أحدث المقالات

الشيخ علي نذر(*)

مقدّمةٌ

اختلف المسلمون بجميع طوائفهم في ذبيحة أهل الكتاب؛ فذهب مشهور فقهاء الشيعة إلى عدم إجازتها؛ ووافقهم على ذلك الحنابلة والشافعية في المجوس، وكرهوا في اليهود والنصارى؛ وذهب الحنفية والمالكية إلى إباحة ذبائح أهل الكتاب، وإنْ لم يذكروا اسم الله عليها([1]).

وبمرور الزمن، بدأت وجهة النظر المخالفة للمشهور ـ والتي ترى حلِّية ذبائح أهل الكتاب إذا أُحرزَتْ تسميتُهم على الذبيحة ـ تحضر ولو على مستوى البحث الفقهي غير الفتوائي، وصولاً إلى عصرنا الحاضر؛ حيث ذهب إلى الحلِّية بعض العلماء، ومن أبرزهم: الشيخ محمد جواد مغنيّة، والسيد محمد محمد صادق الصدر في كتابه ما وراء الفقه، والسيد محمد حسين فضل الله، والسيد تقي القمّي، والشيخ محمد هادي معرفة، والشيخ محمد إبراهيم الجنّاتي، والسيد كمال الحيدري، وغيرهم.

واحتاط وجوباً ـ ولم يُفْتِ ـ عددٌ من الفقهاء، منهم: السيد محمد باقر الصدر، والسيد محمود الهاشمي، والسيد علي السيستاني، والسيد محمد صادق الروحاني (في بعض كتبه الفتوائيّة)، والسيد محمد تقي المدرّسي، مع قبوله بالحلِّية في حال الحَرَج.

وتعتبر هذه المسألة من القضايا التي اختلفت فيها الروايات بشدّةٍ، واستوجبَتْ ذكر سلسلةٍ من الحلول، كان السائد منها: حمل روايات الترخيص في ذبيحة أهل الكتاب على التقيّة، في حين كان يمكن أن تكون هناك حلولٌ أخرى أكثر انسجاماً مع القرآن. وقد جرى البحث في أدلة اشتراط إسلام الذابح لتذكية الذبيحة وفق التسلسل التالي:

أوّلاً: أقوال الفقهاء، عرضٌ تاريخيّ.

ثانياً: : الشواهد القرآنيّة ودلالاتها.

ثالثاً: الأدلّة الروائيّة، تصنيفاً وتحليلاً.

رابعاً: تقديم المقاربات للحلّ، ومعالجة بعض الإشكاليّات.

خامساً: إجزاء التسمية بالمسيح.

سادساً: خاتمة البحث، مع تلخيص ما تمّ التوصُّل إليه.

أوّلاً: أقوال الفقهاء، عرضٌ تاريخيّ

اختلفت آراء فقهاء الشيعة في شرطيّة إسلام الذابح لإحراز التذكية في الذبيحة كما يلي:

1ـ اشتراط الإسلام مطلقاً

وهو الرأي المشهور. ذهب الشيخ المفيد([2])، والشيخ الطوسي([3])، والسيد المرتضى([4])، وسلاّر([5])، والشهيد الأوّل([6])، والمحقق الأردبيلي([7])، والمحقق السبزواري([8])، والفيض الكاشاني([9])، وغيرهم([10])، إلى اشتراط الإسلام، فحرَّموا ذبائح الكفّار مطلقاً، سواء كانوا أهل ملّةٍ ـ كاليهود والنصارى والمجوس ـ أو لا ـ كعُبّاد الأوثان والنيران وغيرهما ـ، ومعهم الناصبي، واستثنى بعضٌ ـ كابن إدريس الحلّي ـ المستضعف، حيث جوَّز أن يتولى الذباحة المؤمن والمستضعف، الذي لا منّا ولا من مخالفينا([11]).

2ـ كفاية التسمية من أهل الكتاب

فقد ذهب بعض الفقهاء إلى حلّية ذبائح الفرق الثلاثة لأهل الكتاب إذا سمع تسميتهم. وهو مختارُ الشيخ الصدوق في المقنع، حيث قال: «ولا تأكل ذبيحة مَنْ ليس على دينك في الإسلام، ولا تأكل ذبيحة اليهودي والنصارى والمجوسي، إلاّ أن تسمعهم يذكرون اسم الله عزَّ وجلَّ عليها، فإذا ذكروا اسم الله عزَّ وجلَّ عليها فلا بأس بأكلها؛ فإن الله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ﴾، واعتمده العلاّمة الحلّي أيضاً، حيث قال: «والمعتمد جواز أكل ذبيحتهم إذا اعتقدوا وجوب التسمية»([12]).

3ـ إباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقاً

 نسب العلاّمة الحلّي إلى ابن أبي عقيل([13]) إباحة ذبائح أهل الكتاب، دون المجوسي، وإنْ لم يذكروا اسم الله عليها، «وظاهر كلامه يشمل الحربيّ والذمّي»([14])، إلاّ أن ابن الجنيد أدخل المجوسي، ووافقه على ذلك الشهيد الثاني([15])، مع أنه احتاط بفتواه([16])، وأيضاً المحقق النراقي([17]). وكذا أضاف أبو الصلاح ـ إلى ذبيحة الكافر ـ ذبيحة جاحد النصّ([18]). أما الفيض الكاشاني فبقي مردّداً بين الرأي الثاني والثالث([19]).

وبناءً على هذا الاختلاف لا بُدَّ للباحث من تتبُّع الآيات والروايات ذات الدلالة؛ للبحث فيها، ومناقشتها، ومعرفة مَدَياتها.

ثانياً: الشواهد القرآنيّة ودلالاتها

والآيات الواردة في المقام هي:

1ـ آيات المحرَّم من اللحوم

1ـ ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ (المائدة: 3).

2ـ ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (النحل: 115).

3ـ ﴿قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (الأنعام: 145).

4ـ ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيم﴾ (البقرة: 173).

وكما هو واضحٌ لا إشارة في هذه الآيات الأربع إلى شرط إسلام الذابح، بل يمكن القول: إنه يمكن استفادة عكس ذلك، وهو عدم شرطية إسلام الذابح، لو قلنا باستفادة الحَصْر من مجموع الآيات الواردة، كما استفاد السيد الطباطبائي، حيث قال: «وكلُّها كما ترى ـ على اختلافٍ ما في لفظها ـ واقعةٌ في أربعة مواضع من القرآن، في سورتي الأنعام والنحل، وهما مكِّيتان، من أوائل ما نزلت بمكّة وأواخرها، وفي سورتي البقرة والمائدة، وهما من أوائل ما نزلت بالمدينة وأواخرها، وهي تدلّ على حصر محرّمات الأكل في الأربعة المذكورة: الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، كما نبَّه عليه بعضهم»([20]).

2ـ آيات بيان شروط حلِّية الطعام

﴿فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآَيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ * وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ *…* وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ (الأنعام: 118 ـ 121).

يشير سياق الآيات إلى أن الحدّ بين جواز الأكل وعدمه هو ذكر اسم الله عليها. ووفق ذلك يقول العلاّمة الطباطبائي: «فكلوا ممّا ذكر اسم الله عليه، ولا تأكلوا ممّا لم يُذْكَر اسمُ الله عليه، أي فرِّقوا بين المذكّى والميتة، فكلوا من هذه، ولا تأكلوا من ذاك… قوله تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ…إلى آخر الآية﴾ بيانٌ تفصيلي لإجمال التفريع الذي في الآية السابقة، والمعنى أن الله فصَّل لكم ما حرَّم عليكم، واستثنى صورة الاضطرار، وليس في ما فصَّل لكم ما ذُكر اسم الله عليه، فلا بأس بأكله…([21]).

وعلى هذا، فإنه، ومع القول بإطلاق هذه الآيات، يُستفاد أيضاً تذكية الذبيحة على يد المسلم أو الكافر، بشرط التسمية.

 

3ـ آية حلِّية طعام أهل الكتاب

 ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (المائدة: 5).

ويوجد في قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ﴾ احتمالات عديدة، أوردها الفقهاء والمفسِّرون. ولكثرتها قال العلاّمة الطّبطبائي: «اعلم أن للمفسِّرين في هذه الآية خوضاً عظيماً…» ([22]). وعلى هذا سنقتصر على أبرز الآراء المذكورة في المقام:

الرأي الأوّل: اعتبر بعضٌ أن المراد بأهل الكتاب في الآية هم الذين آمنوا بالإسلام ممَّن كانوا يهوداً أو نصارى، وإنما أطلق عليهم اسم (أهل الكتاب) باعتبار صفتهم السابقة، كما يطلق المشتقّ على ما انقضى عنه المبدأ. وقد نقل الشيخ المفيد هذا الرأي في كتابه تحريم ذبائح أهل الكتاب، حيث قال: «ذهب جماعةٌ من أصحابنا إلى أن المعنى في هذه الآية من أهل الكتاب مَنْ أسلم منهم وانتقل إلى الإيمان، دون مَنْ أقام على الكفر والضلال؛ وذلك أن المسلمين تجنَّبوا ذبائحهم بعد الإسلام، كما كانوا يتجنَّبونها قبله، فأخبرهم الله تعالى بإباحتها؛ لتغيُّر أحوالهم عما كانت عليه من الضلال». ثمّ ذكر ردَّهم على إشكالٍ مقدَّر، حيث «قالوا: وليس بمنكَرٍ أن يسمِّيهم الله أهل كتابٍ وإنْ دانوا بالإسلام، كما سمّى أمثالهم من المنتقلين عن الذمّة إلى الإسلام، حيث يقول: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [آل عمران: 199]، فأضافهم بالنسبة إلى الكتاب وإنْ كانوا على ملّة الإسلام، فهكذا تسمى مَنْ أباح ذبيحته من المنتقلين عمّا لزمه، وإنْ كانوا على الحقيقة من أهل الإيمان والإسلام»([23]).

ويَرِدُ عليه:

أوّلاً: إن هذا لا ينسجم مع اللحن الامتناني للآية، حيث إنها تخاطب المسلمين بتصدير قوله: «اليوم»؛ للدلالة على الامتنان منه تعالى على المؤمنين بإحلال طعام أهل الكتاب والمحصنات من نسائهم للمؤمنين([24]). فأين المنّة إنْ كانوا مسلمين أصلاً؟!

ثانياً: إن الأصل أن يحمل اللفظ على معناه الحقيقي، إلاّ مع وجود قرينةٍ على خلاف ذلك، فأين القرينيّة؟! وما ذُكر من حمل لفظ أهل الكتاب على صفتهم السابقة في الآية الأخرى غير مسلَّمٍ به.

الرأي الثاني: اعتبر كثيرٌ من الفقهاء أن المراد بالطعام المذكور في الآية هو خصوص الحبوب من المزروعات، دون اللحوم من الحيوانات. وهذا واردٌ في بعض الأحاديث([25])، كما سيأتي. وقد قال ابن زهرة الحلبي، في غنية النزوع: «لا يعارض ما ذكرناه قوله تعالى: ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ﴾؛ لأن لفظ الطعام إذا أُطلق انصرف إلى الحنطة»([26]). وذكر الشيخ الجواهري أيضاً مثل ذلك، فقال: «كما أنه لا ينبغي الإصغاء للاستدلال على الطهارة أيضاً بقوله تعالى: ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ﴾، بعد ورود الأخبار المعتبرة، وفيها الصحيح والموثَّق وغيرهما، بإرادة العدس والحبوب والبقول من الطعام، سيَّما مع تأييدها بما عن المصباح المنير أنه «إذا أطلق أهل الحجاز الطعام عنَوْا به البرّ خاصّة»، وما عن المغرب من «أن الطعام اسمٌ لما يُؤكَل، وقد غلب على البرّ»، بل عن ابن الأثير، عن الخليل: «إن الغالب في كلام العرب أنه البرّ خاصّة»، إلى غير ذلك ممّا حُكي عنهم، ممّا يقتضي اختصاصه بالبرّ([27]). وبذلك قال غيرهما أيضاً([28]).

التحقيق في معنى الآية

أـ في معنى «اليوم»

اختلف المفسِّرون في المراد بكلمة «اليوم» الواردة في هذه الآية؛ فذهب بعضهم إلى القول بأنه يوم «عرفة»؛ وذهب آخرون إلى أن المراد هو اليوم الذي تلا فتح خيبر، ولا يبعد أن يكون هو نفس «يوم غدير خمّ»، الذي تحقَّق فيه النصر الكامل للمسلمين على الكفّار.

لكنْ بتتبُّع استعمال لفظ اليوم في القرآن يمكن ملاحظة عددٍ من المعاني المستعملة في الآيات: اليوم الطبيعي/ 24 ساعة، أو يوم القيامة؛ أو إيذان ببدء مرحلة جديدة. ويظهر أن المقصود هنا هو بدء مرحلةٍ جديدة، كأنْ يُقال: من الآن فصاعداً، يعني من اليوم بدأت مرحلةٌ جديدة. وليس المقصود بذلك هو الـ 24 ساعة، وإنما المراد هو انتهاء مرحلةٍ وابتداء مرحلةٍ جديدة، لها أحكامها، ولها خصائصها، من قبيل: قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ… الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾، وكلّها على نفس النسق، فسواء كان يوم ذي الحجّة أو عرفة المقصود هو أنه أيّها المسلمون أو المؤمنون قد بدأت مرحلةٌ جديدة، لها أحكام جديدة([29]).

ب ـ سبب بدء مرحلةٍ جديدة

لا بُدَّ أن شيئاً قد حدث حتّى امتنّ الله على المسلمين بإحلال طعام أهل الكتاب والمحصنات من نسائهم، وقد يمكن القول بأن الآية نزلت في ظرفٍ قد صار فيه للإسلام السلطة الكاملة على شبه الجزيرة العربية، وقد أثبت الإسلام وجوده في كلّ الساحات والميادين على طول هذه الجزيرة وعَرْضها، بحيث إن أعداء الإسلام قد تملَّكهم اليأس التامّ؛ لعجزهم عن دَحْر المسلمين، ولذلك اقتضَتْ الضرورة ـ في مثل هذا الظرف المناسب للمسلمين ـ أن تُرْفَع القيود والحدود التي كانت مفروضةً قبل هذا في مجال مخالطة المسلمين لغيرهم، حيث كانت هذه القيود تحول دون تزاور المسلمين مع الغير. لذلك نزلت هذه الآية الكريمة، وأعلنَتْ تخفيف قيود التعامل والمعاشرة مع أهل الكتاب، بعد أن ترسَّخَتْ قواعد وأسس الحكومة الإسلامية، ولم يعُدْ هناك ما يُخشى منه من جانب غير المسلمين، فسمحَتْ الآية بالتزاور بين المسلمين وغيرهم، وأحلَّتْ طعام بعضهم لبعضٍ، كما أحلَّت التزواج فيها بينهم([30]). وهذا كان مفاجئاً للمسلمين، فعلى قدر ما كان هناك ارتيابٌ قبل اليوم في المسألة ضمّ الله قوله: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ﴾ إلى قوله: ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ… الآية﴾، وهي من قبيل: ضم المقطوع به إلى المشكوك فيه؛ لإيجاد الطمأنينة في نفس المخاطب، وإزالة ما فيه من القلق والاضطراب، كقول السيّد لخادمه: لك جميع ما ملكْتَه وزيادةٌ هي كذا وكذا، فإنه إذا ارتاب في تحقُّق ما يَعِدُه سيّده من الإعطاء شفع ما يشكّ فيه بما يقطع به؛ ليزول عن نفسه أذى الرَّيْب إلى راحة العلم. فكأنّ نفوس المؤمنين لا تسكن عن اضطراب الرَّيْب في أمر حلّ طعام أهل الكتاب لهم بعدما كانوا يشاهدون التشديد التامّ في معاشرتهم ومخالطتهم ومساسهم وولايتهم، حتّى ضمّ إلى حديث حلّ طعامهم أمر حلّ الطيبات بقولٍ مطلق، ففهموا منه أن طعامهم من سنخ سائر الطيِّبات المحلَّلة، فسكن بذلك طَيْش نفوسهم، واطمأنَّتْ قلوبهم. وكذلك القول في قوله: والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم([31]).

خلاصة القول: إن الآية ـ موضوع البحث ـ جاءت لترفع الحدود والقيود السابقة الخاصّة بمعاشرة أهل الكتاب؛ والدليل على ذلك هو إشارة الآية إلى إباحة طعام المسلمين لأهل الكتاب، أي السماح للمسلمين باستضافتهم. كما تتطرَّق الآية بعد ذلك مباشرةً إلى حكم التزاوج بين المسلمين وأهل الكتاب (أي الزواج بنساء أهل الكتاب). وبديهيٌّ أن النظام الذي يمتلك السيطرة الكاملة على أوضاع المجتمع هو وحده القادر على إصدار مثل هذا الحكم؛ لمصلحة أتباعه، دون أن يساوره أيّ قلقٍ بسبب الأعداء([32]).

ج ـ في معنى الطعام

يعتقد أغلب مفسِّري أهل السنّة أن «طعام أهل الكتاب يشمل كلّ أنواع الطعام، سواء كان من لحوم الحيوانات المذبوحة بأيدي أهل الكتاب أنفسهم أو غير ذلك من الطعام؛ بينما تعتقد الأغلبية الساحقة من مفسِّري الشيعة وفقهائهم أن المقصود من «طعام أهل الكتاب» هو ما عدا اللحوم المذبوحة بأيدي أهل الكتاب. إلاّ أن هناك القليل من علماء الشيعة ـ أيضاً ـ يقولون بصحة النظريّة الأولى التي اتَّبعها أهل السّنة»([33]).

ج/1ـ الطعام في اللغة

1ـ قال ابنُ فارس: (طعم) الطاء والعين والميم أصلٌ مطّرد منقاس في تذوّق الشيء. يقال: طعمت الشيء طعماً، والطعام هو المأكول، وكان بعض أهل اللغة يقول: الطعام هو البرّ خاصة([34]).

فالأصل استخدام اللفظ في كلّ ما يؤكل، بحَسَب معجم مقايس اللغة.

2ـ قال ابن منظور: (مادة طعم): الطَّعامُ: اسمٌ جامعٌ لكلّ ما يُؤكَلُ([35]).

3ـ قال الجوهري: الطّعام ما يُؤكَل، ورُبَما خصّ بالطعام البرّ خاصّة، يُراد منه البرّ([36]).

ويتبين بذلك أن الأصل في اللغة استخدام لفظ الطعام لكلّ ما يُؤكَل أو يسدّ جوعاً، وحملها على غير ذلك يحتاج إلى قرينةٍ.

 

ج/2ـ التركيب اللغويّ وإفادة العموم

يشير الشهيد الثاني إلى أن المحقِّقين من الأصوليين ـ ومنهم: الإمام الرازي في المحصول ـ ذهبوا إلى أن المفرد المضاف يفيد العموم. والأمر هنا كذلك؛ واستدلّ عليه بصحّة الاستثناء الذي هو معيار العموم. ذكر ذلك في الكلام على أن الأمر للوجوب؛ لقوله تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾، فإنه يصحّ أن يُقال: فليحذر الذين يخالفون عن أمره إلاّ الأمر الفلاني. ووافق على هذا العلاّمة في نهاية الوصول إلى علم الأصول، وإنْ خالفه في المختلف: «وكذا نقول في هذه الآية هنا، يصحّ أن يقال: (وطعام الذين أوتوا الكتاب) إلاّ الطعام الفلاني، فدلّ على أنه للعموم؛ لأن الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل».

 

ج/3ـ الطعام في القرآن

يوجد الكثير من الآيات التي ورد فيها لفظ طعام، ويمكن الاكتفاء بذكر جملةٍ منها:

﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾.

﴿قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾.

﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً﴾.

﴿فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾.

﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ﴾.

﴿فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً﴾.

﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ﴾.

﴿وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ﴾.

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ﴾…، وغيرها.

وبملاحظة الآيات العديدة الواردة في القرآن ـ التي تضمّنت لفظ «طعام» ـ، المذكورة هنا وغير المذكورة، لا يُفْهَم التقييد منها بمفهوم الطعام، كما هو موجودٌ في التفاسير في خصوص الآية محلّ البحث.

ج/4ـ دلالة السياق([37])

سياق الآيات السابقة واللاحقة لآية الإحلال تشير إلى أن مورد الحديث هو اللحوم، حيث قال تعالى في الآية الأولى: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾، ثمّ في الآية الثالثة: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾، ثمّ الآية الرابعة: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾. إذن الآيات الأولى والثالثة والرابعة تتحدَّث عن اللحوم خاصّة، وسياقها سياقٌ واحد مع الآية الخامسة التي هي محلّ البحث، فمع إكمال السياق الجاري للآيات يمكن القول بأن الحديث هو عن اللحوم، أو لا أقلّ عن مطلق الطعام الذي يشمل اللحوم.

يذهب الشيخ جوادي الآملي، بحَسْب ما ينقل عنه السيد الحيدري، إلى أكثر من ذلك، فيعتبر أن سياق الآيات ليس مطلقاً يشمل اللحوم، بل هو مرتبطٌ باللحوم، ومَنْ يريد أن يشمل غير اللحوم يحتاج إلى دليلٍ؛ حيث إنه تعالى قال: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾، ثمّ بيَّن ما يُتْلى علينا من المحرَّمات، ثمّ ذكر المحلَّلات، وأضاف عليها (طعام الذين أوتوا الكتاب). ووفق ما ذُكِر يعتبر الشيخ الآملي أن المذبوح بيد أهل الكتاب حلالٌ، بحَسَب القرآن([38]).

 

ج/5ـ عدم التحريم السابق لشراء البرّ والحبوب من أهل الكتاب

حيث ذكَرْنا أن بعضهم ذهب إلى اعتبار كون الآية إيذاناً بتحليل شراء الحبوب والبرّ من أهل الكتاب، مع أن بيع وشراء الحبوب من أهل الكتاب لم يكن محرَّماً قبل نزول هذه الآية، فهذه الأغذية كانت حلالاً من قبل، ولا فرق بين وجودها في أيدي أهل الكتاب أو غيرهم! و حينئذٍ لا يبقى وجهُ منّةٍ على المسلمين في ما ذكره الله بكلامه (اليوم…)! ولا يوجد أيّ إيذانٍ بمرحلةٍ جديدة. وهذا ما لا ينسجم مع السياق!

يذكر الشريف المرتضى، في كتابه الانتصار، «أن أصحابنا يحملون قوله تعالى: ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ﴾ على ما يذكرونه ممّا يؤكل من حبوبٍ وغيرها، وهذا تخصيصٌ لا محالة؛ لأن ما صنعوه طعاماً من ذبائحهم يدخل تحت اللفظ، ولا يجوز إخراجه إلاّ بدليلٍ([39]). فإنْ جعلوا هذا مختصّاً بالأشياء اليابسة، كالحبوب وما أشبهها، فأيّ فائدةٍ تبقى في تخصيصهم بالآية؛ لأن ذلك يجوز استعماله من يد الكفار الذين ليسوا بأهل الكتاب، فمولانا أحسن الله إليه يوضِّح لنا ذلك([40]). ومثل ذلك ما ذكره الأردبيلي وغيره([41]).

ويؤكِّد ذلك ما ذكره المحقِّق البحراني في الحدائق الناضرة، فقال: قوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ﴾ شاملٌ لما باشروه وغيره، وتخصيصها بالحبوب ونحوها مخالفٌ للظاهر؛ لاندراجها في الطيِّبات؛ ولأن ما بعدها: ﴿وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ﴾، شاملٌ للجميع قطعاً؛ ولانتفاء الفائدة في تخصيص أهل الكتاب بالذكر، فإن سائر الكفّار كذلك([42]).

ويقول الفيض الكاشاني: فإن الطعام إمّا هو ما يطعم مطلقاً، فيشمل ما نحن فيه؛ أو الذبائح كما فسَّره بعضهم، فهو نصٌّ فيه. وأما حمله على الحبوب، كما ورد في الأخبار، فهو بعيدٌ، مع أن حلّها غير مختصٍّ بهم، بل شاملٌ لجميع أصناف الكفّار([43]).

ومن كلّ ما تقدَّم يمكن استخلاص أن الآية ليست بصدد تحليل البرّ والحبوب، فهذا تحصيلٌ للحاصل([44])، بل إن حديث الآية مطلقٌ، يشمل مطلق طعامهم، إلاّ ما لا يقبل التذكية كلحم الخنزير، أو يقبلها من ذبائحهم لكنّهم لم يذكّوها، كالذي لم يهلّ به لله، ولم يذكَّ تذكيةً إسلاميّة؛ فإن الله سبحانه عدّ هذه المحرّمات المذكورة في آيات التحريم ـ وهي الآيات الأربع التي في سور البقرة والمائدة والأنعام والنحل ـ رجساً وفسقاً وإثماً، كما تبيّن في ما مرّ، وحاشاه سبحانه أن يُحلّ ما سمّاه رجساً أو فسقاً أو إثماً؛ امتناناً بمثل قوله: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ﴾، فهذه المحرَّمات بعينها واقعةٌ قُبَيْل هذه الآية، في نفس السورة. وليس لأحدٍ أن يقول في مثل المورد بالنسخ، وهو ظاهرٌ، وخاصّة في مثل سورة المائدة، التي ورد فيها أنها ناسخةٌ غير منسوخة([45]).

المراد الأعمق للآية

يظهر من خلال الآية أن الله تعالى لا يريد تحليل لحوم أهل الكتاب مع التزامهم بالشروط فحَسْب، وإلاّ فإنه كان استبدل لفظ الطعام باللحوم؛ إذ كان ذلك أكثر اتساقاً مع الآيات السابقات التي تحدَّثت عن اللحوم، ولا حاجة أيضاً لأن يقول: ﴿وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ﴾، ولهذا ذكر العلاّمة الطباطبائي أن الظاهر من عبارة ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ﴾ أنه كلامٌ واحد ذو مفادٍ واحد؛ إذ من المعلوم أنه ليس في مقام تشريع حكم الحلّ لأهل الكتاب، وتوجيه التكليف إليهم، وإنْ قلنا بكون الكفّار مكلَّفين بالفروع الدينية، كالأصول، فإنهم غير مؤمنين بالله ورسوله وبما جاء به رسوله، ولا هم يسمعون، ولا هم يقبلون، وليس من دأب القرآن أن يوجِّه خطاباً أو يذكر حكماً إذا استظهر من المقام أن الخطاب معه يكون لَغْواً، والتكليم معه يذهب سدىً…([46]). وذكر مثل ذلك الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسيره الأمثل([47]). وهذا الاستهجان في محلِّه فإن الآية بصدد النظر إلى ما هو أوسع وأعمق من جهة العلاقة بين المسلمين وأهل الكتاب؛ فقوله تعالى: ﴿حِلٌّ لَكُمْ وَ… حِلٌّ لَهُمْ﴾ يظهر منه كونها إشارةً إلى المسلمين للتعامل والانفتاح على أهل الكتاب بهذا القدر المتيقَّن من الثقة.

ويؤيِّد هذا، ما ذكره السيد محمد باقر الصدر، في شرح العروة الوثقى، حيث قال: إن الظاهر من المقطع القرآني المذكور أنه بصدد إلغاء البينونة، ونفي المقاطعة بين الجماعة المسلمة وأهل الكتاب… ولهذا فإن النصّ القرآني يحلِّل طعام المسلمين للكتابي كما يحلِّل طعامه لهم. ومن الواضح أن التحليلين معاً يستهدفان غرضاً تشريعيّاً واحداً، وهو ما ذكرناه من إلغاء البينونة، ولهذا عطف على ذلك جواز نكاح الكتابية أيضاً. فالسياق كلُّه متَّجهٌ نحو ذلك، فهو يدلّ على أن إضافة الطعام إلى أهل الكتاب، وكونه طعامهم، ليس ملاكاً للاجتناب والمقاطعة([48]).

وخلاصة البحث في هذه الآية: إن تحليل القرآن مطلق طعام أهل الكتاب معناه السّعة([49]) والارتياح والانفتاح، ورفع المحدودية والممنوعية([50]) في التعامل بما عندهم من طعامهم، وليس معنى ذلك أنهم لم يكونوا مطمئنين لطعامكم أيضاً، بل أنتم لم تكونوا مرتاحين لإطعامهم إيّاكم، فأراحَتْ الآية المسملين لتناول ما عند أهل الكتاب، مع العلم أن القرآن لم يذكر ـ ولو في آيةٍ واحدة ـ المنع عن تناول ما هو موجود عند أهل الكتاب بما هم أهل كتابٍ، بل ذكر شروطاً مرتبطةً بفعل الذبح، فيكون أحد مظاهر السعة قبول المسلمين ذبح أهل الكتاب مع التزامهم بالشروط من اليوم، فقبل اليوم لم يكن هناك ارتياحٌ وسعةٌ لجهة الطمأنينة لأهل الكتاب وطعامهم، والآن ـ بعد هذا اليوم ـ صار الأمر كذلك. وهو كلامٌ عامّ مطلق، يمكن عدّه بمثابة أصلٍ في التعاطي مع أهل الكتاب.

ومن هنا يمكن القول: كان الأصل هو الحَذَر في التعامل مع أصناف غير المسلمين بما يرتبط بالطعام، ثمّ جاءت الآية لترفع هذا الحَذَر في ما يخصّ أهل الكتاب. وهذا لا يعني بالضرورة أن الذبيحة لم تحلّ منهم، ومن المشركين، مع التأكُّد من التزامهم بالتسمية سابقاً.

ويتبيَّن من كل ما تقدَّم في بحث دلالة الآيات أن شروط التذكية الواردة في القرآن الكريم متعلّقة بفعل الذابح والذبيحة، ولكنْ لا يوجد أيّ شرطٍ متعلّق بالذابح نفسه.

ثالثاً: الأدلّة الروائيّة، تصنيفاً وتحليلاً

من خلال مطالعة الروايات الكثيرة التي تتحدَّث عن أهل الكتاب وذباحتهم يمكن ملاحظة إمكانية تصنيفها وفق عناوين جامعة، كما فعل صاحب الجواهر وغيره، وهي كما يلي:

 

1ـ إطلاق النهي عن ذبيحة أهل الكتاب

1ـ روى مُحَمَّدٌ بْنُ يَعْقُوب الْكُلَيْنِي، عن عَلِيِّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ مُفَضَّلِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ زَيْدٍ الشَّحَّامِ قَالَ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ الله× عَنْ ذَبِيحَةِ الذِّمِّيِّ؟ فَقَالَ: لاَ تَأْكُلْه، إِنْ سَمَّى وإِنْ لَمْ يُسَمِّ([51]).

ورواها الشيخ الطوسي، بإسناده عن الحسين بن سعيد.

وسند الحديث ضعيفٌ بالمفضَّل بن صالح، كما ذكر النجاشي وابن الغضائري.

وهي من الروايات القلائل الواضحة دلالةً على المنع، فهي تتناول الذمِّي من جهةٍ؛ ومن جهةٍ أخرى تُطلق، سواء سمّى أم لم يُسَمِّ.

2ـ روى مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكُلَيْنِي، عن مُحَمَّدِ بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ أَبِي الْمَغْرَاءِ، عَنْ سَمَاعَةَ، عَنْ أَبِي إِبْرَاهِيمَ× [أي الإمام الكاظم]، قَالَ: سَأَلْتُه عَنْ ذَبِيحَةِ الْيَهُودِيِّ والنَّصْرَانِيِّ؟ فَقَالَ: لاَ تَقْرَبُوهَا([52]).

ويمكن تضعيف السند بسَمَاعة؛ لجهة واقفيته. إلاّ أن المشهور توثيقه، ولهذا قال الشهيد الثاني في تعليقه على الرواية: أما الأولى فحال سَماعة بالوقف معلوم، وإنْ كان ثقةً، فالرواية من الموثَّق. وهو أجود ما في الباب دلالةً ([53]).

ويمكن التوقُّف حول ما ذكره في جودة دلالة هذه الرواية، مقارنة مع الرواية السابقة! إلاّ أنه يمكن أن يُقال: إن ما قاله يلحظ به السند والدلالة معاً.

وعلى أيّ حالٍ الرواية تفيد النهي عن الاقتراب من ذبيحة اليهوديّ أو النصرانيّ.

3ـ روى مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكُلَيْنِي، عن مُحَمَّدِ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْمُخْتَارِ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ الله قَالَ: اصْطَحَبَ الْمُعَلَّى بْنُ خُنَيْسٍ وابْنُ أَبِي يَعْفُورٍ فِي سَفَرٍ، فَأَكَلَ أَحَدُهُمَا ذَبِيحَةَ الْيَهُودِ والنَّصَارَى، وأَبَى الآخَرُ عَنْ أَكْلِهَا، فَاجْتَمَعَا عِنْدَ أَبِي عَبْدِ الله×، فَأَخْبَرَاه، فَقَالَ: أَيُّكُمَا الَّذِي أَبَى؟ قَالَ: أَنَا، قَالَ: أَحْسَنْتَ([54]).

والسند صحيحٌ.

نعم، قد يمكن المناقشة بأن الرواية لا تفيد الحرمة، وإنما تفيد أفضلية مَنْ لم يأكل، أو كراهة الأكل، وإلاّ لقبَّح× مَنْ أكل وزجره عن العَوْد إليها مرّةً أخرى، لكنه لم يفعل([55]).

4ـ روى مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكُلَيْنِي، عن عَلِيِّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيه، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ الأَحْمَسِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله×، قَالَ: قَالَ لَه رَجُلٌ: أَصْلَحَكَ اللهُ، إِنَّ لَنَا جَاراً قَصَّاباً، فَيَجِيءُ بِيَهُودِيٍّ فَيَذْبَحُ لَه؛ حَتَّى يَشْتَرِيَ مِنْه الْيَهُودُ؟ فَقَالَ: لاَ تَأْكُلْ مِنْ ذَبِيحَتِه، ولاَ تَشْتَرِ مِنْه([56]).

والسند صحيحٌ.

أما معنى الرواية فهي تفيد أن ذبح اليهودي هو لأجل شراء اليهود منه؛ لقوله: «فيذبح له حتّى يشتري منه اليهود»، والمقامُ هو في ما لو ذبح اليهودي للمسلم، ملتزماً بشروطه.

إلاّ أنه قد يُقال: إن شروط اليهود في الذبح أشدّ من شروط المسلمين، فهم يحقِّقون عادة كلّ شروط الذبح الإسلامي. وهذا يحتاج إلى تحقيقٍ.

5ـ روى مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكُلَيْنِي، عن عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَابِرٍ وعَبْدِ الله بْنِ طَلْحَةَ، قَالَ ابْنُ سِنَانٍ: قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَابِرٍ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله×: لاَ تَأْكُلْ مِنْ ذَبَائِحِ الْيَهُودِ والنَّصَارَى، ولاَ تَأْكُلْ فِي آنِيَتِهِمْ([57]).

أما سنداً فمشهور العلماء على تصحيح العِدَد. إلاّ أنه يوجد كلامٌ في محمد بن سنان، فالقدح فيه بالكذب وغيره عظيمٌ، لذا من الصعب توثيقه.

وأما دلالةً فالرواية واضحةٌ في نَهْيها عن أكل ذبائح اليهود والنصارى.

6ـ روى الطوسي بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن القاسم، عن محمد بن يحيى الخثعمي، عن أبي عبد الله× قال: أتاني رجلان، أظنّهما من أهل الجبل، فسألني أحدهما عن الذبيحة؟ فقلتُ: والله لا ترد لكما على ظهري، لا تأكل. قال محمد: فسألتُه أنا عن ذبيحة اليهودي والنصراني؟ فقال: لا تأكل منه([58]).

والمقصود بالقاسم في هذا السند القاسم بن محمد الجوهري، إلاّ أن فيه خلافاً، وقد عدَّه السيد الخوئي مجهولاً([59]).

والملفت إعادة طرح السؤال من قِبَل الراوي، وهذا ليس مختصّاً بهذه الرواية بعينها، بل يظهر تكرُّره في عددٍ من الروايات، ومنها: رواية أبي بصير، وهو مثيرٌ لبعض الاستفهامات حول مثل هذه الروايات، فهل سمعوا ما هو مغايرٌ منه سابقاً أو سمعوا مَنْ نقل عنه شيئاً مغايراً؟ الله أعلم…

وعلى أيّ حال هي تفيد بظاهرها الحرمة. ولكنْ لا بُدَّ من التوقُّف عند دلالة التكرار في السؤال، وخاصّةً أنه قد تكرَّر، كما سنرى في رواية أبي بصير أيضاً.

7ـ روى الطوسي بإسناده عن سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ،عَنْ أَحْمَدَ بْنِ هِلاَلٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُذَافِرٍ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ×: رَجُلٌ يَجْلِبُ الْغَنَمَ مِنَ اَلْجَبَلِ، يَكُونُ فِيهَا الأَجِيرُ الْمَجُوسِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ، فَتَقَعُ الْعَارِضَةُ([60])، فَيَأْتِيهِ بِهَا مُمَلَّحَةً، قَالَ: «لاَ يَأْكُلْهَا»، قُلْتُ: يَكُونُ فِي وَقْتِ فَرِيضَةٍ لاَ تُمَكِّنُهُ الأَرْضُ مِنَ الْقِيَامِ عَلَيْهَا، وَلاَ السُّجُودِ عَلَيْهَا، مِنْ كَثْرَةِ الثَّلْجِ وَالْمَاءِ وَالْمَطَرِ وَالْوَحَلِ، أَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرِيضَةَ فِي الْمَحْمِلِ؟ قَالَ: «نَعَمْ، هُوَ بِمَنْزِلَةِ السَّفِينَةِ، إِنْ أَمْكَنَهُ قَائِماً وَإِلاَّ قَاعِداً، وَكُلَّمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ فَاللهُ أَوْلَى بِالْعُذْرِ؛ يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ([61]).

وفيها طريقان، كلاهما ضعيفةٌ بأحمد بن هلال، وهي تفيد النهي عن أكل ما جلبه رجلٌ (مجهول) ممّا ذبحه الأجير المجوسي والنصراني الذي في الجبل.

8ـ روى الطوسي بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن أحمد بن حمزة القمّي، عن زكريّا بن آدم قال: قال أبو الحسن×: إني أنهاك عن ذبيحة كلّ مَنْ كان على خلاف الذي أنتَ عليه وأصحابك، إلاّ في وقت الضرورة إليه([62]).

وقد أُحصي لها أربع طرق. والرواية صحيحة سنداً. وفيها نهيٌ عن ذبيحة «كل مَنْ كان على خلاف الذي أنتَ عليه وأصحابك»، ويبدو أن المقصود هو نهج الأتباع أو الشيعة؛ لأنه يتكلَّم مع تابعٍ له، ولو كان كذلك فحينها يشترط تشيُّع الذابح، فتكون الرواية معارضةً للروايات الكثيرة الدالّة على حلِّية ذبيحة مطلق المسلم.
وعلى أيّ حال يظهر أن لحن مثل هذه الرواية مشتركٌ مع لحن الروايات التي تناولَتْ ذبح الأضاحي.

9ـ روى الطوسي بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن شعيب العقرقوفي قال: كنتُ عند أبي عبد الله×، ومعنا أبو بصير، وأناسٌ من أهل الجبل يسألونه عن ذبايح أهل الكتاب؟ فقال لهم أبو عبد الله×: قد سمعتُم ما قال الله عزَّ وجلَّ في كتابه، فقالوا له: نحبّ أن تخبرنا، فقال لهم: لا تأكلوها، فلما خرجنا قال أبو بصير: كُلْها؛ في عنقي ما فيها، فقد سمعتُه وسمعتُ أباه جميعاً يأمران بأكلها، فرجعنا إليه، فقال لي أبو بصير: سَلْه، فقلتُ له: جُعلتُ فداك، ما تقول في ذبائح أهل الكتاب؟ فقال: أليس قد شهدْتَنا بالغداة وسمعْتَ؟ قلتُ: بلى فقال: لا تأكلها([63]).

وسند الرواية صحيحٌ، مع توثيق أبي بصير؛ حيث إنه مردَّدٌ بين عدّة أشخاصٍ، منهم الضعيف ومنهم الثقة.

وهي روايةٌ عجيبة؛ لجهة إصرار أبي بصير في المقام. ولعلّه قد سمع خلاف ذلك من الإمام. فهل هو يعلم بأمرٍ ما جعله يصرّ بهذه الطريقة؟!

وهذا يولِّد ريبةً من هذه الروايات التي تطلق في ما يخصّ أهل الجبل، وخاصة أنه قد تكرَّر ذكرهم!

ونتيجة الروايات في العنوان الأوّل: يوجد رواية صحيحة واحدة، بدلالةٍ واضحة.

2ـ نفي البأس عن ذبائح أهل الكتاب

1ـ روى الطوسي بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن بشير، عن ابن أبي عقيلة الحسن بن أيوب، عن داوود بن كثير الرقّي، عن بشير بن أبي غيلان الشيباني قال: سألتُ أبا عبد الله× عن ذبائح اليهود والنصارى والنصّاب؟ قال: فلوى شدقه وقال: كُلْها إلى يومٍ ما([64]).

وقد أُحصي لهذا الحديث أربع طرقٍ، كلُّها ضعيفةٌ بأحمد بن بشير.

وقد استفاد منها عددٌ من الأعلام؛ للبناء على التقيّة في روايات الجواز. وهي كما ترى، وخاصةً أن روايات الحِلّ أصحُّ سنداً، وأقوى دلالةً، كما سيظهر.

 ولو تنزَّلنا وقبلناها سنداً، فلماذا لا يُحْمَل لوي الشدق وقوله كإشارةٍ للالتفات إلى التسمية مثلاً؟!

2ـ روى الطوسي بإسناده عن ابن مسكان، عن محمد الحلبي قال: سألتُ أبا عبد الله× عن ذبيحة أهل الكتاب ونسائهم؟ فقال: لا بأس به([65]).

وقد أُحصي لهذا الحديث ستّ طرقٍ. والرواية صحيحة السند. وهي تدلّ على عدم البأس في ذباحة أهل الكتاب ونسائهم.

3ـ روى الطوسي بإسناده عن القاسم بن محمد، عن جميل بن صالح، عن عبد الملك بن عمرو قال: قلتُ لأبي عبد الله×: ما تقول في ذبائح النصارى؟ فقال: لا بأس بها، قلتُ: فإنهم يذكرون عليها المسيح؟ فقال: إنما أرادوا بالمسيح الله.

ورواها الصدوق بإسناده عن عبد الملك بن عمرو، مثله.

وهذا الحديث بكلا طريقَيْه مجهولٌ؛ بعبد الملك بن عمرو، وفيه كلامٌ بين مَنْ يوثِّقه أو يبقيه مجهولاً.

وعلى أيّ حالٍ، مع توثيقه وتصحيح الرواية، فإنها تفيد عدم البأس، حتّى لو اكتفوا بذكر اسم المسيح عليها.

4ـ روى الطوسي بإسناده عن الحسن، عن القاسم بن محمد، عن عليّ، عن أبي بصير قال: سألتُ أبا عبد الله× عن ذبيحة اليهودي؟ فقال: حلالٌ، قلتُ: وإنْ سَمَّى المسيح؟ قال: وإنْ سَمَّى المسيح؛ فإنه إنما يريد الله([66]).

وقد أُحصي في هذا الحديث ستّ طرقٍ، مشتركة في تردُّد أبي بصير، كما أشَرْنا سابقاً.

ومع توثيقه يبقى سؤالٌ: كيف سأله السائل عن ذبيحة اليهودي الذي يسمّي المسيح؟! هذا غريبٌ.

وعلى أيّ حالٍ فهي تفيد نفس ما أفادته الرواية السابقة.

5ـ  روى الطوسي بإسناده عن الصفّار، عن أحمد بن محمد، عن البرقي، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن يونس بن بهمن قال: قلتُ لأبي الحسن×: أهدى إليَّ قرابةٌ لي نصرانيّ دجاجاً وفراخاً قد شواها، وعمل لي فالوذجةً، فآكله؟ فقال: لا بأس به([67]).

وفي الرواية طريقان، وهي صحيحةٌ سنداً.

أما دلالةً فتفيد عدم البأس بذباحة النصراني، مع العلم أن بينه (ناقل الرواية) وبين النصراني قرابةً، فهل يوجد ربطٌ بين قرب النصراني من المسلم والحكم بالتذكية؟ ففي روايات الحرمة لطالما استخدم السائل لفظ رجلٍ أو جماعةٍ من أهل الجبل، وكأنهم مجهولون له، فهل لهذا معنى أو إشارةٌ ترتبط بالتذكية؟

6ـ روى الطوسي بإسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن سعد بن إسماعيل، عن أبيه إسماعيل بن عيسى قال: سألتُ الرضا× عن ذبائح اليهود والنصارى وطعامهم؟ فقال: نعم([68]).

وقد أُحصي لها إحدى عشرة طريقاً، وسندها صحيحٌ. والظاهر منها إفادة الجواز.

7ـ وفي حديثٍ طويل في قرب الإسناد: عن الحسن بن ظريف، عن معمر، عن الرضا، عن أبيه موسى بن جعفر× قال:… ومن ذلك: أن امرأة عبد الله بن مسلم أتَتْه بشاةٍ مسمومة، ومع النبيّ| بشر بن البراء بن عازب، فتناول النبيّ| الذراع، وتناول بشر الكراع، فأما النبيّ× فلاكها ولفظها، وقال: إنها لتخبرني أنها مسمومة؛ وأما بشر فلاك المضغة وابتلعها فمات، فأرسل إليها فأقرَّتْ، وقال: ما حملك على ما فعلْتِ؟ قالت: قتلْتَ زوجي وأشراف قومي، فقلتُ: إنْ كان ملكاً قتلتُه، وإنْ كان نبيّاً فسيطلعه الله تبارك وتعالى على ذلك([69]).

وهو خبرٌ صحيح، ادَّعى الشهيد الثاني استفاضته أو تواتره([70]). وإنّ فعل الرسول مع الأصحاب دليلٌ على جواز أكل لحم اليهود.

ونتيجة الروايات في العنوان الثاني: يوجد أربع رواياتٍ صحيحة، تامّة الدلالة على عدم البأس في أكل ذبيحة أهل الكتاب.

3ـ مداريّة سماع التسمية وعدمه

1ـ روى محمد بن يعقوب الكليني، عن عَلِيِّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مَرَّارٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ مُعَاوِيَة بْنِ وَهْبٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله× عَنْ ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ؟ فَقَالَ: لاَ بَأْسَ، إِذَا ذَكَرُوا اسْمَ الله عَزَّ وجَلَّ، ولَكِنِّي أَعْنِي مِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ عَلَى أَمْرِ مُوسَى وعِيسَى’([71]).

والسند صحيحٌ. وهي تفيد عدم البأس لو ذكروا اسم الله عليها. ولكنّها تضيف شرطاً هو كونهم على أمر موسى وعيسى. ويدلّ قوله: «أعني منهم مَنْ يكون» على أن فيهم جماعات، يحاول الإمام تمييزهم ؛ ولعل ذلك هو سبب التعارض الحاصل بين العنوانين السابقين.

2ـ روى الطوسي بإسناده عن فضالة بن أيّوب، عن القاسم بن بريد، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر× قال: كُلْ ذبيحة المشرك إذا ذكر اسم الله عليها وأنت تسمع، ولا تأكل ذبيحة نصارى العرب([72]).

وقد أُحصي فيها تسع طرقٍ. والرواية صحيحة السند.

وهي صريحةٌ في تحليل ذبيحة كلّ مشركٍ مع ذكر اسم الله عليها. وهذه الرواية مطلقةٌ من حيث الجهة إلاّ من نصارى العرب، وهذا يؤكِّد الوجه الذي ذكره الباحث آنفاً، من وجود اختلافٍ بين النصارى أنفسهم، وسيأتي الكلام عن نصارى العرب.

والملفت في هذه الرواية والرواية التالية اشتراط الإمام الذكر وسماعه، بينما اقتصر في الرواية السابقة على شرط ذكرهم لاسم الله عليها؛ ولعلّ ذلك لوجود خصوصيّةٍ في أهل الكتاب الذين هم على أمر موسى وعيسى. ولكنْ ما المقصود بالذين هم على أمر موسى وعيسى؟ وكيف كانوا؛ حتّى نعرف مَنْ هم الآن؟

3ـ روى الطوسي بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن زرارة، عن حمران قال: سمعتُ أبا جعفر× يقول في ذبيحة الناصب واليهودي والنصراني: لا تأكل ذبيحته حتّى تسمعه يذكر اسم الله، فقلتُ: المجوسي؟ فقال: نعم إذا سمعْتَه يذكر اسم الله، أما سمعْتَ قول الله: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ([73]).

وقد أُحصي لها ستّ طرقٍ. وهي صحيحةٌ سنداً.

أما مضموناً ففيها تعليقٌ على ذكر اسم الله عليها وسماعه، سواءٌ كان الذابح ناصبياً أو نصرانياً أو يهودياً أو مجوسياً، وهي تؤيِّد الرواية السابقة.

وقد أرجع الإمام كلامه إلى الآية: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ﴾، وهذا يعني أن المدار هو على التسمية، كما ذكرَتْ الآية، أما اشتراط السماع فهو من الإمام، وقد يكون مرتبطاً بظرفهم!

4ـ روى الطوسي بإسناده عن فضالة، عن سيف بن عميرة، عن أبي بكر الحضرمي، عن الورد بن زيد قال: قلتُ لأبي جعفر×: حدِّثني حديثاً وأَمْلِه عليَّ؛ حتّى أكتبه، فقال: أين حفظكم يا أهل الكوفة؟ قال: قلتُ: حتّى لا يردّه عليَّ أحدٌ، ما تقول في مجوسيٍّ قال: بسم الله ثمّ ذبح؟ فقال: كُلْ، قلتُ: مسلمٌ ذبح ولم يُسَمِّ؟ فقال: لا تأكله، إن الله يقول: ﴿فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ﴾، ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ﴾.

ورواه الصدوق بإسناده عن أبي بكر الحضرمي، مثله([74]).

وقد أُحصي للرواية تسع طرقٍ، كلّها مشتركة بالورد بين زيد الأسدي، الذي فيه كلامٌ، وعلى أيّ حالٍ فمَنْ وثَّقه صحّت الرواية عنده.

أما من حيث المضمون فيظهر أن الورد بن زيد قد ذكر للإمام احتياجه إلى تدوين كلامه؛ حتّى لا يردّ عليه أحدٌ في المسألة. وكأنّ الشيعة كانوا في رَيْبٍ من المسألة، أو في خلافٍ حولها؛ لأنه احتاج إلى الكتابة، فلو كان المدار على الرَّيْب والسؤال فقط لكانوا اكتفوا بنقل وردٍ، إلاّ أن يوجد شكٌّ لديهم بحفظ ورد، وهذه مسألةٌ أخرى. ولكنّ الأكيد أنه يوجد خلافٌ حول المسألة بين مَنْ يهمّه كلام الإمام؛ إذ ما نفع تدوين كلام الإمام لمَنْ لا يعتقد بالإمام.

وهذه الرواية، وغيرها العديد من الروايات، تعبِّر عن واقع الروايات الواردة المتعارضة.

وعلى أيّ حالٍ من الواضح تعليق الإمام التذكية على التسمية، لا على الإسلام، بحَسَب الرواية.

5ـ قال محمد بن عليّ بن الحسين: وقال: تأكل ذبيحته إذا ذكر الله عزَّ وجلَّ([75]).

وهي من مراسيل الصدوق؛ فمَنْ قال بحجِّيتها صحّتْ بالنسبة إليه. ويبدو أن الرواية واردةٌ هكذا: قال محمد بن عليّ بن الحسين: وفي كتاب عليٍّ×: لا يذبح المجوسي ولا النصراني ولا نصارى العرب الأضاحي، وقال: تأكل ذبيحته إذا ذكر الله عزَّ وجلَّ.

ويظهر وجود اقتطاعٍ في المتن بعبارة: «وقال». وكأنّ الرواية تفرِّق بين حكم ذبح الأضاحي والأكل من الذبيحة العادية. وعلى أيّ حالٍ فالنهي عن ذبحهم الأضحية لا يفيد حرمة الأكل، بل لعلّه من شروط ذبح الأضحية ـ الموجب لسقوط التكليف بذبحها ـ أن يكون الذابح مسلماً.

6ـ رُوي في قرب الإسناد: عن عبد الله بن الحسن، عن جدّه عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر×، قال: سألتُه عن ذبيحة اليهود والنصارى هل تحلّ؟ قال: كُلْ ما ذُكر اسم الله عليه([76]).

والرواية ضعيفةٌ بعبد الله بن الحسن. إلاّ أنها تفيد حلِّية كلّ ما ذُكر اسم الله عليه.

7ـ روى العيّاشي، في تفسيره، عن عمر بن حنظلة، عن أبي عبد الله×، في قول الله: ﴿فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ﴾، قال: أما المجوس فلا؛ فليسوا من أهل الكتاب؛ وأما اليهود والنصارى فلا بأس إذا سمعوا.

والروايه مرسلةٌ سنداً.

أما دلالةً فهي تفيد حلِّية ما ذُكر اسم الله عليه، ثمّ قال: أما المجوس فلا، وليس واضحاً ما هو موضوع النهي. ثمّ أكمل: وأما اليهود والنصارى فلا بأس إذا سمعوا. ويبدو أن الرواية تنسجم مع التحليل الذي قُدِّم في الرواية الثانية المذكورة.

ونتيجة الروايات في العنوان الثالث: ثلاث روايات صحيحة، تامّة الدلالة على أن المدار بالتذكية هو التسمية.

والعناوين المستفادة من الروايات:

1ـ جعل المدار على سماع التسمية، أو إخبار رجلٍ مسلمٍ بها.

2ـ جواز أكل ذبائحهم وإنْ ذكروا اسم المسيح؛ لأنهم يريدون به الله.

4ـ الأصل عند الشكّ في ذبائح أهل الكتاب

1ـ روى الطوسي بإسناده عن محمد بن أبي عمير، عن جميل ومحمد بن حمران، أنهما سألا أبا عبد الله× عن ذبائح اليهود والنصارى والمجوس؟ فقال: كُلْ، فقال بعضهم: إنهم لا يسمّون! فقال: فإنْ حضرتموهم فلم يسمّوا فلا تأكلوا، وقال: إذا غاب فكُلْ([77]).

وقد أُحصي لها تسع طرقٍ، وهي رواية صحيحة السند.

والملفتُ في مضمون هذه الرواية أنها اعتبرت أن الأصل هو صحّة الأكل في ذبائح اليهود والنصارى والمجوس، حيث قال: «كُلْ»، دون أن يذكر شيئاً آخر، ثم قال: فإنْ حضرتموهم ولم يسمّوا، ولم يقُلْ: شهدتموهم، كما في رواياتٍ أُخَر ـ الشهادة فيها عنايةٌ والتفاتٌ في مقابل الحضور ـ، وكأنه يقول: لو صادف وجودكم ولم يسمّوا فحينها لا تأكلوا. إلى هنا كأنّ هذه الرواية تؤيِّد ما ذُكر في العنوان السابق في ما يخصّ أهل الكتاب الذين هم على أمر موسى وعيسى.

وأما قول الراوي: «وقال: إذا غاب فكُلْ» فإن الغياب يمكن أن يكون موضوعه أهل الكتاب؛ وذلك باعتبار أن ناقل الرواية نقلها بشكلٍ متقطّع؛ لعبارته «فقال» ثمّ «وقال»، من دون أن يوجد كلامٌ للراوي بينهما. وما ذُكر ينسجم مع روح الرواية، فهي من أوّلها تعطي إشاراتٍ للاطمئنان إلى الطوائف الثلاث، وتشير إلى أنه يمكن الاطمئنان إلى تسميتهم مع غيابهم، وبالتالي يمكن الأكل. فهذا احتمالٌ أوّل.

إلاّ أن الاحتمال الأوّل لا ينسجم مع صيغة الجمع في الضمائر السابقة (حضرتموهم، إنهم…)، ثمّ في ذيل الرواية استخدم صياغة المفرد. وانطلاقاً من ذلك فقد يحمل موضوع الغياب على شيءٍ آخر، وهو الشرط، فتصبح العبارة بمعنى إذا غاب (عدم التسمية)؛ وذلك انسجاماً مع سياق الرواية، فلو كان الكلام عن الطوائف الثلاثة كان من المفترض أن يقول: غابوا، مراعاةً للسياق (لا يسمّون، حضرتموهم…)، فهم والإمام لم يستخدموا إلاّ صياغة الجمع، فلماذا في هذا المقطع يقول الإمام: «إذا غاب».

وهذا الإشكال صحيحٌ، مع عدم القول باقتطاع الرواية؛ أما مع القول بالاقتطاع ـ كما تمَّتْ الإشارة إليه في الاحتمال الأوّل ـ فيمكن حينها معالجة التفاوت بين الضمائر.

2ـ روى الطوسي بإسناده عن النضر بن سويد، عن القاسم بن سليمان، عن حريز قال: سُئل أبو عبد الله× عن ذبائح اليهود والنصارى والمجوس؟ فقال: إذا سمعتهم يسمّون، وشهد لك مَنْ رآهم يسمّون، فكُلْ؛ وإنْ لم تسمعهم ولم يشهد عندك مَنْ رآهم يسمّون فلا تأكل ذبيحتهم([78]).

وقد أُحصي لها تسع طرقٍ، وهي روايةٌ صحيحة.

وتفيد الرواية بأن الأصل هو عدم حلِّية  ذبيحة اليهود والنصارى والمجوس، ورغم أنها تعلِّق الذباحة على التسمية، إلاّ أنها تخالف مضمون ما ذكر في الرواية السابقة بما يرتبط بالأصل؛ حيث اشترط سماعهم أو شهادة أحدٍ، وإلاّ فلا تأكل ذبيحتهم.

3ـ روى الطوسي بإسناده عن حمّاد بن عيسى، عن حريز، عن أبي عبد الله×؛ وعن زرارة، عن أبي جعفر×، أنهما قالا في ذبائح أهل الكتاب: فإذا شهدتموهم وقد سمّوا اسم الله فكلوا ذبائحهم؛ وإنْ لم تشهدوهم فلا تأكلوا؛ وإنْ أتاك رجلٌ مسلم فأخبرك أنهم سمّوا فكُلْ([79]).

وقد أُحصي للرواية تسع عشرة طريقاً، وهي روايةٌ صحيحة سنداً.

ومن حيث المضمون تفيد الرواية أن الأصل عدم حلِّية ما ذبحه أهل الكتاب، كما في الرواية السابقة، وقد استخدم فيها المعصوم لفظ «شهدتموهم»، وليس حضرتموهم، وكأنّه يوجد عدم ثقةٍ بأهل الكتاب المقصودين.

5ـ إطلاق النهي عن أكل ذبائح غير المسلم

1ـ روى الطوسي بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن محمد بن سنان، عن الحسين بن المنذر قال: قلتُ لأبي عبد الله×: إنا نتكارى هؤلاء الأكراد في قطاع الغنم، وإنما هم عَبَدة النيران وأشباه ذلك، فتسقط العارضة، فيذبحونها ويبيعونها، فقال: ما أحبّ أن تجعله في مالك، إنما الذبيحة اسمٌ، ولا يؤمن على الاسم إلاّ مسلم([80]).

والرواية ضعيفةٌ بمحمد بن سنان؛ والحسين بن منذر مجهولٌ.

 وتتحدّث الرواية عن الأكراد «الذين هم من عَبَدة النيران أو شبه ذلك»، كما ذكرت الرواية. وعلى أيّ حالٍ الرواية لا تفيد الحرمة على ما يظهر من عبارة المعصوم: «ما أحبّ»، ممّا يدل على جواز بيعها، وإلاّ لما صدق الثمن في مقابلها، فلو كانت ميتةً لما جاز بيعها، ولا قبض ثمنها، واقتصاره على عبارة: «لا أحبّ أن تجعله في مالك» لا يدلّ بالضرورة على الحرمة، وإنما تكفي الكراهة.

2ـ روى محمد بن يعقوب الكليني، عن مُحَمَّدِ بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ حَنَانِ بْنِ سَدِيرٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْمُنْذِرِ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ الله×: إِنَّا قَوْمٌ نَخْتَلِفُ إِلَى الْجَبَلِ، والطَّرِيقُ بَعِيدٌ، بَيْنَنَا وبَيْنَ الْجَبَلِ فَرَاسِخُ، فَنَشْتَرِي الْقَطِيعَ والاثْنَيْنِ والثَّلاَثَةَ، ويَكُونُ فِي الْقَطِيعِ أَلْفٌ وخَمْسُمِائَةِ شَاةٍ وأَلْفٌ وسِتُّمِائَةِ شَاةٍ وأَلْفٌ وسَبْعُمِائَةِ شَاةٍ، فَتَقَعُ الشَّاةُ والاثْنَتَانِ والثَّلاَثَةُ، فَنَسْأَلُ الرُّعَاةَ الَّذِينَ يَجِيئُونَ بِهَا عَنْ أَدْيَانِهِمْ، فَيَقُولُونَ: نَصَارَى، قَالَ: فَقُلْتُ: أَيُّ شَيْءٍ قَوْلُكَ فِي ذَبِيحَةِ الْيَهُودِ والنَّصَارَى؟ فَقَالَ: يَا حُسَيْنُ، الذَّبِيحَةُ بِالاسْمِ، ولاَ يُؤْمَنُ عَلَيْهَا إِلاَّ أَهْلُ التَّوْحِيدِ([81]).

وفي سند الرواية كلامٌ بسبب الحسين بن المنذر؛ إذ لا يوجد توثيقٌ له، كما ذكرنا في الرواية السابقة، لكنها قد تُصحَّح بالرواية التالية؛ إذ يبدو أن كلَيْهما في نفس السياق.

وما يهمّنا من الرواية هو ذيلها، حيث يسأل الراوي الإمام: «أيّ شيءٍ قولك في ذبيحة اليهود والنصارى؟»، فأجاب الإمام بتعليقها على الاسم، وأنه لا يؤمن على الذبيحة من جهة الاسم إلاّ أهل التوحيد. وهذه الرواية مقاربةٌ لروايات عدم تحليل ذباحة اليهود والنصارى الذين في الجبل. ولعل هذه الرواية تفسِّر سبب التحريم هناك.

3ـ روى محمد بن يعقوب الكليني، عن مُحَمَّدِ بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ حَنَانٍ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ الله×: إِنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ الْمُنْذِرِ رَوَى عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتَ: إِنَّ الذَّبِيحَةَ بِالاسْمِ، ولاَ يُؤْمَنُ عَلَيْهَا إِلاَّ أَهْلُهَا، فَقَالَ: إِنَّهُمْ أَحْدَثُوا فِيهَا شَيْئاً لاَ أَشْتَهِيه، قَالَ حَنَانٌ: فَسَأَلْتُ نَصْرَانِيّاً، فَقُلْتُ لَه: أَيَّ شَيْءٍ تَقُولُونَ إِذَا ذَبَحْتُمْ؟ فَقَالَ: نَقُولُ بِاسْمِ الْمَسِيحِ([82]).

والرواية صحيحة سنداً.

وبالتدقيق في الرواية يمكن القول بأن هذه الرواية سؤالٌ عن الرواية التي سبقتها، وفيها مزيدُ تعليلٍ وبيان من الإمام؛ لأن حنان يذكر للإمام ما نقله الحسين بن المنذر عنه. وهي مع صحّتها تصحّح مجمل مضمون الرواية السابقة، وتعطي قاعدة عامّة (الذبيحة بالاسم). ثمّ إن ما ذكره الإمام بعد القاعدة المذكورة من بيانٍ بقوله: «لا أشتهيه» لا يفيد الحرمة.

4ـ روى محمد بن يعقوب الكليني، عن عَلِيِّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ حَنَانِ بْنِ سَدِيرٍ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى أَبِي عَبْدِ الله×، أَنَا وأَبِي، فَقُلْنَا لَه: جَعَلَنَا الله فِدَاكَ، إِنَّ لَنَا خُلَطَاءَ مِنَ النَّصَارَى، وإِنَّا نَأْتِيهِمْ فَيَذْبَحُونَ لَنَا الدَّجَاجَ والْفِرَاخَ والْجِدَاءَ، أفَنَأْكُلُهَا؟ قَالَ: فَقَالَ: لاَ تَأْكُلُوهَا، ولاَ تَقْرَبُوهَا؛ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ عَلَى ذَبَائِحِهِمْ مَا لاَ أُحِبُّ لَكُمْ أَكْلَهَا، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا الْكُوفَةَ دَعَانَا بَعْضُهُمْ، فَأَبَيْنَا أَنْ نَذْهَبَ، فَقَالَ: مَا بَالُكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَّا ثُمَّ تَرَكْتُمُوه الْيَوْمَ؟ قَالَ: فَقُلْنَا: إِنَّ عَالِماً لَنَا× نَهَانَا، وزَعَمَ أَنَّكُمْ تَقُولُونَ عَلَى ذَبَائِحِكُمْ شَيْئاً لاَ يُحِبُّ لَنَا أَكْلَهَا، فَقَالَ: مَنْ هَذَا الْعَالِمُ؟ هَذَا والله أَعْلَمُ النَّاسِ، وأَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ الله، صَدَقَ والله، إِنَّا لَنَقُولُ بِاسْمِ الْمَسِيحِ×([83]).

والرواية صحيحة السند، مرويةٌ عن حنان أيضاً ـ نفس راوي الرواية السابقة ـ.

وهي قريبةٌ بمضمونها منها، وفيها يتحدّث الراوي عن أن أصحاباً للإمام في الكوفة كانوا يأكلون من ذبائح النصارى، ويبدو أن ذلك كان أمراً عادياً مقبولاً، فسألوا الإمام عن ذلك، فقال: «لا تأكلوها، ولا تقربوها». وفي هذه العبارة نهيٌ واضح، لكنْ لما أكمل الإمام بيان سبب ذلك «إنهم يقولون على ذبائحهم ما لا أحبّ لكم أكلها» فكأنّه يشير إلى كراهتها، لا حرمتها.

5ـ روى محمد بن يعقوب الكليني، عن مُحَمَّدِ بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْمُخْتَارِ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ الله قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ الله×: إِنَّا نَكُونُ بِالْجَبَلِ، فَنَبْعَثُ الرُّعَاةَ فِي الْغَنَمِ، فَرُبَّمَا عَطِبَتِ الشَّاةُ أَوْ أَصَابَهَا الشَّيْءُ، فَيَذْبَحُونَهَا، فَنَأْكُلُهَا، فَقَالَ×: هِيَ الذَّبِيحَةُ، ولاَ يُؤْمَنُ عَلَيْهَا إِلاَّ مُسْلِمٌ([84]).

والرواية صحيحه سنداً.

ولعلّ هذه الرواية أيضاً تعطي المعيار لبيان حقيقة الروايات التي تتحدّث عن حرمة ذبائح أهل الجبل. وهذه الرواية تشبه رواية الحسين بن المنذر السابقة، التي في أول العنوان، وفيها أن الذبيحة، ولم يذكر الاسم هنا، لا يؤمَن عليها إلاّ مسلم. والملفت في كلّ هذه الروايات عدم استخدامه لفظ الذباحة، الذي فيه إشارةٌ إلى الذابح، بل استخدم الإمام لفظ الذبيحة، وكأنّ عدم التأمين لجهة الالتزام بالشروط فقط، وليس ذلك مرتبطاً بعنوانٍ معيَّن للذابح.

6ـ روى محمد بن يعقوب الكليني، عن عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عن ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ الأَحْمَسِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله×، قَالَ: قَالَ: هُوَ الاِسْمُ فَلاَ يُؤْمَنُ عَلَيْه إِلاَّ مُسْلِمٌ([85]).

والرواية صحيحة سنداً.

وهي تفيد نفس ما أفادته الروايات السابقات، على ما يظهر. مع أنه لم يذكر لفظ الذبيحة، إلاّ أنه قال: هو الاسم، ولا يؤمن عليه إلاّ مسلم.

7ـ روى محمد بن يعقوب الكليني، عن عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيد، عَنِ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ قُتَيْبَةَ الأَعْشَى قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله× عَنْ ذَبَائِحِ الْيَهُودِ والنَّصَارَى؟ فَقَالَ: الذَّبِيحَةُ اسْمٌ، ولاَ يُؤْمَنُ عَلَى الاِسْمِ إِلاَّ مُسْلِمٌ([86]).

والمشهور على تصحيح العِدَد ـ كما ذكرنا سابقاً ـ، وعليه فالرواية صحيحة لمَنْ صحَّحها.

وهي تفيد حصر ائتمان الاسم في الذبيحة بالمسلم.

8ـ روى محمد بن يعقوب الكليني، عن أَبِي عَلِيٍّ الأَشْعَرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ، عَنْ قُتَيْبَةَ الأَعْشَى قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ أَبَا عَبْدِ الله×، وأَنَا عِنْدَه، فَقَالَ لَه: الْغَنَمُ يُرْسَلُ فِيهَا ـ الْيَهُودِيُّ والنَّصْرَانِيُّ، فَتَعْرِضُ فِيهَا الْعَارِضَةُ، فَيَذْبَحُ، أنَأْكُلُ ذَبِيحَتَه؟ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله×: لاَ تُدْخِلْ ثَمَنَهَا مَالَكَ، ولاَ تَأْكُلْهَا، فَإِنَّمَا هُوَ الاِسْمُ، ولاَ يُؤْمَنُ عَلَيْه إِلاَّ مُسْلِمٌ، فَقَالَ لَه الرَّجُلُ قَالَ الله تَعَالَى: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ﴾، فَقَالَ لَه أَبُو عَبْدِ الله×: كَانَ أَبِي× يَقُولُ: إِنَّمَا هُوَ الْحُبُوبُ وأَشْبَاهُهَا([87]).

والرواية صحيحة سنداً.

 والرواية في القسم الأوّل من متنها، الذي قبل الآية، قريبةٌ من رواياتٍ أُخَر مذكورة، مثل: الرواية الأولى المذكورة في هذا الباب، مع فارق أنه قال في الأولى: «ما أحبّ» وقال هنا: «لا تُدخل». ويعلِّق الشهيد الثاني على هذا القسم قائلاً: لكنْ لا دلالة فيها على التحريم، بل تدلّ على الحلّ؛ لأن قوله: «لا تُدخل ثمنها مالك» ممّا يدلّ على جواز بيعها، وإلاّ لما صدق الثمن في مقابلتها، ولو كانت ميتةً لما جاز بيعها، ولا قبض ثمنها. وعدم إدخال ثمنها في ماله يكفي فيه كونها مكروهةً، ويكون حال النهي عن أكلها كذلك؛ حَذَراً من التناقض([88]).

9ـ روى عليّ بن إبراهيم القمّي في التفسير: وَأَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ فَضَالَةَ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ سَيْفِ بْنِ عَمِيرَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ اَلْحَضْرَمِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ×، قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ صَيْدِ اَلْبُزَاةِ وَاَلصُّقُورِ وَاَلْفُهُودِ وَاَلْكِلاَبِ؟ قَالَ: لاَ تَأْكُلُوا إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ، إِلاَّ اَلْكِلاَبَ، قُلْتُ: فَإِنْ قَتَلَهُ؟ قَالَ: كُلْ؛ فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ: ﴿وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾، ثُمَّ قَالَ×: كُلُّ شَيْءٍ مِنَ اَلسِّبَاعِ تُمْسِكُ اَلصَّيْدَ عَلَى نَفْسِهَا، إِلاَّ اَلْكِلاَبَ اَلْمُعَلَّمَةَ، فَإِنَّهَا تُمْسِكُ عَلَى صَاحِبِهَا، قَالَ: إِذَا أَرْسَلْتَ اَلْكَلْبَ اَلْمُعَلَّمَ، فَاذْكُرُوا اسْمَ الله عَلَيْهِ، فَهُوَ ذَكَاتُهُ، وَقَوْلُهُ: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ﴾ قَالَ: عَنَى بِطَعَامِهِمُ اَلْحُبُوبَ وَاَلْفَاكِهَةَ، غَيْرَ اَلذَّبَائِحِ اَلَّتِي يَذْبَحُونَهَا؛ فَإِنَّهُمْ لاَ يَذْكُرُونَ اِسْمَ اللهِ عَلَى ذَبَائِحِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: وَاللهِ مَا اسْتَحَلُّوا ذَبَائِحَكُمْ، فَكَيْفَ تَسْتَحِلُّونَ ذَبَائِحَهُمْ؟!([89]).

والرواية صحيحة السند.

وهي بعد إشارتها إلى القاعدة العامّة: «لا تأكلوا إلاّ ما ذكيتم»، ثم حديثه عن ذبيحة الكلاب، يذكر وجه وسبب تقييد الآية بغير الذبائح؛ حيث «إنهم لا يذكرون اسم الله على ذبائحهم»، ولم يقُلْ: الذبائح، بل قال: ذبائحهم. ويمكن استفادة التمييز بين ما يذبحه اليهود والنصارى لأنفسهم وبين ما يقصد ذبحه اليهود والنصارى للمسلمين.

 ثمّ قوله: «والله ما استحلّوا» فيه قَسَمٌ واستنكار؛ إذ كيف تستحلّون ذبائحهم، وهم لا يستحلّون ذبائحكم؟! ويمكن بيان هذه العبارة وفق احتمالات ثلاث:

 الاحتمال الأول: إن أهل الكتاب لا يستحلّون ذبائح المسلمين؛ بسبب نفس إسلامهم. وهذا هو الظاهر من العبارة، لكنه لا ينسجم مع السياق؛ لكون الحديث حول الاسم، وأنهم لا يذكرون اسم الله على ذبائحهم.

الاحتمال الثاني: إن أهل الكتاب لا يستحلّون ذبائحهم؛ بسبب طريقة المسلمين في الذبح. وهذا كما ترى ينسجم مع سياق الرواية؛ إذ إنها من أوّلها إلى أخرها تتحدث عن التذكية والتسمية، وبذلك يستنكر عليهم الإمام أنه كيف بعد ذلك تستحلّون ذبائحهم؟! فبالتأكيد هم لا يلتزمون بشروط التذكية. ويشهد على ذلك الرواية القادمة.

الاحتمال الثالث: وقد يمكن تصوُّر وجهٍ آخر، وهو تحريمها بعنوانين: أحدهما: أوّلي، وهو عدم التسمية؛ والثاني: ثانويّ، مرتبط بالتعاطي بالمثل مع المِلَل الأخرى، إلاّ أن ذلك لا ينسجم مع سياق الرواية الآتية، التي تماثلها مضموناً، وتفوقها بياناً.

10ـ روى محمد بن يعقوب الكليني، عن عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيه، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِه قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله× عَنْ ذَبِيحَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ؟ قَالَ: فَقَالَ: والله مَا يَأْكُلُونَ ذَبَائِحَكُمْ، فَكَيْفَ تَسْتَحِلُّونَ أَنْ تَأْكُلُوا ذَبَائِحَهُمْ؟! إِنَّمَا هُوَ الاِسْمُ، ولاَ يُؤْمَنُ عَلَيْهَا إِلاَّ مُسْلِمٌ([90]).

والرواية في سندها أصحاب ابن أبي عمير، وفيهم كلامٌ، إلاّ أن المشهور توثيقهم. وعلى أيّ حالٍ على القول بتوثيق أصحاب ابن أبي عمير الروايةُ صحيحة.

وفي هذه الرواية، مضافاً إلى البيان المذكور سابقاً في الرواية السابقة، يوجد ترتيبٌ في عبارة الإمام، وليست متقطعة، كما يظهر من الرواية السابقة، وقد استبدل الإمام أو الراوي فيها لفظ «يأكلون» بـ «يستحلّون».

وفق ذلك فإن الإمام بعد استنكاره عليهم أكلها، وفق عبارته: «والله ما يأكلون… فكيف تستحلّون»، ذكر عبارته «إنما هو الاسم…». وهذا يؤيِّد الاحتمال الثاني المذكور في الرواية السابقة.

11ـ روى محمد بن يعقوب الكليني، عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْعَبَّاسِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ قُتَيْبَةَ الأَعْشَى، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله×، قَالَ: رَأَيْتُ عِنْدَه رَجُلاً يَسْأَلُه، فَقَالَ: إِنَّ لِي أَخاً فَيُسْلِفُ فِي الْغَنَمِ فِي الْجِبَالِ، فَيُعْطِي السِّنَّ مَكَانَ السِّنِّ، فَقَالَ: ألَيْسَ بِطِيبَةِ نَفْسٍ مِنْ أَصْحَابِه؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَلاَ بَأْسَ، قَالَ: فَإِنَّه يَكُونُ لَه فِيهَا الْوَكِيلُ، فَيَكُونُ يَهُودِيّاً أَوْ نَصْرَانِيّاً، فَتَقَعُ فِيهَا الْعَارِضَةُ، فَيَبِيعُهَا مَذْبُوحَةً، ويَأْتِيه بِثَمَنِهَا، ورُبَّمَا مَلَّحَهَا فَيَأْتِيه بِهَا مَمْلُوحَةً، قَالَ: فَقَالَ: إِنْ أَتَاه بِثَمَنِهَا فَلاَ يُخَالِطْه بِمَالِه، ولاَ يُحَرِّكْه، وإِنْ أَتَاه بِهَا مَمْلُوحَةً فَلاَ يَأْكُلْهَا؛ فَإِنَّمَا هُوَ الاِسْمُ ولَيْسَ يُؤْمَنُ عَلَى الاِسْمِ إِلاَّ مُسْلِمٌ، فَقَالَ لَه بَعْضُ مَنْ فِي الْبَيْتِ: فَأَيْنَ قَوْلُ الله عَزَّ وجَلَّ: ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ﴾؟ فَقَالَ: إِنَّ أَبِي× كَانَ يَقُولُ: ذَلِكَ الْحُبُوبُ ومَا أَشْبَهَهَ([91]).

والرواية ضعيفةٌ سنداً بمنصور بن العبّاس. كما أن فيها ترديداً من جهة بعض أصحابنا.

وعلى أيّ حالٍ الرواية بمضمونها تقارب عدّة رواياتٍ صحيحة تمّ الحديث عن كلّ واحدةٍ منها على حِدَة.

ونتيجة الروايات في العنوان الخامس: وجود خمس روايات صحيحة، تامّة السند.

6ـ النهي عن أكل ذبائح المجوس

1ـ روى عبد الله بن جعفر، في قرب الإسناد، عن الحسن بن ظريف، عن الحسين بن علوان، عن جعفر، عن أبيه، أن عليّاً× كان يقول: كلوا من طعام المجوس كلّه، ما خلا ذبايحهم؛ فإنها لا تحلّ، وإنْ ذُكر اسم الله عليها([92]).

والرواية ضعيفةٌ بالحسين بن علوان.

وعلى أيّ حالٍ لا يوجد خصوصيّةٌ لنفس المجوس، على ما يظهر؛ لضعف الرواية، وما ورد من رواياتٍ سابقة تتحدَّث عن المجوس وغيرهم.

7ـ النهي عن أكل ذبيحة نصارى تغلب

1ـ روى الطوسي بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن عليّ، عن أبي بصير قال: قال لي أبو عبد الله×: لا تأكل من ذبيحة المجوسي، قال: وقال: لا تأكل ذبيحة نصارى تغلب؛ فإنهم مشركو العرب([93]).

يوجد إلى الرواية عشر طرقٍ، وفي جميعها القاسم بن محمد، وفيه خلافٌ؛ وعليّ بن أبي حمزة البطائني الواقفي، وفيه خلاف أيضاً.

ومع توثيقهما، وتصحيح الرواية، فإنها تشير إلى وجود فِرَقٍ ضمن النصارى، ومن هذه الفِرَق «نصارى تغلب»، الذين ينهى الإمام عن أكل ذبيحتهم بالخصوص.

ملاحظةٌ: يذكر العلاّمة الحلّي في تذكرة الفقهاء أن التغلبيّين هم أنفسهم نصارى العرب([94]).

8ـ النهي عن أكل ذبيحة نصارى العرب

1ـ روى الطوسي بإسناده عن فضالة بن أيّوب، عن القاسم بن بريد، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر× قال: كُلْ ذبيحة المشرك إذا ذكر اسم الله عليها وأنت تسمع، ولا تأكل ذبيحة نصارى العرب.

وقد أُحصي لها تسعة أسانيد، والرواية صحيحة السند.

والرواية ملفتةٌ من جهة أنها تحلِّل ذبيحة كلّ مشركٍ مع ذكر اسم الله عليها وسماع ذلك، إلاّ ذبيحة نصارى العرب ـ وهم بهرا وينوح وتغلب([95]) ـ كما يستظهر من الرواية تخريجهم؛ ويبدو أن ذلك لعداءٍ موجود؛ حيث إنهم أخلفوا بالصلح مع المسلمين ولم يدفعوا الجِزْية. وفي سنن البيهقي([96]) أن عمر قال: ما نصارى العرب بأهل كتابٍ، وما تحلّ لنا ذبائحهم، وما أنا بتاركهم حتّى يسلموا أو أضرب أعناقهم([97]). وفي كنز العمّال ([98]) (مسند عمر)، عن مغيرة بن السفاح بن المثنى الشيباني، عن زرعة بن النعمان، أو النعمان بن زرعة، أنه سأل عمر بن الخطّاب، وكلَّمه في نصارى بني تغلب، قال: وكان عمر قد همَّ أن يأخذ منهم الجِزْية، فتفرَّقوا في البلاد، فقال النعمان بن زرعة لعمر: يا أمير المؤمنين، إن بني تغلب قوم عرب يأنفون من الجِزْية، وليس لهم أموالٌ، إنما هم أصحاب حروث ومواشٍ، ولهم نكايةٌ في العدوّ، فلا تُعِنْ عدوّك عليك بهم، فصالحهم عمر على أن أضعف عليهم الصدقة، واشترط عليهم أن لا ينصروا أولادهم، قال مغيرة: فحدّثت أن عليّاً قال: لئن تفرّغت لبني تغلب ليكوننّ لي فيهم رأيٌ، لأقتلنّ مقاتلتهم، ولأسبينّ ذراريهم، قد نقضوا العهد، وبرئَتْ منهم الذمّة؛ حيث نصروا أولادهم.

وأيضاً عن داوود بن كردوس([99]) قال: صالحْتُ عمر بن الخطاب عن بني تغلب بعدما قطعوا الفرات، وأرادوا اللحوق بالروم، على أن لا يصبغوا صبيانهم، ولا يكرهوا على دين غير دينهم، وعلى أن عليهم العشر مضاعفاً من كلّ عشرين درهماً درهم.

ولكنّ ابن قدامة يُخَطِّئ عمر في تمييزه نصارى العرب على غيرهم!([100]).

وقد ورد في السياق ذاته ما يمكن أن يشهد على ما تمّ ذكرُه بخصوص عليّ×، وهو رواية صحيحة السند عن أمير المؤمنين: عن يوسف بن عقيل، عن محمد بن قيس، عن أبي جعفر× قال: قال أمير المؤمنين×: لا تأكلوا ذبيحة نصارى العرب؛ فإنهم ليسوا أهل الكتاب([101]).

إلاّ أن الشهيد الثاني قال في المسالك: «ووجه تخصيصه نصارى العرب أن تنصُّرهم وقع في الإسلام، فلا يقبل منهم»([102]). ولم يذكر دليله على ذلك. ولعل ما ذكره الشهيد الثاني هو نتيجة لما تمّ عرضه؛ بمقتضى الجمع بين الرأيين. ولكنْ هل أن تنصُّر قومٍ في الإسلام أو بعده يؤدّي إلى مثل هذا التعاطي معهم؟!

في كلا الحالين هذا يؤكِّد وجود خصوصية لنصارى العرب، وهي رُبَما دلَّتْ على أصل الحلّ في تناول ذبيحة النصارى؛ فإن نهيه عن الأكل من ذبائح نصارى العرب، لا مطلق النصارى! ولو كان التحريم عامّاً لما كان للتخصيص فائدةٌ([103]).

2ـ روى محمد بن يعقوب الكليني، عن عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ، عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ رَزِينٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ×، قَالَ: سَأَلْتُه عَنْ نَصَارَى الْعَرَبِ، أتُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُمْ؟ فَقَالَ: كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ× يَنْهَى عَنْ ذَبَائِحِهِمْ وصَيْدِهِمْ ومُنَاكَحَتِهِمْ([104]).

وسند الحديث صحيحٌ لو قلنا بتصحيح العِدَد، كما ذهب المشهور.

لكنْ هل حقّاً صيدهم ومناكحتهم حرامٌ مطلقاً؟! ولعلّ كلّ هذا التحريم يؤكِّد ما ذُكر سابقاً من وجود خصوصيّةٍ في نصارى العرب، كما بيَّناه.

3ـ روى الطوسي بإسناده عن فضالة بن أيّوب، عن القاسم بن بريد، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر×، في حديثٍ، قال: لا تأكل ذبيحة نصارى العرب([105]).

ويوجد للرواية تسع طرقٍ، وسند الرواية صحيحٌ.

وهي كما ترى تنهى عن أكل ذبيحة نصارى العرب.

9ـ النهي عن ذبح الكتابيّ أضاحي المسلمين

1ـ قال محمد بن عليّ بن الحسين (الصدوق): وفي كتاب عليٍّ×: لا يذبح المجوسي ولا النصراني ولا نصارى العرب الأضاحي، وقال: تأكل ذبيحته إذا ذكر الله عزَّ وجلَّ([106]).

وهي من مراسيل الصدوق؛ فمَنْ قال بحجِّيتها صحَّحها.

والرواية تميِّز بين ذبح الأضاحي وغيره. ووفق ذلك نهى الإمام عن ذبح الأضاحي من قِبَل غير المسلم، وجواز ذبحها من قِبَل النصراني أو المجوسي أو حتّى نصارى العرب في غير الأضاحي إذا ذُكر اسم الله عليها. وعلى هذا، فإن المدار على التسمية، كما يظهر.

2ـ روى الطوسي بإسناده عن فضالة، عن أبان، عن سلمة أبي حفص، عن أبي عبد الله×، أن عليّاً× كان يقول: لا يذبح ضحاياك اليهود ولا النصارى، ولا يذبحها إلاّ مسلم([107]).

ويوجد مشكلة في السند بسبب أبان بن عثمان وسلمة أبي حفص.

وموضوع النهي فيها هو ذبح الأضاحي، كما هو واضحٌ.

3ـ روى الطوسي بإسناده عن الصفّار، عن الحسن بن موسى الخشّاب، عن غياث بن كلوب، عن إسحاق بن عمّار، عن جعفر، عن أبيه، أن عليّاً× كان يقول: لا يذبح نسككم إلاّ أهل ملّتكم، ولا تصدَّقوا بشيءٍ من نسككم إلاّ على المسلمين، وتصدَّقوا بما سواه، غير الزكاة، على أهل الذمّة.

وسند الرواية صحيحٌ، والعجيب أن غياث بن كلوب ينقل روايةً على خلاف مذهبه؛ حيث إنه عامي. كما أن إسحاق بن عمار ـ سواء كان إسحاق بن عمار بن حيّان، كما عيَّنه النجاشي، أو إسحاق بن عمّار الساباطي، كما ذكره الشيخ([108]) ـ ثقةٌ.

وتشير الرواية إلى أن ذابح النسك يجب أن يكون من أهل الملّة، وقد يكون المقصود تشيُّعه، فتعارض الروايات التي دلَّتْ على الاكتفاء بشرط الإسلام. والكلام كما ترى في النسك والأضاحي.

4ـ روى الطوسي بإسناده عن النضر بن سويد، عن عاصم بن حميد، عن أبي بصير ـ يعنى المرادي ـ قال: سمعتُ أبا عبد الله× يقول: لا يذبح أضحيتك يهودي ولا نصراني ولا مجوسي، وإنْ كانت امرأةً فلتذبح لنفسها([109]).

وسند الرواية صحيحٌ.

لكن الكلام في دلالتها، والكلام كلّ الكلام في الأضحية.

وقال الشهيد الثاني في التعليق على روايات الأضحية: النهي ورد عن ذبح الأضحية، وهذا قد يعني أن غير الأضحية ليس منهيّاً عنه. والمفهوم وإنْ لم يكن حجّةً، إلاّ أن التخصيص بالأضحية لا نكتة فيه لو كانت ذبائحهم محرّمة مطلقاً. والإنصاف أن هذا النهي ظاهرٌ في الكراهة لذبح الأضحية أيضاً، لا التحريم، بل فيها زيادة أن الأضحية لا يتولّى ذبحها إلاّ مالكها، وإنْ كان امرأةً، وهو مقرَّر في بابها أيضاً، حتّى لو لم يحسن الذباحة جعل يده في يد الذابح. وقريبٌ منها رواية إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد الله×، أن عليّاً× كان يقول: «لا يذبح نسككم إلاّ أهل ملّتكم»([110]).

10ـ النهي عن أكل ذبيحة مَنْ خالف الدِّين

1ـ قال الصدوق: وقال الصادق×: لا تأكل ذبيحة اليهودي والنصراني والمجوسي وجميع مَنْ خالف الدين، إلا إذا سمعْتَه يذكر اسم الله عليها([111]).

وهذه روايةٌ مرسلة عن الصدوق. ولو صحَّت فهي تفيد أن المعيار الوحيد للتذكية هو التسمية، بشرط سماعها.

2ـ روى الطوسي بإسناده عن فضالة بن أيّوب، عن القاسم بن بريد، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر× قال: كُلْ ذبيحة المشرك إذا ذكر اسم الله عليها وأنت تسمع، ولا تأكل ذبيحة نصارى العرب.

وقد أُحصي فيها تسعة أسانيد، والرواية صحيحة السند.

وهي تفيد حلِّية ذبيحة المشرك إذا ذكر اسم الله على الذبيحة، مع اشتراط السماع، كما يظهر.

وفي الروايات ـ كما ظهر ـ اختلافٌ شديد؛ فبين عدم البأس في تناول ذباحة أهل الكتاب؛ وبين عدم جواز أكلها؛ وبين كون المدار على التسمية، وبين النهي عن أصل الذباحة. ووفق ذلك كلِّه يمكن أن يظهر السبب خلف البَوْن الشاسع في آراء الفقهاء حول المسألة.

رابعاً: مقارباتٌ وحلول

يمكن ملاحظة عددٍ من النقاط في تحليل الروايات:

 أوّلاً: إن الروايات الصحيحة الواردة في الحرمة المطلقة محصورةٌ بروايةٍ أو روايتان. وقد يمكن تأويلها (بأنها تحت عنوان الأضاحي أو ما شاكل). ولعله لذلك قال الشهيد الثاني في مسالكه: وأما الروايات فالقول فيها إجمالاً: إن الصحيح منها لا دلالة فيه على التحريم؛ وغير الصحيح لا عبرة به، لو سلِّمت دلالتها. في مقابل ثلاث روايات في الحلّ، واضحة الدلالة، وصحيحة السند. هذا، غير الروايات التي علقت التذكية على التسمية، والتي نالت الحجم الأكبر من التراث.

ثانياً: يظهر وجود جماعاتٍ مختلفة في (النصارى واليهود)، كما يظهر من لسان الروايات الواردة في هذا العنوان وغيره من العناوين: (أهل الملة، الذين في الكوفة، نصارى العرب، نصارى تغلب، أهل الكتاب الذين في الجبل، النصارى الذين يوجد معهم قرابة، الذين على أمر موسى وعيسى). ولا يستبعد اتحاد بعضهم.

وعلى ذلك قد يمكن استقراء وجهٍ لاختلاف التعاطي معهم؛ فمثلاً: النصارى الذين بالكوفة يعني الذين هم في قلب دولة المسلمين، كان الأصحاب يذهبون إليهم، ويبدو أن ذلك كان أمراً عادياً طبيعيّاً حتّى نبَّههم الإمام لأمرٍ، وأيضاً النصراني الذي يوجد معه قرابة، وغيرهم، في مقابل جماعاتٍ حسم الإمام قضية ذبائحهم، أو علَّقها على الاسم.

ثالثاً: يظهر من الروايات أن لحرمة التناول أسباباً متفاوتة، فيلحظ المتتبِّع للروايات رجوع السبب أحياناً إلى عدم التسمية؛ وتارة أخرى إلى عدم شرائهم من سوق المسلمين؛ وطوراً إلى الاضطرار.

رابعاً: إن الإمام تارةً يجعل موضوع النهي الذبيحة وتناولها؛ وأخرى نفس الذبح. ويمكن ملاحظة ذلك بالمقارنة بين مجمل روايات الأضاحي، حيث نهى الإمام فيها عن فعل الذبح من قِبَل الغير (اليهود والنصارى…) وبين الروايات الأخرى التي تحدّثت عن الذبيحة، لا فعل الذبح. نعم، قد استعمل الفعل عَرَضاً أحياناً في غير الأضاحي، مثل: «فَتَعْرِضُ فِيهَا الْعَارِضَةُ، فَيَذْبَحُ، أنَأْكُلُ ذَبِيحَتَه؟».

وأيضاً تكرَّر استخدام الأئمّة لعبارة: «إن الذبيحة بالاسم»، مع أنه كان بإمكانهم أن يقولوا: إن الذبح بالاسم، لكنهم لم يفعلوا ـ مع الالتفات إلى أن نقل الروايات يكون بالمعنى أحياناً ـ، ولعلّ في هذا إشارةً إلى أنه يوجد فرقٌ بين أن تكون المشكلة بالذبيحة أو بالذباحة.

خامساً: قد ذكرنا أن هذه العبارة «إن الذبيحة بالاسم، ولا يؤمن عليها إلا مسلمٌ» مشتركةٌ في معظم روايات عنوان التسمية، وهي تؤكِّد على أن الذبيحة بالاسم، وليس بالذابح. نعم، لكنْ لا يؤمن عليها إلاّ مسلم، من جهة تسميته أو سماعه الاسم، أو نقله له من خلال مسلم.

سادساً: ورود روايات توجيهية بالحرمة (نصارى العرب أو نصارى تغلب)، ومع أنه ليس لهذا المنطوق مفهومٌ، إلاّ أن هذا التوجّه العامّ عادةً لا يفهمه العُرْف إلاّ تخصيصاً بالحرمة، أو توجيهاً لها دون غيرها، إلاّ مع وجود قرينةٍ على عكس ذلك. ومثلُ ذلك نصّ أمير المؤمنين حول نصارى العرب، حيث قال: إنهم ليسوا من أهل الكتاب، فهذا يعني أن هناك اطمئناناً لأهل الكتاب؛ وإلا فما نفع هذا البيان مع تحريم ذبائحهم من عهد رسول الله!

والكلمات المفتاح لحلّ التعارض في الروايات: الذبيحة بالاسم، أهل الجبل، أهل الكتاب، ذكر اسم الله وأنت تسمع، قرابة، الذبيحة، والذباحة.

ووفق ما تمّ تقديمه يمكن تصوُّر احتمالاتٍ عديدة لحلّ التعارض:

1ـ الحمل على التقيّة

وقد تبنّاه مشهور الفقهاء؛ إذ اعتبروا أن روايات الحلّ محمولةٌ على التقيّة؛ لاتفاق أهل العامّة على الحِلّ من جهةٍ؛ وروايةٍ اعتمدوا عليها ـ تمّت الإشارة إليها ـ.

ويَرِدُ على هذا الاحتمال: إنه لا يوجد دليلٌ أو إشارةٌ يعتدّ بها لحمل الروايات المخالفة على التقيّة؛ إذ إن الرواية التي اعتمد عليها الفقهاء للاستدلال على التقيّة رواية ضعيفة، ولا يمكن تأويل روايات الحلّ العديدة بروايةٍ ضعيفة، فكيف إذا كانت روايات التحريم المطلق أقلّ اعتباراً من روايات الحِلّ المطلق.

وأضِفْ إلى ذلك: أوّلاً: إنه لو كان يجب على الإمام أن يتّقي من القول بالحرمة في الروايات فالأَوْلى فعل ذلك أمام أهل الجبل، الذين لا يعرفهم أصحاب الإمام ـ كما يظهر في عددٍ من الروايات ـ.

وقد يُشْكَل بأنهم يعرفون الإمام، والإمام يعرفهم، دون معرفة الأصحاب بذلك.

والجواب: هذا احتمالٌ وارد مع عدم توثيق أبي بصير الوارد في الروايات؛ أما مع توثيقه فإنه لا يمكن تبنّي مثل هذا الردّ؛ لأن النتيجة بحَسَب الروايات ستكون بأن الإمام يتّقي من إخبار أبي بصير، ولا يتّقي من إخبار أهل الجبل!

ثانياً: إنه لو أراد الإمام التقيّة لاكتفى بالحدّ الأدنى منه، الذي يُرضي أهل العامّة، وليس بالضرورة أن يزيد على ذلك، كما في الرواية الصحيحة التي وردَتْ في عنوان الأصل في الذباحة، حيث قال: «إذا غاب فكُلْ»، وغيرها.

ثالثاً: إن أحداً من العامّة لا يشترط في حلِّية ذبائح أهل الكتاب سماع التسمية منهم، فحينها تصير كلّ الأخبار الصحيحة الواردة حول التسمية لَغْواً؛ إذ لا يمكن حملها على التقيّة.

2ـ الحمل على الاضطرار

وذلك بأن تُحمَل أحاديث الحلّ على الاضطرار، كما في روايةٍ واردة سابقاً([112]).

ويَرِدُ على هذا الاحتمال: أوّلاً: إن الرواية الواردة روايةٌ ضعيفة وفريدة، ولا يمكن من خلالها تأويل كثيرٍ من الروايات التي أفادَتْ الحِلّ، أو وجوب التسمية، مع أنها لم تتحدَّث عن الاضطرار بتاتاً.

ثانياً: إن ذلك تحصيلٌ للحاصل؛ فعند خوف الهلاك يحلّ تناولها كما يحلّ تناول الميتة أو أيّ شيءٍ آخر، ولا يشترط لحلِّيتها التسمية عليها، ولا سماع التسمية، ولا شهادة مسلمٍ على التسمية، فيكون ذلك كلّه في الأخبار الصحيحة لَغْواً([113]).

وتجدر الإشارة، تعليقاً على الحلَّين المذكورين، إلى أنه لو لم يكن بُدٌّ من تغليب إحدى الروايات على الأخرى؛ لحلّ التعارض الحاصل، فمن الأَوْلى تغليب روايات الحلّ، وتأويل روايات الحرمة، وليس العكس؛ لقوّتها، وسقوط الاحتمالين المذكورين.

ولكنْ يظهر عدم الحاجة إلى ذلك، كما يظهر من الاحتمال الثالث التالي.

3ـ مداريّة التسمية في الحرمة والحلِّية

وهذا مفادُ قسمٍ كبيرٍ من الروايات التي علَّقت التذكية على التسمية، ويمكن من خلالها الجمع بين الرويات المتعارضة. ووفق هذا يقول الشهيد الثاني: وبما ذكَرْناه من الأخبار ظهر دليلُ القائل بالتفصيل، وهو الحِلّ مع سماع تسميتهم، والتحريم بدونه. وهو جامعٌ أيضاً بين الأخبار، بحمل ما اشتمل على النهي على ما لم يُسَمَّ عليه، والإباحة على ما علم تسميتهم عليه.

وهذا أيضاً راجعٌ إلى حِلّ ذبيحتهم؛ لأن الكلام في حِلّها من حيث إن الذابح كتابيّ، لا من حيث إنه سمّى أو لم يسمِّ؛ فإن المسلم لو لم يسمِّ لم تؤكل ذبيحته، كما عرفْتَ.

اللهمّ إلاّ أن يُفَرَّق بأن الكتابي يعتبر سماع تسميته، والمسلم يعتبر فيه عدم العلم بعدم تسميته.

وفيه: ما الفرق؟ فقد صرَّح في صحيحة جميل بالحِلّ ما لم يعلم عدم تسميتهم، كالمسلم([114]).

ويظهر من العلاّمة المجلسي، رغم تشدُّده، الاضطرار إلى القول بمثل ذلك على مَضَضٍ، حيث قال: «ويظهر من بعض الأخبار أن حكمهم واقعاً حكم سائر الكفار في جميع الأحكام، بل أشدّ، لكنْ جوَّزوا لنا في زمان الهدنة أكل ذبائحهم، وعدم الاجتناب عنهم، والتزوُّج منهم، وإجراء أحكام الإسلام ظاهراً عليهم، إلى ظهور الحقّ وقيام القائم×…»([115]). وظاهر ذلك كلّه أن ذبائح أهل الكتاب ليست محرَّمةً بقولٍ مطلق، بل بلحاظ أنَّه لا بُدَّ في حِلّ الذبيحة من إحراز التسمية التي هي الشرط الأساس ـ كما ذُكر في القرآن ـ، ولا مجال لإحرازها في ذبيحة الكتابي الذي لا يرى شرطيّتها، فلا يوثق بقوله إيّاها أثناء الذبح. فلو أحرَزْنا التسمية، مع شروط التذكية، كانت الذبيحة حلالاً. وهذا ما يُفْهَم من التأكيد في أحاديث أئمّة أهل البيت× على الاسم الذي لا بُدَّ من إحرازه في الذبح وحلِّية الذبيحة. وهذا ما أفتى به الصدوق وابن أبي عقيل وابن الجنيد وبعض الفقهاء المعاصرين([116]).

ويمكن ذكر شواهد عديدة على هذا الاحتمال ـ وهو أن المدار في حلِّية التناول متوقِّفٌ على التسمية ـ، وأبرزها:

الشاهد الأوّل: روى الطوسي بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن زرارة، عن حمران قال: سمعتُ أبا جعفر× يقول في ذبيحة الناصب واليهودي والنصراني: لا تأكل ذبيحته حتّى تسمعه يذكر اسم الله، فقلتُ: المجوسي؟ فقال: نعم، إذا سمعْتَه يذكر اسم الله، أما سمعْتَ قول الله: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ([117]).

وقد أرجع الامام كلامه إلى آية: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ﴾، كما فعل في عددٍ من الروايات، وهذا يعني ان المدار هو على التسمية، كما ذكرت الآية. أما السماع فهو إضافة من الإمام. ولكنْ هل هي بمثابة حكمٍ؟ لم يظهر ذلك من خلال الروايات التي دلَّت على الحِلّ مطلقاً، أو على الاكتفاء بالذِّكْر. ويبدو أن ذلك يرجع إلى تشخيص الحاكم أو المكلَّف في تشخيص أقوام أهل الكتاب ومدى التزامهم؛ فمنهم مَنْ قد يطمأن له دون سماعٍ، كما يمكن ملاحظة ذلك في بعض المناطق ذات الأغلبية المسلمة ـ كما في رواية الكوفة ـ؛ ومنهم مَنْ قد لا يُؤكل منه مطلقاً لحكم ٍثانويّ، كالصهاينة مثلاً، أو نصارى العرب، كما مرّ؛ ومنهم مَنْ يحتاج أن تسمعهم؛ لعدم الاطمئنان لتسميتهم؛ لسببٍ أو آخر. لكنْ من الواضح أنه لا يمكن معاملتهم معاملة المسلم من جهة حسن الظنّ بهم مطلقاً، بل إن ذلك متوقِّفٌ على معاشرتهم.

الشاهد الثاني: الرواية التي تحدَّثت عن أهل الكتاب بالكوفة، والذين يبدو أنهم كانوا ملتزمين بالتسمية، أو أن قوماً أخرين منهم كانوا ملتزمين بالتسمية، ولكنّ الإمام؛ لاطِّلاعه على حقيقة ما يفعلونه من عدم التسمية، أمرهم بالامتناع. وهذا متن الرواية: روى محمد بن يعقوب الكليني، عن عَلِيِّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ حَنَانِ بْنِ سَدِيرٍ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى أَبِي عَبْدِ الله×، أَنَا وأَبِي، فَقُلْنَا لَه: جَعَلَنَا الله فِدَاكَ، إِنَّ لَنَا خُلَطَاءَ مِنَ النَّصَارَى، وإِنَّا نَأْتِيهِمْ فَيَذْبَحُونَ لَنَا الدَّجَاجَ والْفِرَاخَ والْجِدَاءَ، أفَنَأْكُلُهَا؟ قَالَ: فَقَالَ: لاَ تَأْكُلُوهَا، ولاَ تَقْرَبُوهَا؛ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ عَلَى ذَبَائِحِهِمْ مَا لاَ أُحِبُّ لَكُمْ أَكْلَهَا، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا الْكُوفَةَ دَعَانَا بَعْضُهُمْ، فَأَبَيْنَا أَنْ نَذْهَبَ، فَقَالَ: مَا بَالُكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَّا ثُمَّ تَرَكْتُمُوه الْيَوْمَ؟ قَالَ: فَقُلْنَا: إِنَّ عَالِماً لَنَا× نَهَانَا، وزَعَمَ أَنَّكُمْ تَقُولُونَ عَلَى ذَبَائِحِكُمْ شَيْئاً لاَ يُحِبُّ لَنَا أَكْلَهَا، فَقَالَ: مَنْ هَذَا الْعَالِمُ؟ هَذَا والله أَعْلَمُ النَّاسِ، وأَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ الله، صَدَقَ والله، إِنَّا لَنَقُولُ بِاسْمِ الْمَسِيحِ×([118]).

ويظهر من الرواية أنهم كانوا يلبّون دعوة النصراني «ما بالكم كنتم تأتون ثم تركتموه اليوم؟»، فأوضح أصحاب الإمام السبب، ما أدّى إلى تعجُّب السائل؛ إكباراً للإمام، ثم أكَّد النصراني بشرحه ما ذهب إليه الإمام.

ومثل ذلك الشاهد الثالث.

الشّاهد الثالث: روى محمد بن يعقوب الكليني، عن مُحَمَّدِ بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ حَنَانِ بْنِ سَدِيرٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْمُنْذِرِ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ الله×: إِنَّا قَوْمٌ نَخْتَلِفُ إِلَى الْجَبَلِ، والطَّرِيقُ بَعِيدٌ، بَيْنَنَا وبَيْنَ الْجَبَلِ فَرَاسِخُ، فَنَشْتَرِي الْقَطِيعَ والاثْنَيْنِ والثَّلاَثَةَ، ويَكُونُ فِي الْقَطِيعِ أَلْفٌ وخَمْسُمِائَةِ شَاةٍ وأَلْفٌ وسِتُّمِائَةِ شَاةٍ وأَلْفٌ وسَبْعُمِائَةِ شَاةٍ، فَتَقَعُ الشَّاةُ والاثْنَتَانِ والثَّلاَثَةُ، فَنَسْأَلُ الرُّعَاةَ الَّذِينَ يَجِيئُونَ بِهَا عَنْ أَدْيَانِهِمْ، فَيَقُولُونَ: نَصَارَى، قَالَ: فَقُلْتُ: أَيُّ شَيْءٍ قَوْلُكَ فِي ذَبِيحَةِ الْيَهُودِ والنَّصَارَى؟ فَقَالَ: يَا حُسَيْنُ، الذَّبِيحَةُ بِالاسْمِ، ولاَ يُؤْمَنُ عَلَيْهَا إِلاَّ أَهْلُ التَّوْحِيدِ([119]).

وروى محمد بن يعقوب الكليني، عن مُحَمَّدِ بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ حَنَانٍ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ الله×: إِنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ الْمُنْذِرِ رَوَى عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتَ: إِنَّ الذَّبِيحَةَ بِالاسْمِ، ولاَ يُؤْمَنُ عَلَيْهَا إِلاَّ أَهْلُهَا، فَقَالَ: إِنَّهُمْ أَحْدَثُوا فِيهَا شَيْئاً لاَ أَشْتَهِيه، قَالَ حَنَانٌ: فَسَأَلْتُ نَصْرَانِيّاً، فَقُلْتُ لَه: أَيَّ شَيْءٍ تَقُولُونَ إِذَا ذَبَحْتُمْ؟ فَقَالَ: نَقُولُ بِاسْمِ الْمَسِيحِ([120]).

ويظهر أن الرواية الثانية هي سؤالٌ حول الرواية الأولى التي سبقَتْها؛ حيث إن حنان سمع الرواية الأولى من الحسين بن المنذر، وإذ لم يطمئنّ لنقله ذهب ليسأل الإمام، قائلاً له: «إن الحسين بن المنذر روى عنك»، وفيها نفس ما نقله الحسين بن المنذر عنه. وهي مع صحّتها ـ لوجود كلامٍ في الحسين بن المنذر ـ تصحِّح مجمل مضمون الرواية السابقة، فبعد أن أعطى الإمام القاعدة قال لحنان: إنهم أحدثوا شيئاً لا يشتهيه، فسألهم حنان، وعرف بحقيقة الأمر.

والأهمّ في ذلك كلِّه انسجام هذا الاحتمال مع ما ذُكِر من مفاد الآيات القرآنية، التي بُحثَتْ سابقاً.

التفاوت بين أهل الكتاب

لا بُدَّ من الإشارة إلى أنه ـ كما تمّ بيانه في ذيل الشّاهد الأول ـ قد يُتصوَّر فَرْقٌ لجهة الارتياح والسكون أو الثقة بأهل الكتاب أو مطلق الناس، كما يظهر من مجمل الروايات الواردة. ويظهر أن الروايات لا تتعامل معهم بنفسٍ واحدٍ، بل يظهر وجود اختلافٍ في التعامل معهم؛ إذ إن الروايات تميِّز بينهم؛ حيث يُكتفى منهم بالذكر دون السماع أحياناً؛ وأحياناً أخرى حلِّية أكل ذبيحتهم مطلقاً، وأصالة ذلك؛ وحيناً آخر العكس؛ وغير ذلك من ردّ المعصوم بـ «لا بأس»؛ أو اشتراط سماعهم أو نقل مسلمٍ… وكلّ هذه ـ حَسْب الظاهر ـ تشخيصاتُ المعصوم بحقّ الفرقة التي يتعاطى معها. وقد أشَرْنا سابقاً إلى أنه يظهر في متن الروايات وجودُ فِرَقٍ مختلفة؛ فمنهم مَنْ قد يُطمأنّ له دون سماعٍ، كما يمكن ملاحظة ذلك في بعض المناطق ذات الأغلبيّة المسلمة ـ كما قريب المسلم ـ؛ ومنهم مَنْ قد لا يُؤكل منه مطلقاً لحكمٍ ثانوي، ويمكن أن يكون نصارى العرب من هؤلاء؛ ومنهم مَنْ يحتاج أن تسمعهم؛ لعدم الاطمئنان لتسميتهم؛ لسببٍ أو آخر.

خامساً: إجزاء التسمية بالمسيح

لا بُدَّ من التحقيق في ذلك، من خلال مراجعة الروايات الدالّة على ذلك:

أوّلاً: روى محمد بن يعقوب الكليني، عن مُحَمَّدِ بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ حَنَانٍ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ الله×: إِنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ الْمُنْذِرِ رَوَى عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتَ: إِنَّ الذَّبِيحَةَ بِالاسْمِ، ولاَ يُؤْمَنُ عَلَيْهَا إِلاَّ أَهْلُهَا، فَقَالَ: إِنَّهُمْ أَحْدَثُوا فِيهَا شَيْئاً لاَ أَشْتَهِيه، قَالَ حَنَانٌ: فَسَأَلْتُ نَصْرَانِيّاً، فَقُلْتُ لَه: أَيَّ شَيْءٍ تَقُولُونَ إِذَا ذَبَحْتُمْ؟ فَقَالَ: نَقُولُ بِاسْمِ الْمَسِيحِ([121]).

والرواية صحيحةٌ سنداً، كما ذكرنا.

ولا يوجد في الرواية ما يفيد الحرمة؛ حيث قال «إنهم أحدثوا شيئاً لا أشتهيه».

ثانياً: روى محمد بن يعقوب الكليني، عن عَلِيِّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ حَنَانِ بْنِ سَدِيرٍ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى أَبِي عَبْدِ الله×، أَنَا وأَبِي، فَقُلْنَا لَه: جَعَلَنَا الله فِدَاكَ، إِنَّ لَنَا خُلَطَاءَ مِنَ النَّصَارَى، وإِنَّا نَأْتِيهِمْ فَيَذْبَحُونَ لَنَا الدَّجَاجَ والْفِرَاخَ والْجِدَاءَ، أفَنَأْكُلُهَا؟ قَالَ: فَقَالَ: لاَ تَأْكُلُوهَا، ولاَ تَقْرَبُوهَا؛ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ عَلَى ذَبَائِحِهِمْ مَا لاَ أُحِبُّ لَكُمْ أَكْلَهَا، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا الْكُوفَةَ دَعَانَا بَعْضُهُمْ، فَأَبَيْنَا أَنْ نَذْهَبَ، فَقَالَ: مَا بَالُكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَّا ثُمَّ تَرَكْتُمُوه الْيَوْمَ؟ قَالَ: فَقُلْنَا: إِنَّ عَالِماً لَنَا× نَهَانَا، وزَعَمَ أَنَّكُمْ تَقُولُونَ عَلَى ذَبَائِحِكُمْ شَيْئاً لاَ يُحِبُّ لَنَا أَكْلَهَا، فَقَالَ: مَنْ هَذَا الْعَالِمُ؟ هَذَا والله أَعْلَمُ النَّاسِ، وأَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ الله، صَدَقَ والله، إِنَّا لَنَقُولُ بِاسْمِ الْمَسِيحِ×([122]).

والرواية صحيحة السند، كما أشَرْنا، وهي مرويّةٌ عن حنان أيضاً.

وفيها: لاَ تَأْكُلُوهَا ولاَ تَقْرَبُوهَا؛ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ عَلَى ذَبَائِحِهِمْ مَا لاَ أُحِبُّ لَكُمْ أَكْلَهَا. ولولا التعليل الذي في هذا المقطع كان يمكن أن يفيد الحرمة، ولكنْ مع التعليل واللحن المستعمل فيها في قوله: «ما لا أحبّ لكم أكلها» يمكن المناقشة بإفادتها للحرمة.

ثالثاً: عن عبد الملك بن عمرو قال: قلتُ لأبي عبد الله×: ما تقول في ذبائح النصارى؟ فقال: لا بأس بها، قلتُ: فإنهم يذكرون عليها المسيح، فقال: إنما أرادوا بالمسيح الله. ورواه الصدوق بإسناده عن عبد الملك بن عمرو، مثله.

وهذا الحديث ضعيفٌ بكلا طريقَيْه؛ بعبد الملك بن عمرو؛ إذ اختلفوا فيه بين مَنْ يوثِّقه ومَنْ يبقيه مجهولاً.

وعلى أيّ حالٍ، مع توثيقه تكون الرواية صحيحةً، وتفيد عدم البأس ولو ذكروا اسم المسيح عليها.

رابعاً: عن أبي بصير قال: سألتُ أبا عبد الله× عن ذبيحة اليهودي؟ فقال: حلالٌ، قلتُ: وإنْ سمّى المسيح؟ قال: وإنْ سمّى المسيح؛ فإنه إنما يريد الله([123]).

وقد أُحصي لهذا الحديث ستّ طرقٍ. ويوجد تردُّدٌ في أبي بصير، كما أشَرْنا سابقاً. ومع توثيقه فهي تفيد نفس ما أفادته الرواية السابقة.

والنتيجة: يبدو من مجموع الروايات أن ذكرهم للمسيح عليها لا يجعلها غير مذكّاةٍ، وإنْ كان يجعلها مكروهةَ التناول.

سادساً: خلاصةٌ واستنتاج

وبهذا يمكن اختتام بحث اشتراط إسلام الذابح لتذكية الذبيحة، والذي يُعتبر من القضايا التي وقعَتْ فيها اختلافاتٌ عديدة في الروايات، وأوجبَتْ ذكر سلسلة من الحلول، كان السائد منها حمل روايات الترخيص في ذبيحة أهل الكتاب على التقيّة، كما تبين من خلال المبحث الأول الذي تعرَّضنا إليه؛ لكنْ ظهرت أيضاً في المسألة آراء أخرى، منها: حلِّية ذبيحة أهل الكتاب مطلقاً، أو حلِّيتها مع إحراز التسمية.

وعليه جرى البحث في أدلّة اشتراط إسلام الذابح لتذكية الذبيحة كما يلي:

أوّلاً: تمّ تحديد الآيات محلّ الدلالة. وقد ظهرت وفق ذلك ثلاث مجموعات من الآيات، تمّ عرضها، ومناقشة دلالاتها، وتمّ التوصّل إلى أن شروط التذكية الواردة في القرآن الكريم متعلّقة بفعل الذابح والذبيحة، ولكنْ لا يوجد أيّ شرطٍ متعلّق بالذابح نفسه.

ثانياً: حدَّدنا الروايات الموجودة في المقام، ثمّ صنّفناها بحَسَب موضوعها تحت عشرة عناوين أساسيّة. وقد جرى في كلّ عنوان مناقشة الروايات الموجودة، سنداً ودلالةً، وتحقيق مدلولاتها.

ثالثاً: من خلال التحليل العامّ للراويات ظهرت مقارباتٌ ثلاثة للحلّ، ومنها: كون المدار في التذكية هو التسمية، وليس اشتراط إسلام الذابح، وقد جرى عرض عددٍ من الشواهد على ذلك.

رابعاً: جرى إثبات إجزاء التسمية بالمسيح لتذكية الذبيحة، كما ورد في بعض الروايات.

الهوامش

(*) باحثٌ وأستاذٌ في الحوزة العلميّة. من لبنان.

([1]) الشيخ البهائي العاملي، حرمة ذبائح أهل الكتاب: 66؛ الشيخ المفيد تحريم ذبائح أهل الكتاب: 6

([2]) المقنعة: 579

([3]) النهاية ونكتها: 3: 81.

ذهب الشيخ الطوسي إلى أن الذباحة لا يجوز أن يتولاها غير المسلمين؛ فمتى تولاها كافر من أيّ أجناس الكفار كان، يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً أو عابد وثن، سمّى على ذبيحته أو لم يسمّ، فلا يجوز أكل ذبيحته. ومن المسلمين لا يتولاها إلا أهل الحقّ؛ فإن تولاها غير أهل الحق، ويكون ممن لا يعرف بعداوة لآل محمد^، لم يكن بأس بأكل ذبيحته؛ وإنْ كان ممَّنْ ينصب لهم العداوة والشنآن لم يجز أكل ذبيحته. وهذا الكلام يعطي إباحة أكل ذبيحة المخالف إذا لم يكن ناصباً.

([4]) الانتصار: 188.

([5]) الشيخ حمزة بن عبد العزيز الديلمي، المراسم العلوية في الأحكام النبوية: 211.

([6]) الشهيد الأول، الدروس الشرعية في فقه الإمامية 2: 410، حيث قال: «فلا يحلّ ذبيحة الوثني، سمعت تسميته أو لا. وفي الذميّ قولان، أقربهما التحريم».

([7]) المحقق الأردبيلي، مجمع الفائدة 11: 69، حيث قال: «وشرطه الإسلام أو حكمه، فلا تحلّ ذبيحة الكافر، وإنْ كان ذمياً، ولا الناصب».

([8]) المحقق السبزواري، كفاية الأحكام 2: 582.

([9]) الفيض الكاشاني، مفاتيح الشرائع 2: 195.

([10]) الكافي في الفقه: 277؛ المراسم: 209؛ إصباح الشيعة: 381؛ فقه القرآن 2: 250؛ الجامع للشرائع: 382؛ قواعد الأحكام 2: 153؛ تحرير الأحكام 2: 158؛ الدروس الشرعية 2: 410؛ التنقيح الرائع 4: 17؛ ابن حمزة، الوسيلة: 361؛ القاضي ابن البرّاج، المهذّب 2: 440.

([11]) ابن إدريس الحلي، السرائر 3: 106

([12]) العلاّمة الحلّي، مختلف الشيعة 8: 295.

([13]) المصدر نفسه.

([14]) الشيخ البهائي العاملي، حرمة ذبائح أهل الكتاب: 62.

([15]) الشهيد الثاني، مسالك الأفهام 11: 452.

([16]) المصدر السابق 11: 456. وعلى أيّ حال فلا خروج عما عليه معظم الأصحاب، بل كاد أن يعدّ هو المذهب، مضافاً إلى ما ينبغي رعايته من الاحتياط.

([17]) المحقق النراقي، مستند الشيعة 15: 382.

([18]) الكافي في الفقه:: 277.

([19]) الفيض الكاشاني، مفاتيح الشرائع 2: 169.

([20]) السيد الطباطبائي، تفسير الميزان ١٢: ٣٦٥.

([21]) المصدر السابق ٧: ٣٣٢.

([22]) المصدر السابق ٥: ٢٠٨.

([23]) الشيخ المفيد، تحريم ذبائح أهل الكتاب: 25.

([24]) السيد الطباطبائي، تفسير الميزان ٥: ٢٠٤.

([25]) الشيخ المفيد، تحريم ذبائح أهل الكتاب: 6.

([26]) ابن زهرة الحلبي، غنية النـزوع: 44 ـ 85؛ علي بن محمد القمي، جامع الخلاف والوفاق بين الإمامية وبين أئمة الحجاز والعراق: 28.

([27]) الشيخ الجواهري، جواهر الكلام 6: 43.

([28]) المحقق الأردبيلي، زبدة البيان في أحكام القرآن: 633.

([29]) موقع السيد كمال الحيدري، بحوث في طهارة الإنسان، درس 37 (بتصرّف).

([30]) الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنـزل ٣: ٦١٢ (بتصرّف).

([31]) السيد الطباطبائي، تفسير الميزان ٥: ٢٠٣.

([32]) الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنـزل ٣: ٦١٢.

([33]) المصدر نفسه.

([34]) أحمد بن فارس بن زكريا(395هـ)، معجم مقاييس اللغة، 3: 410.

([35]) ابن منظور(711هـ)، لسان العرب 12: 363.

([36]) محمد بن أبي بكر الرازي، مختار الصحاح: 207.

([37]) ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ﴾.

([38]) ينقل عنه السيد كمال الحيدري، في بحوث في طهارة الإنسان، درس 36 (بتصرف)؛ كتابه تفسير تسنيم 22: 50.

([39]) الشريف المرتضى، الانتصار: 403.

([40]) العلاّمة الحلّي، أجوبة المسائل المهنائية: 71.

([41]) المحقق الأردبيلي، زبدة البيان في أحكام القرآن: 634.

([42]) المحقق البحراني، الحدائق الناضرة 5: 169.

([43]) الفيض الكاشاني، مفاتيح الشرائع 2: 169.

([44]) موقع السيد كمال الحيدري، بحوث في طهارة الإنسان، درس 37 (بتصرف).

([45]) السيد الطباطبائي، تفسير الميزان ٥: ٢٠٤.

([46]) المصدر السابق ٥: ٢٠٣.

([47]) الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنـزل ٣: ٦١٢.

([48]) السيد محمد باقر الصدر، شرح العروة الوثقى 3: 284 (بتصرف).

([49]) أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة 2: 20.

([50]) حسن المصطفوي، التحقيق في كلمات القران الكريم 2: 316 ـ 318.

([51]) الشيخ الكليني، الكافي 6: 240.

([52]) المصدر نفسه.

([53]) الشهيد الثاني، مسالك الأفهام 11: 456.

([54]) الشيخ الكليني، الكافي 6: 240.

([55]) الشهيد الثاني، مسالك الأفهام 11: 456 (بتصرف).

([56]) الشيخ الكليني، الكافي 6: 240.

([57]) المصدر نفسه.

([58]) الطوسي، تهذيب الأحکام ۹: 6۷.

([59]) السيد الخوئي، معجم رجال الحديث، ج15، حيث يقول: «القاسم بن محمد الجوهري. فاستدلّ على وثاقته بوجوه: الأوّل: إن ابن داود شهد بوثاقة القاسم بن محمد الجوهري غير الواقفي، فهو وإنْ أخطأ في اعتقاد أن الثقة غير الواقفي، إلاّ أنه بشهادته بالوثاقة يؤخذ بها، ويحكم بوثاقة القاسم بن محمد الجوهري؛ لما تحقق من الاتحاد، وأنه رجلٌ واحد.

والجواب: إن شهادة ابن داوود غير مسموعة؛ لأنها مبتنية على الحَدْس والاجتهاد، كما هو الحال في شهادة غيره من المتأخِّرين.

الثاني: إن ابن أبي عمير وصفوان رويا عنه (الكافي ١: 113، باب مولد أمير المؤمنين×، ح٦؛ والتهذيب، ج٧، باب تفصيل أحكام النكاح، ح١١٣٥)، وهما لا يرويان إلاّ عن ثقة.

والجواب: إن الصغرى وإنْ كانت صحيحة، فإن الموجود في الكافي وإنْ كان القاسم بن محمد من غير تقييدّ، إلا أن المراد به الجوهري؛ بقرينة أن المروي عنه هو عبد الله بن سنان. كما أن الموجود في التهذيب غير مقيّد، إلاّ أن المراد به الجوهري؛ بقرينة المروي عنه، وهو أبو سعيد المكفوف. على أن هذه الرواية بعينها رواها في الكافي، عن محمد بن خالد، عن القاسم بن محمد الجوهري، عن أبي سعيد. وقد تقدَّمت. لكنّ الكبرى غير صحيحة، كما مرّ غير مرّةٍ.

الثالث: إنه كثير الرواية، وقد روى عنه الأجلاّء. والجواب عن ذلك تقدَّم أيضاً».

([60]) فأما العارضة من النُّوق أو الشّاءِ فإنها التي تُذبح لشيء يعتريها.

وقال:

بيدَيْ كلِّ هَضومٍ ذى نَفَلْ *** من شواءٍ ليس مِن عارضةٍ

وهذا عندنا مما جُعِل فيه الفاعلُ مكانَ المفعول؛ لأنَ العارضة هي التي عُرِض لها بمَرَضٍ، كما يقولون: سرٌّ كاتم. ومعنى عُرِض لها أنَّ المرض أعْرَضَها، وتوسَّعُوا في ذلك حتى بنوا الفعل منسوباً إليها، فقالوا: عَرِضَتْ. (معجم مقاييس اللغة 4: 279).

([61]) الطوسي، تهذيب الأحکام ۳: ۲۳۲.

([62]) المصدر السابق ۹: 70.

([63]) المصدر السابق ۹: ٦٦.

([64]) المصدر السابق ۹: ۷۰.

([65]) الطوسي، الاستبصار في ما اختلف من الأخبار 4: ۸٥.

([66]) المصدر السابق 4: ۸٥.

([67]) المصدر السابق 4: 8٦.

([68]) الطوسي، تهذيب الأحکام ۹: ۷۰.

([69]) قرب الإسناد: ٣٢٦، الثاقب في المناقب: ٨٠، ح٦٣، مجمع البيان ٩: ٢٠٤، إعلام الورى: ٣٥، سنن الدارمي ١: ٣٢، سنن أبي داوود 4: 173 ـ 174، ح4510، مستدرك الحاكم 4: 109، سنن البيهقي 8: 46.

([70]) الشهيد الثاني، مسالك الأفهام 11: 456.

([71]) الشيخ الكليني، الكافي 6: 240.

([72]) الطوسي، تهذيب الأحکام ۹: 68.

 ([73]) الطوسي، الاستبصار في ما اختلف من الأخبار 4: 84؛ الطوسي، تهذيب الأحکام ۹: 6۸.

([74]) الصدوق، من لا يحضره الفقيه ۳: ۳۳۱.

([75]) المصدر السابق ۳: ۳۳۰.

([76]) قرب الإسناد ۱: ۲۷5.

([77]) الطوسي، الاستبصار في ما اختلف من الأخبار 4: ۸5.

([78]) الطوسي، تهذيب الأحكام ۹: 6۹.

([79]) المصدر نفسه.

([80]) الطوسي، الاستبصار في ما اختلف من الأخبار 4: ۸۱.

([81]) الشيخ الكليني، الكافي 6: 240.

([82]) المصدر نفسه.

([83]) المصدر نفسه.

([84]) المصدر نفسه.

([85]) المصدر نفسه.

([86]) المصدر نفسه.

([87]) المصدر نفسه.

([88]) الشهيد الثاني، مسالك الأفهام 11: 456.

([89]) تفسير القمي ۱: ۱6۲.

([90]) الشيخ الكليني، الكافي 6: 240.

([91]) المصدر نفسه.

([92]) ما خلا ذبايحهم.

([93]) الطوسي، تهذيب الأحکام ۹: 65.

([94]) العلاّمة الحلي، تذكرة الفقهاء (ط.ق) 1: 220.

([95]) المصدر السابق 2: 646.

([96]) سنن البيهقي 9: 284.

([97]) الفاروق: 183، مؤسّسة دلتا للمعلومات والأنظمة.

([98]) كنـز العمال 4: 509، ح11507.

([99]) كنـز العمال 4: 514، ح11519.

([100]) الفاروق: 842، مؤسسة دلتا للمعلومات والأنظمة.

([101]) الطوسي، الاستبصار في ما اختلف من الأخبار 4: ۸۳.

([102]) مسالك الأفهام، الشهيد الثاني 11: 456.

([103]) المصدر نفسه.

([104]) الشيخ الكليني، الكافي 6: 240.

([105]) الطوسي، تهذيب الأحکام ۹: 6۸.

([106]) الصدوق، من لا يحضره الفقيه ۳: ۳۳۰.

([107]) الطوسي، الاستبصار في ما اختلف من الأخبار 4: ۸۲.

([108]) موقع معجم أحاديث الرجال:

http://qadatona.org/%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A/%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%AC%D8%A7%D9%84/1163

([109]) الطوسي، الاستبصار في ما اختلف من الأخبار 4: ۸۲.

([110]) الشهيد الثاني، مسالك الأفهام 11: 456.

([111]) النوري، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل ۱6: ۱5۰.

([112]) قال أبو الحسن×: إني أنهاك عن ذبيحة كلّ مَنْ كان على خلاف الذي أنتَ عليه وأصحابك، إلاّ في وقت الضرورة إليه.

([113]) الشهيد الثاني، مسالك الأفهام 11: 456.

([114]) المصدر نفسه.

([115]) العلامة المجلسي، ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار 14: 262.

([116]) السيد محمد حسين فضل الله، تفسير من وحي القرآن، ج5، سورة المائدة، استرجع من موقعه:

http://arabic.bayynat.org.lb/HtmlSecondary.aspx?id=5698

([117]) الطوسي، الاستبصار في ما اختلف من الأخبار 4: 84؛ الطوسي، تهذيب الأحکام ۹: 6۸.

([118]) الشيخ الكليني، الكافي 6: 240.

([119]) المصدر نفسه.

([120]) المصدر نفسه.

([121]) المصدر نفسه.

([122]) المصدر نفسه.

([123]) الطوسي، الاستبصار في ما اختلف من الأخبار 4: ۸5.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً