة هي أن نجعل عدم المساواة معقولة، ولكنْ لا يمكن القضاء على عدم المساواة. إن الفهم الخاطئ للعدالة يرى أن المسألة الأصلية تكمن في القضاء على عدم المساواة. إن عدم المساواة إنما تغدو معقولة ومبرَّرة إذا كانت إقامة كلّ عدم مساواة في مصلحة الجميع. إن عدم المساواة العادلة هي تلك التي يؤدّي رفعها أو تخفيفها إلى مفاقمة وضع الجماعات الدنيا في المجتمع نحو الأسوأ. وعلى هذا الأساس تتمّ مراعاة عدم المساواة التي لا يمكن اجتنابها، مثل: عدم المساواة في المكافآت والأرباح، ممّا يشكل حافزاً للعمل والنشاط. وحدها عدم المساواة المبرّرة والمقبولة هي تلك التي تكون في مصلحة الجميع؛ وأما غير هذا وما هو أبعد منه فلا يمكن القبول به. وعلى هذه الشاكلة فإن التوجيه العقلاني لعدم المساواة يحتاج إلى المساحة العامة والتوافق العقلي.

بالالتفات إلى ما تقدّم ذكره فإن البحث المعروف بالمساواة في الفرص لا يقدّم أي حلّ للوصول إلى العدالة. ثم أن بحث المساواة في الفرص يتضمّن رؤية طبيعية إلى العدالة، حيث يتجاهل الصبغة الأخلاقية والعملية والتوصيفية للعدالة. إن المساواة في الفرص؛ بوصفها أصلاً في العدالة، لن تكون قابلة للتحقُّق أبداً، وبذلك تصبح المسألة متسلسلة. يمكن في مقطعٍ مفترض ـ كما في المجال الحقوقي ـ إقامة المساواة في الفرص، ولكنْ سرعان ما تتجلّى وراء هذه القضية مشكلة عدم المساواة الاقتصادية أو السياسية. وتكمن المشكلة الرئيسة في أن الناس منذ ولادتهم يجدون أنفسهم في وضعية عدم المساواة في الفرص، فلا نصل إلى نقطة الصفر أو خط السباق والعزيمة أبداً. إن الأشخاص منذ البداية كانو يعانون ـ من الناحية الوراثية والتربية الأسرية والواقع الطبقي وما إلى ذلك ـ من عدم المساواة في الفرص والإمكانات. لا يمكن الوصول إلى نقطة التساوي والقول: من الآن فصاعداً ستكون جميع أنواع عدم المساواة استحقاقية. إذن هناك مجموعة معقّدة من عدم المساواة التي هي نتاج العوامل الاتفاقية. وفي بحث العدالة ـ بوصفه بحثاً أخلاقياً ـ لا يمكن ولا ينبغي أخذ العوامل الاتفاقية والطبيعية بنظر الاعتبار، أو العمل على حذفها في الواقع، إنما الشيء الوحيد الذي يمكن القيام به هو أن نتجاهل عدم المساواة الناشئة من الصدفة؛ إذ لا نستطيع أن نفعل شيئاً بشأنها. يجب تجاهل جميع العناصر الاتفاقية المؤثِّرة في مختلف أنواع استفادة الأشخاص فيما وراء ستار الجهل، وأن نحافظ على مجرّد عدم المساواة المبرّرة والتي سينتفع بها الجميع على كل حال. إن الإرادة العامة المنضوية ضمن الوضعية الانتقائية والكلامية المثالية إنما يمكنها في خصوص هذه المسألة أن تعمل على التعقل والتحليل بشكلٍ مؤثِّر.

والآن يمكن لنا أن نأخذ الوجوه التي ذكرتموها على أساس الأصول التي تحدَّثنا عنها بنظر الاعتبار. ففي ما يتعلَّق بالعدالة الأخلاقية، طبقاً للأصل الأوّل من العدالة ـ والذي نعني به الحقوق المتساوية للجميع في الحرية ـ، إنما تكون الأصول الأخلاقية والقِيَم عادلة إذا تحققت ضمن الوضعية الكلامية الحرّة، وفي دائرة العقل العامّ. وعليه فإن الأخلاقيات الأحادية التي يتمّ تحميلها وفرضها من قِبَل أصحاب السلطة تكون منافية للعدالة من تلقائها. وفي المجال السياسي إنما تتحقّق العدالة إذا قامت المؤسّسات السياسية بتقسيم مصادرها وقِيَمها على أساس ذينك الأصلين، أي أوّلاً: أن يكون للجميع دَوْر في تعريف العدالة السياسية بهذا المعنى، وعلى هذه الشاكلة تكون أصول التوزيع في دائرة العقل العام قابلة للدفاع والقبول. وثانياً: أن يكون عدم التساوي في هذه الدائرة معقولاً ومبرّراً، بمعنى أن يكون في مصلحة الجميع. فمثلاً: إن عدم التساوي في المناصب التي تعتبر شرطاً في استمرار عمل الدولة إنما يكون مقبولاً ما دام معقولاً ومبرّراً في دائرة العقل العام. يجب أن يتضح أن الأسلوب الشائع في توزيع المصادر هو لمصلحة الجميع، وهذا الأمر إنما يجب إحرازه في فضاء حرّية التفكير؛ ليتمّ التوصل إلى التوافق في نهاية المطاف.

وفي مورد العدالة القضائية يقال عادةً: إن القاضي العادل هو الذي يحكم بشكل حيادي، وعلى أساس الضوابط والقوانين. إن القانون الذي لا يمتلك جذوراً في الدائرة العامة، والذي يكون من طرفٍ واحد، يكون مظهراً لانعدام العدالة. إن العدالة القضائية تعني العدالة التنفيذية، وهي بدَوْرها تمثِّل جزءاً من قضية أكبر، ونعني بها عدالة القوانين. وقد قال (هايك): ليس كل دستور حكومي قانوناً. فهو يرى أن القانون إنما هو نتاج تكامل أخلاقي للمجتمع، وليس من وضع وتأسيس وإرادة الدولة.

_ ينطلق فون هايك من الأنظمة التلقائية، وتعمل هذه الأنظمة بدَوْرها على تنظيم العلاقات والأواصر الاجتماعية الموجودة في السوق. وإنّ كل تدخُّل من خارج السوق، من قبيل: تدخل الدولة، يُعَدّ إخلالاً في المجالات الاقتصادية الناشئة من تلك الأنظمة. وهو بشكلٍ عامّ يرى في قوانين الدولة ضرباً وتدميراً للأنظمة التلقائية التي تؤدّي ـ في أكثر حالاتها تطرُّفاً ـ إلى إلغاء الدولة. وبطبيعة الحال فإنه ـ خلافاً لتصوُّر مناوئيه ـ لا يرى في هذه الحالة فوضوية.

بشيريه: صحيحٌ. إن هايك يعمل على بيان حدود قدرة العقل على الطريقة الكانْتية. ومن وجهة نظره فإن الذهن ـ بطبيعة الحال ـ تابعٌ لبعض القواعد، ولكنْ ليس بالإمكان فهمها. وعليه لا يمكن التنبُّؤ بتطوّر الذهن والتاريخ، ومن هنا يستحيل اتخاذ موقف خارجي تجاه المجتمع من الناحية المعرفية والأبستيمولوجية. إن النظم الاجتماعي ليس من نتاج العقل، وعليه لا يمكن التخطيط في مورد المجتمع. إن الحضارة ليست حصيلة التخطيط، بل هي نظامٌ ذاتي وتلقائي. وفي هذا البين يكون السوق بنفسه نظاماً معرفياً وضامناً لأخذ المعرفة العامة المبعثرة في كافّة أنحاء المجتمع بنظر الاعتبار. ومن هنا يكون أيّ تخطيط مخالفاً للنَّظْم التلقائي ومضرّاً بالحرّية. وبطبيعة الحال فقد سبق لي أن وجّهتُ نقداً على العدالة عند فون هايك. وهنا أعيد القول بشأن العدالة الاقتصادية، وهو أن العدالة إذا كانت مؤسّسة أخلاقية واجتماعية وغير طبيعية فعندها ستكون على خلاف النَّظْم التلقائي. إن الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية الراهنة لم تعُدْ تلقائية، ولا يمكن أن تكون كذلك. وقد سبق لنا أن ذكرنا ـ بطبيعة الحال ـ أن عدم المساواة من لوازم تطوُّر المجتمع. إن الوصول إلى عدم المساواة مع الآخرين يمثِّل واحداً من دوافع عمل ونشاط الأشخاص. فإذا كان من المقرَّر أن يكون الجميع متساوون، على الرغم من السعي والنشاط، سوف ينتفي الحافز نحو العمل. إن الدافع الأصلي للإنسان هو الأفضلية، وليس التساوي. وعلى أيّ حالٍ فإن للعدالة أصلاً أخلاقياً وإنسانياً، وليس طبيعياً. إلى أين يؤدّي النَّظْم التلقائي الطبيعي في السياسة؟ هل ينتهي إلى غير الاستبداد والدكتاتورية والسلطوية؟ إن الديمقراطية وحكم القانون قيدٌ نضعه على النَّظْم التلقائي للسياسة. ويمكن قول الشيء نفسه بشأن السوق والاقتصاد أيضاً. إننا في العدالة نتجاوز حدود الطبيعة.

وفي مورد العدالة في العلاقات الدولية هناك لجون رولس في هذا الخصوص بحثٌ يقوم على أن ممثِّلي الحكومات يتَّخذون القرارات خلف ستار الجهل وعدم الاطّلاع عن الوضعية الخاصة لبلادهم. وبالتالي يبقى عدم المساواة الناشئ من الصدف غير مرئيّ، وهذا هو شرط العدالة الدولية. وبطبيعة الحال إن هذه الوضعية الانتقائية المثالية في مجال العلاقات الدولية مثالية، وبعيدة كل البُعْد عن الوضع الموجود. إلاّ أن النقطة التي يجب إضافتها إلى أبحاث رولس هي أن هذه الوضعية الانتقائية لا يمكن أن تتبلور حول المجامع الحكومية الدولية فقط، بل إن شرط تحقّقها يكمن في المساحة الدولية العامّة. وأخيراً فإن حركات من قبيل: البيئة، ونزع السلاح، وحقوق الإنسان، وما إلى ذلك، قد لعبت أدواراً هامّة في توسيع الرقعة العامة على المستوى الدولي والحركة نحو الوضع الكلامي الأفضل. ومع اتساع الرقعة العامة في المجال الدولي لا يمكن للدول؛ بوصفها مالكة للمصالح الوطنية الخاصّة وعناصر الإجبار، أن تكون فارسة الميدان الوحيدة في المساحة الخاصة.

_ بالالتفات إلى أن مؤسّسات السلطة تنشط في الساحة الدولية، ومن خلال تحكيم العلاقات الاقتصادية ـ الاجتماعية، والحفاظ على هذه العلاقات على أساس السلطة والسيطرة على الأفكار العامّة، وحتّى الخطاب العام بواسطة الأقمار الصناعية والكامبيوتر وما إلى ذلك، كيف تصل فكرة العدالة إلى الساحة العامة؟ وفي الأساس كيف ترَوْن دَوْر هذه العلاقات في بلورة العدالة في المناسبات الدولية، بالالتفات إلى ذلك البحث الذي ذكرتموه؟

بشيريه: لا تختلف ماهية الوضع الطبيعي لدى توماس هوبز ـ سواء في جانبه السياسي أو في شكله الاقتصادي ـ في المجال الدولي من حيث النتائج. فكلا الموردين يشكِّل مانعاً يحول دون اتساع الرقعة العامة في هذا المجال. إن السلطة تقضي على شفافية الرقعة العامة والمجتمع المدني، وتحول دون التفاهم الذهني الدولي. وبحَسَب المصطلح يمكن مشاهدة حركتين على المستوى الدولي: الأولى: في ناحية المنظومة؛ والأخرى: في ناحية عالم الحياة، من قبيل: التشكيلات العسكرية والسياسية والاقتصادية من جهةٍ، والحركات المعارضة والتيارات الإصلاحية من جهةٍ أخرى.

ولنَعُدْ إلى السؤال الأول، يمكن توظيف هذين الأصلين في مورد العلاقات الأُسَرية أيضاً. الأوّل: إن معيار العدالة يجب أن لا يكون أحادياً ومن طرفٍ واحد وغير مبرهن؛ والثاني: أن يكون عدم التكافؤ والمساواة ـ كما في توزيع الأرباح والمكاسب وإمكانات الأسرة وتخصيصها على سبيل المثال ـ لمصلحة الجميع، وبذلك تغدو معقولة. وإن العدالة في الإلهيات ـ كما سبق أن ذكرنا ـ أحادية أيضاً، وإنما يحرز الشرط الأول للعدالة إذا ارتبط مع الذهن العامّ في جميع العصور. وعلى حدّ تعبير هيجل([9]): عندما يتمّ التعرّف على الله بوصفه روحاً حرّة ستكون هذه الحالة ممكنة. وبعكس ذلك في الأديان الجوهرية، من قبيل: الهندوسية، حيث يكون الله والأمور الجزئية منفصلة عن بعضها بشكلٍ كامل. إن الله الواحد يطرد التعدُّدية عن ذاته، وإن عالم الكثرة محرومٌ من النَّظْم العقلي، وهو عرضةٌ للأهواء فقط. عندما يكون الله جوهراً غير متعيّن ينفصل ارتباطه بالعالم؛ وأما عندما يفهم الله بوصفه روحاً حرّة وانضمامية يحصل عقل الإنسان على مكانته. وبعكس ذلك في الدين الجوهري، حيث يكون العالم ـ بوصفه مخلوقاً إنسانياً ـ مساحة مرسلة ومتروكة، وهي تابعة لمجرد اللطف الإلهي. إن الإنسان مجرّد عبد لله، وهنا سوف تكون العدالة أحادية بطبيعة الحال. إن تصور الأديان المختلفة بشأن الله يحدِّد المساحة والموقع الذي يمكن لعقل الإنسان أن يشغله. عندما يتمّ اعتبار الله بوصفه روحاً حرّة عندها يُعَدّ العقل وجزئية الإنسان واحداً من تفصيلاته ودقائقه.

_ إن الدين ـ طبقاً لنظريّة ـ يدعو إلى ما تفهمه الذهنية العامة وتراه عادلاً، وليس العكس. وفي الحقيقة إن الأحكام والقواعد الفقهية يجب أن تتطابق مع الذهنية العامة. وطبقاً لهذه الرؤية ننتقل من التفكير الكلامي الأشعري إلى التفكير العقلاني المعتزلي. إذن العدالة بحثٌ ما فوق ديني، بمعنى أن ما هو عادلٌ يقول به الدين، لا أن ما يقوله الدين يكون عادلاً بالضرورة. وبعبارةٍ أخرى: إن العدالة تقع في سلسلة علل الأحكام، وليس في سلسلة معلولاته.

بشيريه: في الحقيقة هو ذات بحث الديالكتيك الهيجلي في الدين المطلق. وبشكل عامّ فإن تصورنا بشأن الله له تأثيرٌ مبين على تصوّرنا بشأن الفرد والمجتمع.

_ أين مكمن الفرق بين نظرية جون رولس وفريدريش هايك؟

بشيريه: كما أشرتُ سابقاً، إن نظرية فريدريش هايك نظرية طبيعية، ولا يرتضي القول بأن العدالة مؤسّسة اجتماعية أو مسألة أخلاقية؛ في حين أن العدالة من وجهة نظر جون رولس عملٌ أخلاقي وعقلاني، ومؤسّسة يجب أن تقوم على أساس حكم الأخلاق والعقل. وهو يرى أن الفرد يتعرَّض طوال حياته إلى أنواع من عدم المساواة الناشئة من العوامل الاتفاقية والطبيعية، إلاّ أن الوصول إلى أصول العدالة بحاجة إلى اللجوء إلى الوضعية الانتقائية المثالية. إن العدالة إنما تتحقّق ـ مثل سائر المؤسّسات الإنسانية الأخرى، من قبيل: السياسة وغيرها ـ بحكم القفز فوق الطبيعة.

_ لو رأينا دَوْراً للعلاقات الاقتصادية / الاجتماعية في تحقُّق مفهوم العدالة ـ كما التفت إلى ذلك بعض المنظِّرين، من أمثال: (كارل ماركس)([10]) ـ قد يتبلور في أذهاننا مفهوم غير عادل، بمعنى أن تكون له صبغة طبقية وبرجوازية. فبالالتفات إلى هذه العلاقات الاقتصادية / الاجتماعية الخاطئة كيف ننتقل إلى الذهنية الجماعية والأصل الأوّلي لجون رولس؟

بشيريه: إن انعدام المساواة مستمرٌّ في المجتمع البشري، وتكمن المسألة الأساسية في أن نجعل ذلك أمراً معقولاً ومقبولاً في مسرح العقل الجمعي. ولكنني بطبيعة الحال لا أروم إيجاد المبرِّر السياسي والأيديولوجي لعدم المساواة، كما أن الغاية النهائية تهدف إلى رفع جميع أنواع عدم المساواة، باستثناء تلك التي يكون الحفاظ عليها في مصلحة الجميع. ويبدو لي أن جوهر نظرية ماركس لا يختلف عمّا ذكرناه. إن الأصول التي ذكرناها تتعلَّق بعدم المساواة في جميع الأنظمة. فحتى عندما يقوم نظام اشتراكي أو شيوعي، وعلى فرض زوال الأنواع الفاحشة من عدم المساواة في عصر الرأسمالية بواسطة وسائل السلطة السياسية، مع ذلك ستبقى مسألة عدم المساواة والعدالة على حالها. وهنا تصبح مسألة العدالة أكثر دقّة وأشدّ تفلسفاً. فإذا لم يكن المراد من الاشتراكية حكم الدولة المقتدرة أو الشمولية، ولم تكن القرارات أحادية تصدر من قبل الحزب الشيوعي الحاكم، ولا وجود لرأيٍ مسيطر من قِبَل المستنيرين أو الطبقة الحاكمة، بل المراد طريقة أكثر ديمقراطية من الديمقراطية البرجوازية، وتحافظ على عنصر حرّية المذهب في عصر النضال الديمقراطي، عندها ستكون الاشتراكية بمعنى المساحة العامة والمفتوحة للوضعية الكلامية المثالية، حيث تكون الإرادة العامة هي السائدة فيها. كما أن بحث يورغن هابرماس هو في الأساس تعبيرٌ عن نظرية ماركس. فالمجتمعات الرأسمالية حالياً، والتي يُطلق هو عليها مصطلح «المنظومة»، أي الأبعاد الخاصّة والمظلمة للمصلحة والسلطة والأيديولوجيا، تعمل على مقاومة البيئة والمساحات العامة والجماعية، وتضرّ بها. وعلى هذا الأساس فإن المنظومة تحول دون وصولنا إلى الوضعية الكلامية المثالية، وأما أن نقول بأن كلّ نظرية يتمّ تقديمها في باب العدالة داخل هذه المنظومات بوصفها بناء مقيّداً بمقتضيات هذه المنظومة، وأنه لن يخرج من متنها المنطقي، فيبدو غير صحيح. وبهذا الوصف تزول أيّ إمكانية للنقد، في حين أن النقد الأساسي ممكنٌ. يضاف إلى ذلك أنه تمّ في ظلّ هذه الأنظمة تقديم نظريات متنوّعة للعدالة، من قبيل: رولس وهايك، اللذين يختلفان عن بعضهما اختلافاً جَذْرياً. كما أن ماركس نفسه كان يطرح نقده الراديكالي في صُلْب الرأسمالية الليبرالية للقرن التاسع عشر الميلادي. وعلى أيّ حال إن نفس طرح بحث العدالة يستلزم نقد الوضع المستقرّ والعبور عليه. إن المسألة الأساسية ـ كما سبق أن ذكرنا ـ هي توفير ظروف إمكان المشاركة الجماعية، بمعنى الذهنية العامة في تعريف أصول العدالة بوصفها شرطاً أوّلياً للعدالة. وأما إذا كان مرادكم من السؤال هو كيف يمكن للذهن العامّ أن يتحرَّر من قيود المنظومة ونظام عدم المساواة؟ فهذه المسألة بطبيعة الحال في غاية الأهمّية. وفي حدود علمي لا أرى أن الإطار النظري لرولس كان يستوعب طرح مثل هذا السؤال. وأما يورغن هابرماس فقد تحدَّث في هذا الشأن. ولكي نصل إلى الإمكان العقلي والتفاهمي والوضعية الكلامية المثالية يجب توسيع رقعة القدرات الكلامية، وهذا يستلزم دائرة عامة. وشرط هذا التحوُّل يكمن في إزالة الشوائب الأيديولوجية والمصلحة والإجبار عن الدائرة العامة. عندما تتَّسع رقعة العقلانية العامة لا يمكن لأيديولوجية الإجبار والمصلحية الأنانية أن تظهر إلى العلن بكلّ بساطةٍ، وسوف تضطر بالتدريج إلى الانسحاب، وتقبل الهزيمة. فعندما تبزغ شمس العقل والحجّة والمساحة العامة تنحسر ظلمة السلطة والمصلحة الخاصة.

مرجعيّة الفهم الزمني للعدالة دينيّاً

_ هل تعرَّض مفهوم «العدالة» للتحوُّل والتغيير على طول التاريخ الثقافي للبشر، أو اختلفت مصاديقه؟ وعلى أيّ حال هل «العدالة الاجتماعية» طبقاً لفهمنا له في تلك الأزمنة موردُ تأييد الدين وتوصيته؟

غني نجاد: إن التعريف الصوري للعدالة ومفهومها العقلانيّ، على نحو ما كان مطروحاً من قِبَل الفلاسفة الإغريقيين قديماً، كان منذ ذلك الحين وإلى هذه اللحظة هو المبنى الرئيس لجميع الأبحاث والنقاشات حول العدالة تقريباً. لقد عمد أرسطو استناداً إلى الركن الأساسي للعدالة عند الإغريق ـ أي أصل «التناسب الطبيعي» ـ إلى القول بشكلين من أشكال العدالة في العلاقات الاجتماعية بين الناس، وهما: العدالة التوزيعية؛ والعدالة التعويضية. والعدالة من النوع الأوّل تعكس كيفية توزيع المصادر والمواهب بين أفراد المجتمع، والعدالة من النوع الثاني ناظرةٌ إلى كيفية التعاطي بين طرفي التبادل. إن العدالة التوزيعية ـ من وجهة نظر أرسطو ـ إنما يكتب لها التحقُّق إذا تمّ تحديد سهم كلّ واحدٍ من أفراد المجتمع بحَسَب منزلته واستحقاقه. والعدالة التعويضية تعني أن كلّ مبادلة يجب أن تكون في الوقت نفسه معاملة، بمعنى أن ما يُعْطَى يجب أن يكون مساوياً لما يُؤْخَذ. إن هذين المفهومين للعدالة كانا هما الحاكمين والسائدين في التفكير البشري، منذ قرون متمادية وحتّى بداية المرحلة الجديدة، ولا سيَّما في العصور الوسطى في أوروبا. وقلّما تجرّأ شخص على التشكيك فيهما. ولكنْ مع بداية التفكير الموضوعي الجديد تمّ توجيه النقد إلى الكثير من المباني الفكرية لأرسطو، ومنها: أفكاره في خصوص العدالة، وإعادة تقييمها مجدَّداً. وعلى الرغم من مضيّ ما يزيد على الألف سنة من الأبحاث حول «القيمة العادلة» على أساس أصل التساوي الأرسطي في التبادل، إلاّ أنها واجهت في نهاية المطاف طريقاً مسدوداً، بحيث وصلت جماعةٌ من المتألِّهين المسيحيين، ولا سيَّما اليسوعيين منهم، إلى نتيجة مفادها عدم إمكان تقديم تعريف مضموني للقيمة العادلة، وإن حساب وتعيين مثل هذه القيمة من قِبَل المقامات الديوانية (الحكومية) غير ممكنٍ. فقد ذهبوا إلى عدالة القيمة التي تتمّ في تبلورها في السوق «قواعد اللعبة»، بمعنى أن لا يتمّ إعمال النفوذ والتأثير في تعيينها على خلاف العُرْف السائد والقوانين الحاكمة. إن عطف الاهتمام على قواعد اللعبة (الحياة الاجتماعية) ـ بَدَلاً من التأكيد على نتائجها ـ يعمل على بلورة أحد الخصائص الهامة للتحوُّل في مفهوم العدالة. إن هذا التحوّل يشمل مفهوم العدالة التوزيعية أيضاً، بمعنى أن العدالة بَدَلاً من أن تكون مهتمّة بتعيين سهم كل واحد من أفراد المجتمع، يتمّ تصوّرها في الغالب بما هي ناظرة إلى كيفية القيام بـ «لعبة» التوزيع والقواعد الحاكمة عليها. إن «حكومة القانون» بوصفها طموحاً أساسياً للثورات المخالفة للاستبداد في المرحلة الحديثة (الثورة الإنجليزية الكبرى في نهاية القرن السابع عشر، والثورة الفرنسية، ونهضة الاستقلال الأمريكية في نهاية القرن الثامن عشر)، تقوم في الواقع على مثل هذا المفهوم من العدالة. يرى المفكِّرون في المرحلة الجديدة أن الاستبداد وفرض الإرادة والعقيدة، وبشكلٍ عامّ نفس الحرية والاختيار الفردي، من أبرز مصاديق الظلم، وأن الطريق الوحيد لرفع هذا الظلم وإقامة العدالة يكمن في أن تكون جميع الإرادات الفردية ـ بغضّ النظر عن مقامات ومنازل أصحابها ـ تابعةً لقواعد وقوانين عامة، يكون الجميع متساوين في ظلِّها. وبطبيعة الحال يجب عدم اعتبار هذا التحوُّل في مفهوم العدالة مساراً أحاديّاً لا يمكن التراجع عنه؛ لأن مفهوم العدالة التوزيعية وإنْ كان يحتجب في مرحلة من التجدُّد تحت شعاع المفهوم الجديد للعدالة بشكلٍ مؤقَّت، إلاّ أنه ـ بسبب جذوره العريقة والمتينة المغروسة في أعماق الثقافة البشرية ـ يعود إلى الظهور من جديدٍ بأشكال مختلفة. إن «العدالة الاجتماعية» تمثِّل مصداقاً للظهور المتكرِّر لمفهوم العدالة التوزيعية الضارب في العراقة والقِدَم.

ويبدو أن مصطلح العدالة الاجتماعية قد استُعمل للمرّة الأولى في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إلاّ أن شيوع هذا الاستعمال على نحو القطع واليقين كان في القرن الراهن [أي القرن العشرين الميلادي]. في الواقع إن العدالة الاجتماعية تمثِّل الشعار الأصلي لجميع الأيديولوجيات والثورات الاشتراكية وشبه الاشتراكية. يقول الاشتراكيون في نقدهم للمجتمع البرجوازي أو النظام القائم على حكم القانون (الليبرالية): إن العدالة المنشودة في هذا النظام إنما تخصّ ناحية خاصّة من الحياة السياسية، أي إنها ناظرة إلى إلغاء إمتيازات الطبقات الارستقراطية، وتشريع المساواة للجميع أمام القانون، ولا يكون هناك موضعٌ فيها للمسألة الاجتماعية الهامة الأخرى، ونعني بها الإجحاف وعدم المساواة الاقتصادية (الربحية) بين الأفراد والطبقات المختلفة في المجتمع. يذهب الاشتراكيون إلى الاعتقاد بأن العدالة السياسية (بمعنى مساواة الجميع أمام القانون) وإنْ كانت ضرورية، إلاّ أنها غير كافية، ويجب تعزيزها بالعدالة الاقتصادية والاجتماعية أيضاً. وبعبارةٍ أخرى: إنهم يذهبون إلى الاعتقاد بأن الحرّية السياسية (التحرُّر من قيود الاستبداد)، دون الحرّية الاقتصادية (التحرُّر من الأضرار والقيود المعاشية)، عبارةٌ عن شكلٍ من دون محتوى، وعليه ما لم تتحقَّق العدالة الاجتماعية (الاقتصادية) لن يُكْتَب التحقُّق للعدالة بمعناها الحقيقي. والمسألة الهامّة التي يتمّ تجاهلها في أغلب الموارد هي أن العدالة الاجتماعية على الرغم من قربها الكبير من العدالة التوزيعية، وكونها في الواقع نسخة جديدة عنها، إلاّ أن هناك بينهما ـ في الوقت نفسه ـ اختلافات جوهرية من الناحيتين المفهومية والمصداقية. إن المفهوم القديم للعدالة التوزيعية يقوم على سلسلة تراتبية ـ أو «طبيعية» ـ للمجتمع الذي يحتلّ فيه كلّ واحد من الأفراد مرتبة معيّنة، والعدالة في الحقيقة تعني التناسب بين الحياة الواقعية والمنزلة «الطبيعية» للأفراد والطبقات الاجتماعية. في حين أن العدالة الاجتماعية مفهومٌ جديد، وإن فرضيته الأولى عبارة عن مساواة جميع أفراد المجتمع أو تصوّر أفراد المجتمع بحيث لا يكون فيه أيّ ارتباطٍ طبيعي أو سلسلة مراتب بين الأفراد الذين يتكوَّن منهم المجتمع. وعلى هذه الأساس لا يمكن إطلاق مفهوم العدالة الاجتماعية على المجتمعات التقليدية ذات التركيبة القبلية والطبيعية. لو أمكن في مجتمع تقليدي أن يكون للعدالة التوزيعية مضمون محدّد بشكلٍ وآخر قائم على المعايير المنبثقة عن التراث فإن هذا الأمر غير ممكن بالنسبة إلى المجتمع الحديث، وفي خصوص مفهوم العدالة الاجتماعية؛ إذ لا مكان للتراث في هذا المفهوم من العدالة.

إن العدالة الاجتماعية ناظرةٌ إلى التوزيع «العادل» للإمكانات والثروة بين الأفراد الذين يتمتَّعون ـ طبقاً للتعريف ـ بحقوق متساوية. والسؤال هنا: ما هو المعيار الموجود للعدالة في التوزيع؟ من الواضح أن التقسيم المتساوي بين جميع الأفراد لا يمثِّل حلاًّ؛ وذلك لاختلاف الأفراد في الكفاءة والقوّة والسعي والذوق والمزاج والحاجة وما إلى ذلك. وفي مثل هذه الأوضاع فإن العدالة تستلزم معرفة التفاصيل المرتبطة بخصائص وصفات جميع الأفراد. ومن الواضح أن جمع معلوماتٍ من هذا القبيل في المجتمعات الميليونة الكبيرة الراهنة أمرٌ مستحيل بكلّ ما للكلمة من معنىً. ولو افترضنا جَدَلاً إمكانية جمع مثل هذه المعلومات فإننا مع ذلك سنواجه معضلة مستعصية تتمثَّل في معيار العدالة التي تحظى بقبول الجميع؛ إذ قد يكون لدى كلّ شخص ـ استناداً إلى منهجه الفكري ومنظومته القِيَمية والأخلاقية ومزاجه الخاصّ ـ معياره الخاصّ المختلف عن الآخر. ومن هنا فإن مفهوم العدالة الاجتماعية، على الرغم من التصوُّر العام، مفهومٌ ذهني وعائم للغاية، بحيث لا يمكن أن نرى له مضموناً خارجياً ومحدّداً. ومن ذلك، على سبيل المثال: يقال في الغالب: إن العدالة الاجتماعية تستلزم تقليص شرخ الدَّخل بين الأفراد والطبقات الاجتماعية، ولكنْ لا أحد يعمل على بيان المقدار والحجم المطلوب في هذا التقليص. والمسألة الهامّة الأخرى هي أن آليات توزيع الأرباح والثروات ليست مستقلّة عن نظام إنتاج الثروة، وفي أغلب الموارد تترك سياسات التوزيع المجدّد للدخل تأثيراً تقليلياً على مسار إنتاج الثروة. وبذلك ينتقض الهدف من التوزيع العادل، أي ارتفاع الحصص القليلة من المداخيل؛ بسبب انخفاض مستوى إنتاج الثروة على المستوى العملي.

بشيريه: رُبَما أمكن القول: إن مفاهيم النموذجين الرئيسين الحاكمين والمهيمنين على التفكير والفلسفة السياسية على طول التاريخ قد تركت بظلالها على مسألة العدالة أيضاً. عندما يتمّ اعتبار الظواهر الاجتماعية والدولة ـ على طبق النماذج الطبيعية ـ مجسّدة وتابعة لنظم طبيعي وتكاملي فإن مفهوم العدالة إنما يكتسب معناه في تطبيقه على هذه المنظومة. ففي هذا النموذج، في الأفكار الأصلية لقدماء الإغريق ـ على سبيل المثال ـ، حيث يكون النظم «الطبيعي» عادلاً، فإن العدالة إنما تكتسب معناها ومفهومها بوصفها صفةً لعمل فرديّ، من قبيل: عمل الحاكم أو القاضي. إن الفلاسفة ـ من وجهة نظر أفلاطون ـ سوف يقومون بعملٍ عادل؛ لأنهم يقدِّرون النَّظْم والتوزيع الطبيعي للطاقات والقابليات بين الطبقات.

وفي مقابل ذلك الحاكمُ الظالم في الحكومات الطاغوتية؛ لأنه يعمل على إشاعة الفوضى والخراب، ويقضي على الحالة الطبيعية، أو في الحكومات الديمقراطية، حيث تقع مقاليد المجتمع بيد الجهّال. وأما في النموذج الميكانيكي، أي عندما تكون الدولة والمؤسّسات السياسية آلية ونتاج التأسيس والوضع، فسوف يتغيَّر معنى العدالة، ويتَّجه بحث العدالة إلى الوضعيات. والآن يمكن السؤال: هل المجتمع عادلٌ أم لا؟ وهنا حيث نقول: إن المؤسّسات الاجتماعية وضعية يمكن لنا أن نتساءل: هل تمّ تأسيسها بشكلٍ جيّد، أو هل يمكن تأسيسها بشكلٍ أفضل؟

_ نعلم أنه طبقاً لرؤية فلاسفة اليونان، من أمثال: أفلاطون وأرسطو، كان العالم يقع ضمن منظومة هندسية، وكانت عدالة وعدم عدالة كلّ شيء رهناً بموضعه في تلك المنظومة الهندسية. ومن هنا كانوا يفسِّرون العدالة بأنها وضع كلّ شيء في موضعه. وفي المرحلة الجديدة تمّ تقويض هذه الرؤية، ودخلنا في وضعٍ جديد. فكيف يتم تصوُّر العدالة في هذه الحالة؟

بشيريه: في هذه الوضعية ـ بغضّ النظر عن النظريات المختلفة في العصر الجديد ـ تُعَدّ العدالة منظومة اجتماعية وأخلاقية يمكن العمل على تأسيسها. وبعبارةٍ راديكالية: لا تفهم العدالة في عدم المساواة الطبيعية، بل في المساواة على المستوى المقدور. وإن ذات مفهوم العقد الاجتماعي في العصر الجديد ـ كما سبق أن أوضحتُ ـ يمثِّل شرطاً أوّلياً للعدالة بمعنىً من المعاني. إن العمل بالعقد الاجتماعي وجميع تَبِعاته في مورد إيجاد المحدوديات أو عرض الإمكانات عادلٌ. وفي عصر التنوير والرقيّ ظهر تصوّر للمجتمع الأفضل والعقد الاجتماعي، وقد ذهب الظنّ إلى إمكانية تطبيقه من الناحية العملية. فقد ذهب التصوُّر إلى أن بمقدور الإنسان التغلّب على الطبيعة، وأن يعمل ـ من خلال مفاهيم من قبيل: العقد الاجتماعي والحرّية والمساواة، ممّا كان يُعَدّ من عناصر المجتمع المتجدِّد ـ على تأسيس مجتمعٍ عادل. وعلى أيّ حال فالمسألة هي أن العدالة لم تَعُدْ مفهوماً طبيعياً، بل هي مفهومٌ متحوِّل. حيثما يكون النموذج السياسي طبيعياً فإن بحث العدالة بدَوْره سوف يصبح بحثاً غير تأسيسي. كما أن النَّظْم التلقائي في نظرية هايك يشتمل على مثل هذه النتيجة أيضاً، فهو يقول: لا يمكن القول بشأن المجتمع والوضعيات: إنها عادلة أم لا؛ لأن الوضعيات ليست حصيلة العمل الواعي للإنسان، وإنما يمكن وصف العمل بأنه عادل أو غير عادل إذا كان واعياً.

السياسة ودورها في تحوّلات العدالة

_ كيف تقيِّمون دَوْر الأفكار السياسية في جعل مفهوم العدالة متحوِّلاً؟ ففي الأفكار السياسية القديمة، السابقة لـ (ميكافيلي)([11])، كانت العدالة تلعب دَوْراً محورياً، وأما في المرحلة الجديدة فأصبح الدَّوْر المحوري من نصيب القوّة والسلطة، بمعنى أنك إذا انتهجت العدالة فسوف تفقد السلطة. فهل تشاهد تحوُّلاً في هذا الشأن؟

بشيريه: في تاريخ التفكير السياسي ظهرت تصوُّرات متنوِّعة بشأن ماهية وآلية العمل الخاصة بالسياسة. وفي الأفكار السياسية الخاصّة بالمرحلة الإغريقية كان هناك فهمٌ أخلاقي للسياسة. إن السياسة وسيلة لجعل الحياة أخلاقية، وكانت السياسة تُعَدّ حدّاً وَسَطاً بين الفضيلة والعدالة. وعلى هذا الأساس فإن بحث العدالة يقع في صلب الفهم الأخلاقي للسياسة. وفي مرحلةٍ أخرى في الغرب، في التفكير السياسي الرومي شاع فهمٌ حقوقي عن السياسة، وكان البحث الأصلي يدور حول كيفية بيان حدود وظائف ومسؤوليات وحقوق الإمبراطور والكنيسة تجاه بعضهما البعض. إن بحث العدالة هنا جزئيٌّ، ويقتصر على رعاية قوانين الكنيسة التي تمثِّل الدين. وكما سبق أن ذكرنا إن الفكر السياسي في العصور الوسطى لم يقِفْ عند ذلك الحدّ، وبعد تأزُّم العلاقة بين الكنيسة والدولة ظهر الاعتماد على الناس بوصفهم ركيزةً ثالثة، ومن خلال هذا الاعتماد تبلور البحث عن الحقوق الطبيعية للناس ورعاية هذه الحقوق من قِبَل الحكام. وبالتالي فإننا نرى أن عنصر العدالة ليس غائباً تماماً.

في المرحلة الثالثة من تحوُّل التفكير السياسي أضحَتْ الغلبة لفهمٍ إداري عن السياسة. فمنذ عصر ميكافيلي أصبحت السياسة تُفْهَم بوصفها وسيلة لحسن إدارة المجتمع والحفاظ على السلطة السياسية، وتحوَّلت السياسة إلى علم النجاح. إن قبطان سفينة السياسة لا يحتاج إلى أخلاق؛ لأنه لا يبحر باتجاه ساحل الفضيلة، وإنما ينحصر كلُّ هَمِّه بإيصال ركاب السفينة إلى المرفأ سالمين، بعد إنقاذهم من العواصف والموجات العاتية. وعليه فإن السياسة ـ طبقاً لهذا الفهم ـ تنفصل عن الأخلاق. أو في الحقيقة إن الكلام هنا يدور حول نوعين من الأخلاق، وهما: الأخلاق العامة؛ والأخلاق السياسية. ومع تحوُّل السياسة إلى سياسة لا أخلاقية لا يبقى هناك ـ بطبيعة الحال ـ موضعٌ للبحث عن العدالة.

وفي المرحلة الجديدة شاع فهمٌ علميّ عن السياسة، وأخذ العلم في المفهوم الجديد يؤكِّد على فصل الأخلاق عن الواقع. وإن ردود الأفعال التي ظهرت في المراحل المتأخِّرة تجاه المدارس العلمية، ولا سيَّما الوضعية منها ـ وخاصّة في الآراء النقدية ـ، كانت تؤكِّد على العلاقة بين السياسة والأخلاق مجدّداً. وبالتالي فقد ظهر بحث العدالة مجدّداً في الأفكار السياسية على نحوٍ أكثر تعقيداً. وقد سبق لنا أن أشرنا إلى هذه المسألة في تحوُّل مفهوم العدالة.

الدين والموقف من تعارض العدالة والحرّية

_ هل تعمل كلٌّ من: العدالة والحرّية على تهديد أو تحديد بعضهما أم لا؟ فإنْ كان الجواب بالإيجاب، فما هو موقف الدين في موارد التعارض بين العدالة والحرّية؟ هل يتّخذ الدين من العدالة أساساً للفصل بين الحرّية والتهتُّك؟ وهل ينكر الحرّية المعارضة للعدالة؟ وبعبارةٍ أخرى: ألا ينظر الدين إلى «الحرّية الظالمة» بوصفها مفهوماً متهافت الأجزاء؟([12]).

بشيريه: يبدو أن العدالة والحرّية والمساواة تشكِّل مثلَّث فلسفة الأخلاق السياسية. وأرى أن هناك ـ بناءً على الاستدلال المتقدِّم ـ علاقة جوهرية بين هذه المفاهيم الثلاثة، وأن كلّ واحد منها يكمل الآخر، وكلّها تعتبر لازمة وملزومة لبعضها. فإن العدالة بمعزل عن الحرّية ـ كما سبق أن ذكرنا ـ تؤدّي إلى العدالة الأحادية. هناك بين العدالة والحرّية ـ بكلا مفهومَيْها: الإيجابي؛ والسلبي ـ علاقة جوهرية. إن الحرّية السلبية بمعنى الفراغ من الإرادة الاعتباطية للآخر، بالمفهوم الكلّي والشرط الجوهري للعدالة، أي المشاركة في تعريف أصول العدالة؛ والحرّية الإيجابية تعني المشاركة في تحديد المصير والحضور في ميادين النشاط السياسي الحرّ والمتكافئ على ذلك الشرط المذكور أيضاً. إن شرط تحقّق الحرّية بجميع معانيها يكمن في الاستفادة من الإمكانات اللازمة لتطبيقها. إن التوزيع غير المتكافئ للإمكانات، وعدم المساواة بشكلٍ عامّ، يضرّ بالتفكير الحرّ وإمكانية تطبيقه. عندما ننظر إلى مقولاتٍ من قبيل: العدالة والحرّية والمساواة بشكلٍ انتزاعيّ سوف نرى بعض التناقضات. وأما إذا نظرنا إليها بما هي منضمّة إلى بعضها فلن نجد هناك تعارضاً أبداً. إن ما ذكرناه بشأن طريقة الوصول إلى أصول العدالة كان يتضمَّن في حدّ ذاته مقولة الحرّية والمساواة (بمعنى التوجيه العقلاني لعدم المساواة التي لا يمكن إلغاؤها). وهذا في الحقيقة يمثِّل خلاصة مجموع بحثنا.

غني نجاد: في التفكير الحديث لا يشكِّل كلٌّ من: مفهوم العدالة والحرّية تهديداً أو تحديداً للآخر، بل هناك ـ على العكس من ذلك ـ نوعٌ من التلازم بينهما، بحيث لا يمكن تصوُّر أحدهما دون تصوُّر الآخر. وفي إطار المعرفة والأبستيمولوجيا الحديثة نجد العدالة ناظرةً بشكلٍ منطقي إلى الأفعال الإنسانية. إن المعيار في الأفعال العادلة وغير العادلة هو القواعد العامّة والقوانين الشاملة الناظرة إلى حفظ الحقوق الأساسية للإنسان. وبطبيعة الحال إنما يمكن إخضاع فعلٍ أو عمل للحكم من زاوية العدالة إذا كان ذلك الفعل أو العمل ناشئاً من الاختيار الواعي (والقرار المسؤول). ومن هنا لا يمكن إخضاع أفعال المجانين ـ على الرغم من الآثار الكارثية أو النتائج الإيجابية المترتّبة عليها ـ والحكم عليها من ناحية العدالة أو الأخلاق. وعليه لا بُدَّ من التأكيد على هذه النقطة، وهي أن المراد من العمل الإنساني في التفكير الحديث هو الانتخاب أو القرار الواعي، وليس كلّ فعل يصدر عن الإنسان في جميع الظروف والحالات. وأما إذا التفتنا إلى أن الحرّية في معناها الجديد عبارة عن الاختيار والعمل المستقلّ عن الإرادة المفروضة من قِبَل الآخرين فسوف نقف على العلاقة الوثيقة والوطيدة بين الحرّية والعدالة. إن الحرّية ـ بمعنى الاختيار والانتخاب المنفصل عن جميع أنواع الإرادة المفروضة ـ لا تُعَدّ شرطاً ضرورياً لتحقُّق الأفعال العادلة فحَسْب، بل هي من ناحيةٍ أخرى نتيجةٌ لرعاية قواعد السلوك العادل أيضاً. إن حرّية الاختيار إنما تكون موجودةً إذا كان النَّظْم الاجتماعي بين الناس ناشئاً من مراعاة القواعد السلوكية العامة، وليس نتيجةً لاتباع إرادة أو إرادات خاصّة (العلاقات الاستبدادية). وبذلك نلاحظ أن القواعد السلوكية أو القوانين الشاملة تمثِّل في الحقيقة والواقع الفصل المشترك بين العدالة والحرّية.

إن الذي أدّى ويؤدّي إلى سوء التفاهم في خصوص المعنى الجديد للحرّية [أي الحرّية السياسية، وحرّية الانتخاب]، وعلاقة هذه الحرّية بالعدالة، هو التصوُّر الخاطئ عن الحرّية، والذي يراه مساوقاً للإرادة الحرّة والمتحرِّرة من جميع القيود والكوابح.

إن الحرّية في التفكير الحديث ناظرةٌ في الأساس إلى الحياة السياسية للناس، ولا ربط لها بالبحث الفلسفي الضارب في القِدَم والمتمثِّل بالجبر والاختيار. إن الحرّية السياسية لا تعني التحرُّر من جميع القيود أو التهتُّك والانفلات، بل إنها ـ على العكس من ذلك ـ تعني حصر العمل الإنساني ضمن إطار القواعد العامة والشاملة، وتنظيم العلاقات بين الناس والحياة الاجتماعية من هذه الناحية. إن الحرّية هنا تعني العصمة من فرض الإرادة أو الإرادات الشخصية، وإن الطريق الوحيد للوصول إلى هذه الغاية عبارة عن تقيُّد أفعال الإنسان بالقوانين العامة. يُقال في الغالب: إن القانون يعيِّن حدود الحرّية. ولكنْ رُبَما كان الأصحّ والأدقّ هو أن نقول: إن الحرّية قائمة على حكم القانون، أو بعبارةٍ أخرى: إن حكومة القانون تمثِّل شرط تحقُّق الحرّية. إن القانون يوفِّر محمية للحقوق الإنسانية، وإن حرّية الاختيار في الحقيقة تمثِّل حرّية العمل الإنساني في مثل هذه المساحة في المجتمع المدني. من خلال هذا التفصيل يتّضح أن الحرّية إنما يكتب لها التحقُّق في مجتمعٍ إذا تمّ تنظيم إدارة الأمور والعلاقات الاجتماعية فيه بين الناس من خلال القواعد العامّة والشاملة، وليس من قِبَل رأي غير محدود يصدره الحاكم أو الدساتير الديوانية. وإن السلوك العادل (والأعمال المتطابقة مع القواعد العامة والكلية) تقرِّب الناس من الحرّية أكثر. ومن هنا لا يمكن للحرّية أن تعارض العدالة؛ لأن كل عملٍ «حُرّ» مغاير للسلوك العادل سوف يكون في الحقيقة والواقع نافياً للحرّية ذاتها.

الهوامش

(*) من كبار علماء الاقتصاد في إيران، وعضو الهيئة العلميّة في جامعة «صنعت نفت». له أعمالٌ بحثيّةٌ عديدة.

(**) أستاذٌ جامعيّ، وعالمُ اجتماعٍ، وباحثٌ في العلوم السياسيّة. شخصيّةٌ مهمّةٌ جدّاً في الفكر السياسيّ ما بعد الثورة.

([1]) جون لوك (1632 ـ 1704م): فيلسوف وطبيب تجريبي، ومفكِّر سياسي إنجليزي. تولّى العديد من المناصب الحكومية. المعرِّب.

([2]) أفلاطون أو أرستوكليس بن أرستون (427 ـ 347ق.م): فيلسوف يوناني كلاسيكي. يعتبر مؤسّساً لأكاديمية أثينا، التي كانت أول معهد للتعليم العالي في العالم الغربي. وقد وضع الأسس الأولى للفلسفة الغربية والعلوم. وقد ظهر نبوغ أفلاطون وأسلوبه ككاتبٍ واضحاً في محاوراته السقراطية، التي تناول فيها مواضيع فلسفية مختلفة، من قبيل: نظريّة المعرفة، والمنطق، واللغة، والرياضيات، والميتافيزيقا، والأخلاق، والسياسة. المعرِّب.

([3]) أرسطو أو أرسطوطاليس (384 ـ 322ق.م): فيلسوفٌ يوناني. تلميذ إفلاطون ومعلِّم الإسكندر الأكبر. أحد عظماء المفكِّرين. تغطّي كتاباته مجالات عدّة، منها: الفيزياء والميتافيزيقا والشعر والمسرح والموسيقى والمنطق والبلاغة واللغويات والسياسة والحكومة والأخلاقيات وعلم الأحياء وعلم الحيوان. وهو أحد أهمّ مؤسّسي الفلسفة الغربية. المعرِّب.

([4]) فريدريش فون هايك (1899 ـ 1992م): عالم اقتصاد ومنظِّر سياسي نمساوي ـ بريطاني. اشتهر بدفاعه عن الليبرالية الكلاسيكية والرأسمالية القائمة على أساس السوق الحرّ، ونقده للفكر الاشتراكي والجماعي خلال أواسط القرن العشرين. المعرِّب.

([5]) ديفيد هيوم (1711 ـ 1779م): فيلسوف واقتصادي ومؤرِّخ اسكُتْلَندي. يعتبر شخصيّة هامة في الفلسفة الغربية وتاريخ التنوير الاسكُتْلَندي. المعرِّب.

([6]) توماس هوبز (1588 ـ 1679م): أحد أكبر فلاسفة القرن السابع عشر الميلادي في إنجلترا، وأكثرهم شهرة، ولا سيَّما في المجال القانوني؛ إذ كان ـ بالإضافة إلى اشتغاله بالفلسفة والأخلاق والتاريخ ـ فقيهاً قانونياً، كما عُرف بمساهمته في التأسيس للكثير من المفاهيم التي لعبت دَوْراً كبيراً على مستوى الفعل والتطبيق، وعلى رأسها مفهوم العقد الاجتماعي. المعرِّب.

([7]) جون رولس (1921 ـ 2002م): فيلسوفٌ أخلاقي وسياسي أمريكي. من منظِّري ومؤسِّس الليبرالية الاجتماعية، حيث اهتمّ بالعدالة الاجتماعية. من أعماله: (العدالة كإنصاف)، و(قانون الجماعات البشرية). المعرِّب.

([8]) يورغن هابرماس (1929 ـ …م): فيلسوف وعالم اجتماع ألمانيّ معاصر. يُعَدّ من أهمّ منظِّري مدرسة فرانكفورت النقدية، وهو صاحب نظرية الفعل التواصلي. المعرِّب.

([9]) جورج فيلهلم فريدريتش هيجل (1770 ـ 1831م): فيلسوفٌ ألماني. يعتبر أحد أهمّ الفلاسفة الألمان؛ إذ يعتبر مؤسّس المثالية الألمانية في الفلسفة في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي. طوّر المنهج الجَدَلي الذي أثبت من خلاله أن مسار التاريخ والأفكار يتمّ من خلال الطريحة والنقيضة، ثم التوليف بينهما. وكان لفلسفة هيجل أثرٌ عميق في معظم الفلسفات المعاصرة. المعرِّب.

([10]) كارل هانريك ماركس (1818 ـ 1883م): فيلسوفٌ واقتصادي وعالم اجتماع ومؤرِّخ وصحفي واشتراكي ثوري ألماني. لعبت أفكاره دَوْراً هامّاً في تأسيس علم الاجتماع وفي تطوير الحركات الاشتراكية. له العديد من الكتب، ومن أهمها: (بيان الحزب الشيوعي)، و(رأس المال). المعرِّب.

([11]) نيقولاي ميكافيلي (1469 ـ 1527م): مفكِّر وفيلسوف وسياسي إيطالي في فترة عصر النهضة. عُرِف بوصفه مؤسّساً للتنظير السياسي الواقعي، الذي أصبح لاحقاً عَصَب دراسات العلم السياسي. أشهر كتبه على الإطلاق كتاب (الأمير)، الذي هدف فيه إلى إثبات أن ما هو مفيدٌ فهو ضروري، وكان ذلك منه صورة مبكّرة للنفعية الواقعية السياسية. المعرِّب.

([12]) paradoxical.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً